البَاحث: سَلَام مَكيّ خضيّر الطَّائي.
الحمد لله ربّ العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمرسلين أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين واللعن الدَّائم على أعدائهم وناكري مكانتهم ومغتصبي حقِّهم إلى قيامِ يوم الدِّين.
أمَّا بعد…
فإنّ من الأمور المُهمّة التي نبّهت الشّريعة الإسلامية على الابتعاد عنها، وحذّرت من حبّها والتَّولّع والتَّعلَّق بها هي: (الدّنيا)، فهذا الحُبّ يجعل من الفرد لا يفكّر ماذا يحدث غداً يوم الورود ويصبح شغله الشَّاغل هو حبّه للدّنيا الدَّنية، لكونها زائلة وغير خالدة الوجود، وعند التَّتبّع لكلام النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) ولكلام عترته الطَّاهرة (عليهم السَّلَام) نجده مليئاً بالأقوال التي تصف لنا الدنيا وتحذّر من حبها والتعلّق والغرور بها، وما يترتّب عليها من آثار، إلَّا إذا كان ذلك حُبّ الفرد للدنيا لكي يعمل الأعمال الصَّالحة التّي تُرضي الله تعالى، ورسوله، وآل بيته الأطهار (عليه وعليهم أفضل الصَّلَاةِ والسَّلَام)، كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (ليس من حبّ الدّنيا طلب ما يصلحك)[1].
فمن الأقوال التي تدلّ على ما تقدّم من كلام بخصوص موضوعنا هذا نجده في أقوال الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام)، فمنها أنّه (عليه السَّلَام) يبيَّن لنا: إنّ الفرد إذا لم يحبّ الدّنيا بشكلٍ كبير ويتعلَّق بها، يكون أقل عرضة للوقوع في المشاكل، ولكن إذا حصل العكس أي إذا ازداد حبّه وولهه في الدّنيا فبهذا تزداد مساحة المشاكل والمحن لتحلّ به؛ بسبب انشغاله عن ذكر الله عزَّ وجلّ، إذ روي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): ( مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُه ومَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُه)[2].
ومن أقواله (عليه السَّلَام) التي تصف لنا الدّنيا: (الدّنيا معدن الشّر ومحل الغُرور)[3]، فهنا نفهم من كلامه (عليه السَّلَام) أنَّه يحذّرنا من حب الدّنيا، فوصفها لنا أنَّه منبع الشَّر وهذا الشَّر ينتج عن حبّها والتّعلّق بها، ومن تعلَّق بالدّنيا أصبح همّه كيفية التَّمتّع بها وينسى أنَّه زائل والدّنيا زائلة أيضاً، وحتى حبّه لها أنَّه ممكن أن نقول يبتعد تأدية بعض الواجبات الشَّرعية المترتّبة عليه وأيضاً قد تؤثّر على علاقاته الاجتماعية مع عائلته وأقاربه، فهذا من شرِّ الأمور التي تنتج عن حب الدّنيا، فيصبح حبّه في هذه الحالة من أكبر الكبائر إن استمر الفرد في التقصير في تأدية ما يترتّب عليه من واجبٍ وأمرٍ شرعي، فروي عن الرَّسول الأكرم في هذا الشَّأن: (أكبر الكبائر حبّ الدّنيا)[4]، وقال الإمام جعفر بن مُحَمَّد الصَّادق (عليهما السَّلَام): (رأس كلّ خطيئة حبّ الدُّنيا)[5].
وأيضاً أنَّ ما روي من كلامٍ يُنبّه ويحذّر من حب الدّنيا والوله بها وذلك؛ لأنَّه يُعد بداية كلّ شرّ وهو آفة تؤثر سلباً في المجتمع كما وصف الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) ذلك بقوله: (رأس الآفات الوله بالدّنيا)[6]، وإنّ حبّها يكون بداية كل ما يحدث في المجتمع من فتن ومشاكل تؤدّي إلى تفكّك العائلة الواحد، وتهدم اساس بناء تلك العائلة، وكذلك بداية كل شرّ، وليس هذا فقط ّ بل إنَّ حبّها يؤدي إلى الانشغال والتفكير بها وهذا من أساسيَّات المحن والمصائب التي تحلّ بالفرد، فروي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (حبّ الدّنيا رأس الفتن وأصل المحن)[7].
فهذا تحذير واضح من حبّ الدّنيا والتّعلّق والغرور بها، وإنّه لا يوجد عمل أكثر ضرر على الفرد من أن يلقى الباري سبحانه في يوم القيامة من الحبّ والتَّعلّق بالدّنيا والانزلاق في مكائدها، فروي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): (إنّك لن تلقى الله سبحانه بعمل أضرّ عليك من حبّ الدّنيا)[8].
الآثار السّلبية لحبّ الدّنيا:
وإنّ من الآثار التي تنتج عن حبّ الدّنيا والغُرور بها وانشغاله عن الأمور الشّرعية التي كُلّف بها، ونلاحظ إنَّ الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) يؤكّد على رفض الدّنيا وترك زينتها وعدم الغرور بها، وذلك لما يترتَّب على ذلك من أمور وآثار تؤثّر سلباً على الفرد ويعمي قلبه عن ذكر الله عزَّ وجلّ، فروي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): (فارفض الدّنيا، فإنّ حبّ الدّنيا يعمي)[9]، وكذلك أنَّ يجعل الفرد يهمّ بالأمور الدّنيوية الزَّائلة والأمور التي تشغله عن أداء واجباته الشّرعية ولا يجعله يفكّر بغيرها، ومن الممكن أن يؤدِّي هذا التعلّق إلى إراقة ماء الوجه وإذلال النّفس، وذلك للحصول على أمرٍ من دنيوي، فروي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) أنّه قال: (فإنّ حبّ الدّنيا …يصم ويبكم ويذل الرّقاب)[10]، وكذلك أنّ من تعلَّق قلبه بحبّ الدّنيا وشهواتها ممّا يجعل عقل الفرد محجوباً عن ذكر الله عزَّ وجلّ، وهذا ما روي أنَّ الله تعالى قال لداود(عليه السَّلَام): (يا داود، احذر القلوب المعلّقة بشهوات الدّنيا، فإنّ عقولها محجوبة عنّي)[11]، وأيضاً أنّ من الآثار التي تنتج عن حبّ الدّنيا أنَّه يفسد عقل الفرد ويجعل القلب ينفر يبعد عن الحكمة ممَّا يؤدّي به هذ إلى حلول العقاب الأليم عليه يوم القيامة، فروي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): (حبّ الدُّنيا يُفسد العقل، ويُصم القلب عن سماع الحكمة، ويُوجب أليم العقاب)[12].
وإنّ الحديث عن حبّ الدّنيا والغرور بها وآثاره كبير جداً ولكن هذا شيء مختصر عنه، والله تعالى الموفق إلى مرضاته، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق أجمعين أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين واللعن الدَّائم على أعدائهم ما بقيت وبقي الليل والنَّهار إلى قيامِ يوم الدِّين.
الهوامش:
[1] ميزان الحكمة لمحمّد الرّيشهري:2/ 896.
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) تحـ: صبحي الصَّالح: 165.
[3] ميزان الحكمة لمحمّد الرّيشهري:2/ 895.
[4] كنز العمَّال، للمتَّقي الهندي: 3/184.
[5] الوافي، للفيض الكاشاني: 5/ 889.
[6] مسند الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام)، لحَسَن القبّانجي:9/92.
[7] المصدر نفسه: 9/ 92.
[8] ميزان الحكمة لمحمّد الرّيشهري:2/ 896.
[9] الكافي، للكُلَيني:2/ 136.
[10] المصدر نفسه:2/ 136.
[11] ميزان الحكمة لمحمّد الرّيشهريّ:2/ 897.
[12] مستدرك الوسائل، حُسين النّوري الطّبرسيّ:12/ 41.
المصدر: http://inahj.org