سوف يسجل علينا التاريخ الحديث والمعاصر أن العرب والمسلمين كانوا من بين الأمم التي فوتت عليها فرص الاستفادة من تقدم العالم، وهي الفرص التي غيرت وجهة العالم، وأحدثت أعظم تحول في بنية الاجتماع الإنساني، وقلبت منظورات الرؤية إلى العالم، وأطلقت معها موجات متتالية من التغيرات المؤثرة.
فمع مطلع القرن العشرين حصلت في أوروبا ما عرف بالثورة الصناعية الكبرى التي قلبت صورة أوروبا، وجعلت منها مركز الصناعة في العالم، وتغيرت اقتصادياتها، وتراكمت ثرواتها، وتبدلت أنماط العيش والحياة فيها، ومثلت هذه الثورة حدثا كبيرا مدويا على مستوى العصر، حدثا تنبهت إليه المجتمعات والأمم الحية في العالم، لكنها التجربة التي مرت علينا ومضت من دون أن نتوقف عندها، ونستفيد منها.
ومرت علينا التجربة اليابانية على عظمتها، وظلت تثير وما زالت دهشة العالم، تجربة أخذت من الغرب ما تستطيع، لكنها فلتت منه ولم تقع في استلابه وتبعيته، وقدمت نموذجا ينتمي إلى الشرق وثقافته وتراثه، وهذا ما أثار دهشة وحنق الغربيين، لكننا لم نتعلم من هذه التجربة، ولم نستفد منها.
ومرت علينا كل تلك التحولات والتطورات العلمية والتقنية المدهشة والمتعاظمة التي شهدها الغرب واليابان من بعد تلك الثورة الصناعية، ولم تحدث تغيرا حقيقيا في تطوير حياتنا العلمية والتقنية.
وتمر علينا اليوم مع العولمة ثورة المعلومات وما سمي بانفجار المعرفة، والتطورات المذهلة في مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية، ونحن لا نملك إلا أن نظهر الخوف والشك والقلق، وإذا كان من المبرر أن نخاف، إلا أن هذا الموقف بالتأكيد ليس كافيا على الإطلاق، فهو موقف الضعيف الفاقد للثقة بالذات.
وردا على هذا الموقف نقدا وتفكيكا، تعمدت التساؤل حول لماذا لا تكون العولمة مكسبا لنا؟ السؤال الذي جاء شارحا لكتابي (الإسلام والعولمة) الصادر سنة 2010م.
وتمر علينا اليوم كذلك نهضة الصين الصاعدة بهدوء وثبات ومن دون ضجيج، والتي يراقبها الغربيون بنوع من الحذر، خوفا من أن يتحول مركز العالم من الغرب إلى الشرق، فماذا نحن أخذنا وتعلمنا من هذه التجربة!
هذه الفرص العظيمة والمدهشة التي مرت على العالم في أزمنة متعاقبة، وكسبت احترام وتقدير البشر على تعدد واختلاف ألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم وأديانهم، هذه الفرص كنا نحن العرب والمسلمين بأمس الحاجة إليها، وكان المفترض منا الانفتاح عليها، والتفاعل معها، والاقتراب منها، والاتصال بها، ليس بصورة مؤقتة وإنما بصورة مستمرة، وليس بطريقة عفوية وعابرة وإنما بطريقة مدروسة وممنهجة، وليس بذهنية تجزيئية ومفككة وإنما بذهنية شاملة ومركبة.
وما زلنا إلى اليوم في حاجة لهذه الفرص، وسنظل في حاجة مستمرة إليها، وذلك في إطار حاجتنا إلى التقدم، والذي ينبغي أن يتحول إلى منظور رؤيتنا إلى العالم، المنظور الذي يجعلنا نفتش وننقب بكفاح ومكابدة عن فرص وتجارب النهوض والتقدم في الميادين كافة، ومهما كان نوعها ودرجتها، ونحاول الوصول إليها أينما كانت قريبة أو بعيدة، سواء كانت غربا في أوروبا، أو شرقا في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، أو شمالا في أمريكا وكندا والبرازيل، أو جنوبا في جنوب إفريقيا، أو في أي مكان آخر.
ولا حرج على الإطلاق في هذا الجانب، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وتجارب النهوض والتقدم هي من مصاديق هذه الحكمة، ولعلها من أوضح وأبلغ هذه المصاديق.
والحكمة لا تأتي إلينا، وإنما نحن الذين نذهب إليها ونفتش عنها، وهي لا تعظنا وتعلمنا إذا نحن لم نتعظ منها ونتعلم، كما أن الحكمة هذه لا تتحدد بمكان أو زمان، ولا تتقيد بموضوع أو مجال، وهي تعني انتخاب الصالح والأصلح في كل شي له قابلية الأثر والاقتباس والتطبيق.
ويتأكد هذا المنحى كذلك، مع قاعدة التلازم بين السير والنظر في الأرض، التي نص عليها الخطاب القرآني في آيات عدة، منها قوله تعالى:﴿ … فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ … ﴾ 1
فالسير في الأرض هو للنظر وليس للتلهي، وعلى امتداد الأرض أفقيا وعموديا، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وليس في جزء من الأرض، أو في اتجاه واحد، أو في مكان معين منها.
ما أود التأكيد عليه أننا بحاجة لأن نستعيد مفهوم التقدم، ونتخذ منه منظورا لرؤيتنا إلى العالم، على أمل أن نغير في أحوالنا البائسة، وأن نوقف الانحدار المستمر الذي نحن عليه كمسلمين، ومن هنا ينبغي أن يتقدم سؤالنا: ماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟2
- 1. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 43 و 44، الصفحة: 439.
- 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 15 ذو القعدة 1436هـ / 30 أغسطس 2015م، العدد 15416.