مقالات

ما معنى الزهد في الدنيا؟

المعنى اللغوي للزهد هو عدم الرغبة في الشيء و احتقاره و الاعراض عنه، و لقد قال الله عَزَّ و جَلَّ في قصة النبي يوسف عليه السلام: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ 1، أي أنهم باعوا يوسف الصديق بما هو دون القيمة السوقية المتعارفة بالنسبة إلى العبيد معرضين عن القيمة المثلية المتعارفة، لأنهم كانوا يريدون التخلص من يوسف خوفاً من إنكشاف الحقيقة.

و لقد حثَّت النصوص الدينية الإنسان على الزهد في الدنيا و عدَّته من مكارم الاخلاق، و أنه مفتاح الخير، و وسيلة للحصول على الحكمة.
لكن معظم الناس خطأً فَهِموا أن الزهد هو ترك الدنيا، و أن الرهبانية و الزهد بمعنى واحد، غير أن هذا الفهم ليس صحيحاً أبداً و يَنُمُّ عن فهم ساذج و عدم معرفة بالدين الإسلامي.

الزهد الحقيقي

الزهد الحقيقي هو أن لا تجعل الدنيا و ملذاتها هدفاً لنفسك فتسعى للحصول عليها بأي ثمن كان و بأي وسيلة ممكنه، بل إجعل الدنيا وسيلة للوصول إلى الحياة الأخروية السعيدة و الخالدة، و كن على حذر شديد من الاقتراب من الحرام الذي نهى الله عنه، و عليك بالزهد و الاعراض عن كل ما يُبعدك عن الله و عن عبوديته الخالصة، محتقراً كل ملذات الدنيا و زخارفها ـ رغم الاستفادة منها ـ فيما لو شكلت أمامك مانعاً و عقبة تحجزك عن الوصول إلى مرضاة الله، و أشغلتك عن ذكر الله و مناجاته، و هذا هو الزهد الحقيقي الذي هو وسيلة المؤمن للوصول إلى الدرجات العالية، و هو الذي دعا اليه الإسلام، و ليس المقصود بالزهد ترك الدنيا و إختيار الرهبانية، بل المقصود توظيف الدنيا و جعلها وسيلة للوصول إلى مرضاة الله.
قَالَ رسول الله صلى الله عليه و آله: ” الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا: قَصْرُ الْأَمَلِ، وَ شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَ الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ” 2.
و قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ … ﴾ 3، وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ” 4.
و هذا زين العابدين و سيد الساجدين علي بن الحسين عليه السلام يجسد المعنى الحقيقي للزهد في مناجاته لرب العالمين حيث يقول: ” إلهي … وَ أَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَ مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَ مِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ” 5.
و قَالَ الامام الصَّادِقُ عليه السلام: “الزُّهْدُ مِفْتَاحُ بَابِ الْآخِرَةِ وَ الْبَرَاءَةُ مِنَ النَّارِ، وَ هُوَ تَرْكُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يَشْغَلُكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَأَسُّفٍ عَلَى فَوْتِهَا وَ لَا إِعْجَابٍ فِي تَرْكِهَا وَ لَا انْتِظَارِ فَرَجٍ مِنْهَا وَ لَا طَلَبِ مَحْمَدَةٍ عَلَيْهَا وَ لَا غَرَضٍ لَهَا، بَلْ تَرَى فَوْتَهَا رَاحَةً وَ كَوْنَهَا آفَةً وَ تَكُونُ أَبَداً هَارِباً مِنَ الْآفَةِ مُعْتَصِماً بِالرَّاحَةِ، وَ الزَّاهِدُ الَّذِي يَخْتَارُ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَ الذُّلَّ عَلَى الْعِزِّ وَ الدُّنْيَا، وَ الْجُهْدَ عَلَى الرَّاحَةِ، وَ الْجُوعَ عَلَى الشِّبَعِ، وَ عَافِيَةَ الْآجِلِ عَلَى الْمِحْنَةِ الْعَاجِلِ، وَ الذِّكْرَ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَ تَكُونُ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا وَ قَلْبُهُ فِي الْآخِرَة” 6.

  • 1. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 20، الصفحة: 237.
  • 2. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 74 / 163 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
  • 3. القران الكريم: سورة الحديد (57)، الآية: 23، الصفحة: 540.
  • 4. نهج البلاغة : 554 ، طبعة صبحي الصالح.
  • 5. الصحيفة السجادية الكاملة : 326 ، طبعة مؤسسة الأعلمي ، بيروت/لبنان، و بحار الأنوار (الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام)): 91 / 151، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، المولود بإصفهان سنة: 1037، و المتوفى بها سنة: 1110 هجرية، طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت/لبنان، سنة: 1414 هجرية.
  • 6. مصباح الشريعة: 137، طبعة الاعلمي بيروت سنة: 1400 هجرية.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى