في شهر رمضان وخصوصاً في الليالي العشر الأخيرة منه حيث يستقبل الإنسان المسلم الصائم ليلة القدر الشريفة المباركة ، لابدّ أن تكون الطاعات التي وفّق لها ، والعبادات التي أرهق نفسه في أدائها ، معراجاً له إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يردّ سائله ولا يخيب آمله .
بعد ذلك يمهّد الإنسان المؤمن نفسه للدخول في ليلة القدر ، واستقبال ما فيها من رحمة إلهيّة منشورة ، وفضل ربّاني كبير استعداداً لتجاوز العقبات ، وخصوصاً عقبة تغيير النفس .
إنّ ليلة القدر هي بلا شكّ ليلةٍ مباركة ؛ فهي الوسيلة الى تكامل الشخصية ، وتغيير النفس .
فرصة التغيير
ونحن عندما ندخل هذه الليلة الشريفة نمتلك الفرصة ، ونعوذ بالله من أن تتحوّل هذه الفرصة إلى غصّة ، ونعوذ بالله من يوم لا ينفع فيه الندم . ففي خلال هذه الليلة ينتهي الجزء الأكبر من شهر رمضان ولا يبقى منه إلاّ القليل ، فلنستعن بالله تعالى ، ولنسأله التوفيق بإلحاح ، ولنطلب منه أن يجعل أيّامنا في هذا الشهر وما تبقّى من أيّامه أيّام تغيير وإصلاح لأنفسنا كما يقول عز وجل : ﴿ … إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 1 وأن يجعلها أيّام غفران ، وأيّام أملٍ وتطلع الى الدرجات العلى ، وأيّام نسيان الذات والإحسان الى الآخرين ، وأيّام إحداث تحوّل حقيقي في نفوسنا .
فقد خلق الله سبحانه وتعالى في كل واحد منّا طاقات كبيرة علينا أن لا نغفل أهميّتها ، وأن لا ننظر إلى أنفسنا نظرة الآخرين إليها . فنحن قد خلقنا للبقاء لا للفناء ، ولنكون عباد الله ، لا لنكون عبيد الشيطان .
استراتيجية شاملة
ومن أهم الأفكار التي ينبغي أن أشير إليها فيما يتعلق بليلة القدر المباركة هي ضرورة أن يغيّر الإنسان رؤيته الى نفسه ، وبتعبير آخر أن يضع استراتيجية شاملة لتحركه في الحياة ، فالكثير من الناس ـ للأسف الشديد ـ لا يفكّرون إلاّ في كيفية قضاء حاجاتهم المادية ، وإشباع أهوائهم وغرائزهم ، فيقصرون تفكيرهم على أمور هامشيّة تافهة ، ولكنّهم لا يفكّرون ولو للحظة واحدة في القضايا المصيرية الحساسة التي خلقوا من أجلها ، ولا يعمدون إلى رسم استراتيجية عامة وواضحة لأنفسهم في الحياة . وربما يشير الحديث الشريف القائل : “تفكّر ساعة خير من عبادة سنة” 2 . إلى ضرورة أن يرسم الإنسان لنفسه الاستراتيجية الواضحة لحياته من خلال هذا التفكّر .
إنّ الإنسان المؤمن ينال في هذا الشهر الكريم الأجر والثواب ، والإنسان الغافل ينال العقاب . الإنسان المؤمن يصنع لنفسه وجوداً في الجنّة ، والإنسان الغافل يبني لها سجوناً في النار ، وكلّ ذلك يعود الى طبيعة الاستراتيجية التي يرسمها لنفسه في الحياة .
ما نطلبه في الدعاء
وعلى هذا ؛ فإنّ المهمّ أن يتفكّر الإنسان ، وأن يضع الاستراتيجية المستقيمة لنفسه ، وأن يحدّد المطالب التي يريدها من الله سبحانه وتعالى القائل : ﴿ … ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ 3 .
هناك من الناس من يبكي في ليلة القدر ، ويتوسّل الى الله عزّ شأنه ، وتحصل عنده حالة الخشوع والخضوع ، ولكن من أجل مطالب ثانوية بسيطة .
وبالطبع فإنّه لا بأس أن يدعو الإنسان الله تبارك وتعالى ليحقّق له بعض الأمور الدنيوية ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : “سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم ، حتى شسع النّعل فإنه إن لم ييسّره يتيسّر” 4 . ولكنّنا بالاضافة الى ذلك علينا أن نطلب من الخالق تحقيق الأمور المصيرية المهمّة ، ومن جملتها العقل . فعقل الإنسان ضعيف ومحدود ، ولذلك جاء في الدعاء عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : “الهي نفسي معيوب ، وعقلي مغلوب ، وهواي غالب” 5 . فلنطلب منه عز وجل الكرامة للعقل . فلو فكّر الإنسان في أموره وقام بها بتعقّل لمنحه ربّه خير الدنيا والآخرة ، ولذلك جاء التأكيد على العقل في الكثير من الآيات القرآنية مثل :
﴿ … إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ 6 .
﴿ … وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ 7 .
ثبات الإيمان
وبعد العقل علينا أن نطلب من الله الإيمان ، فنحن ندعي الإيمان ولكنّ إيماننا هذا سطحيّ ، والمطلوب منّا أن نحوّله الى إيمانٍ راسخ يقاوم التحديات ، ويبقى رغم ضغوط الحياة ويصمد أمام كلّ شهوة ، ويتحدّى كلّ معصية ، ويبقى مع الإنسان الى الأبد كما يقول تعالى : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ 8 .
إذاً علينا أن نطلب هذا الثبات في الإيمان بإلحاح من الله تعالى في ليلة القدر ؛ وبعد الإيمان علينا أن نطلب من الله اليقين ، فإيماننا يجب أن يبلغ درجة اليقين الذي ليس فوقه درجة أخرى .
إقرأوا “مكارم الأخلاق”
وأخيراً لنطلب من الله جل وعلا الأخلاق الحسنة الرفيعة ، كالصدق والوفاء وطمأنينة النفس والسكينة أو الاستقامة . . . وما إلى ذلك من جذور وأسس للأخلاق الحسنة . وهنا أدعو الأخوة والأخوات إلى قراءة دعاء مكارم الأخلاق في ليلة القدر ، والوقوف عند فقرات هذا الدعاء الشريف الذي يبتدئ بهذه العبارة : “اللهم صل على محمد وآله وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان . . .” 9 . فعندما نقرأ هذه الفقرة – مثلاً – علينا أن نفكّر ونتدبّر فيها ثم نطلب بعد ذلك من الله حقيقة المعاني الواردة ، وحينئذ سيعطينا الله تعالى ما نريد .
وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، أنه جاء في رسالة له إلى جماعة من شيعته وأصحابه : “أكثروا من الدعاء ، فان الله يحب من عباده الذين يدعونه ، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة” 10 . وبالطبع فانّ الله تعالى يسمعك بمجرّد ان تدعوه الدعوة الأولى ، ولكنّه يحبّ أن يسمع صوت الإنسان وهو يدعو . فهو يحبّ أن يتضرّع العبد إليه وأن يسأله . وبالطبع فإنّ كل شيء بحسابه ، فعندما يترك الله عز وجل الإنسان يدعوه لمرّات عديدة فانّه سيعطيه في النهاية ما يريد ؛ بل ويزيد عليه كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : ﴿ … وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ … ﴾ 11 .
موسم الغفران
ومن المهم في هذه الليلة المباركة أن نطلب من الله غفران الذنوب بنيّة صادقة ، وقلوب مخلصة . فمجرّد ترديد عبارات من مثل : “اللهم اغفر ذنوبي” لا يكفي ، بل على الإنسان أن يحاول إحصاء ذنوبه التي ارتكبها خلال حياته لكي يستشعر الخجل والحياء من نفسه ، وإلاّ فانّ عند الله سبحانه وتعالى قائمة بذنوبنا كلّها حتى تلك التي نسيناها والتي يشير إليها القرآن الكريم في قوله : ﴿ … أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ … ﴾ 12 .
فمن المؤكد أنّنا قد نسينا وغفلنا عن الكثير من الذنوب التي ارتكبناها ، ولكنّنا عادة ما نتذكّر أعمال الخير . فنتذكّر ـ على سبيل المثال ـ كم مرّة صلّينا صلاة الليل ، أما عدد المرات التي لم نصلّ فيها صلاة الصبح ـ مثلاً ـ فهذا ما ننساه عادة ، وكذلك اغتيابنا للآخرين . .
وفي ليلة القدر المباركة ليحاول كلّ واحد منّا أن يسجّل جميع أعماله السيئة ، وإن كانت قليلة ، فكلّما تذكّرنا ذنباً من ذنوبنا ، وندمنا عليه ، وقرّرنا في أنفسنا أن لا نعود إليه ، فلنعرف أنّه قد غُفر لنا . أمّا إذا ردّدنا عبارات الاستغفار وما زالت في نفوسنا الرغبة إلى أن نعود إلى ذلك الذنب فإنّه لا يمكن أن يغفر .
طلبات دنيوية
وبالإضافة إلى تلك المطالب الروحيّة والمعنويّة التي يجب علينا أن نطلبها من الخالق عز وجل ، لا بأس في أن ندعوه تعالى أن يحقّق لنا بعض الأمور الدنيويّة التي من شأنها أن تخدم الأمور الروحيّة ، ومنها :
1 ـ الصحّة ؛ فعلينا أن نطلب من الله جلّت قدرته دوماً الصحة والعافية ، لأن العافية بتمامها وكمالها توفّر للإنسان الفرصة لأن يقوم بالكثير من الأعمال . وعلينا لكي ندرك قيمة هذه النعمة أن ننظر إلى أولئك الراقدين في المستشفيات ، والذين يعانون من الأمراض والآلام في أجسامهم حيث لا يستطيعون القيام بالأعمال التي يستطيع الأصحّاء القيام بها . فعلينا أن نشكر الله تعالى على تمام العافية وسلامتها ، وأن نبرمج حياتنا على أن لا نقوم بالأعمال التي تضرّ بصحّتنا ؛ أي أن ننظّم حياتنا بشكل نحافظ فيه على صحّتنا .
2 ـ علينا أن نطلب من الله عز وجل أن يرزقنا الزوجة الصالحة ، والأولاد الصالحين . ففي كثير من الأحيان يبتلى الإنسان بقلّة الراحة ، فيكون معذّباً طيلة حياته ، وحتّى لو كنّا متـزوّجين فإنّ من الواجب علينا أن نطلب من الله تعالى أن يصلح ما بيننا وبين أزواجنا وأولادنا .
3 ـ كذلك يجدر بنا أن ندعو الله تعالى ليمن علينا بالأمن والأمان ، وأن يحفظنا من كل مكروه .
4 ـ وأيضاً ندعو الله تبارك وتعالى ليمنحنا الغنى دون بطر وطغيان .
إن هذه صور من التطلّعات المشروعة في حياتنا ، فلنطلب من الله تبارك وتعالى الأمور المهمّة تاركين الأمور الهامشيّة والجزئيّة ، وعلينا أن نطلب ذلك بإلحاح ضمن يقين مسبق بأننا لا نتوجّه إلى باب مغلق ، بل إلى رحمة واسعة وربّ غفور كريم ، لا يزيده العطاء إلاّ جوداً وكرماً ، فهو يعطينا ويزيد في عطائنا .
وعلينا أن لا ننسى في دعائنا المؤمنين والمؤمنات كما ورد التأكيد على ذلك في الأدعية الشريفة .
ولندع الله عزّ شأنه ملحّين أن يوفّقنا لأن ينصر دينه بنا ، وأن يجعلنا مّمن ينتصر بهم لدينه الحنيف . وهذا توفيق عظيم لا يناله إلاّ المخلصون في العبادة والدعاء ، فأن يكون الإنسان جندياً من جنود الله تعالى ، فهو شرف عظيم ووسام رفيع .
وبعد ؛ فقد ذكرت نماذج مّما ينبغي للانسان المؤمن أن يطلبه من الله جلّت قدرته ، في ليلة القدر ، وأنا أرجو أن يجعل تعالى هذه الليلة بالنسبة إلينا ليلة نقفز فيها قفـزات حقيقية ، ونرتفع في المستويات الإيمانية . . فمن المفروض أن نجعل شهر رمضان المبارك شهر التقدّم نحو الأمام ، وشهر العروج والتكامل والتغيير ، وأن لا ندعه يمرّ كما يمرّ أيّ شهر آخر ، وهذا كلّه يرتبط بهمّتنا ، وإرادتنا ، ومدى صدقنا في هذه الهمّة والإرادة 13 .
- 1. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 250 .
- 2. بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 327 .
- 3. القران الكريم : سورة غافر ( 40 ) ، الآية : 60 ، الصفحة : 474 .
- 4. ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 251 .
- 5. مفاتيح الجنان ، دعاء الصباح ، ص 62 .
- 6. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 249 .
- 7. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 460 .
- 8. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 99 ، الصفحة : 267 .
- 9. الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام .
- 10. بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 294 .
- 11. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 32 ، الصفحة : 83 .
- 12. القران الكريم : سورة المجادلة ( 58 ) ، الآية : 6 ، الصفحة : 542 .
- 13. من كتاب : ليلة القدر معراج الصالحين ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي .