﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ 1
توقف المفسّرون التابعون لمذهب أهل البيت عليهم السلام طويلاً عند كلمة (تنـزّل) التي هي في الأصل (تتنـزّل) . فهي كلمة تدلّ على الاستمرار ، لأن صيغة المستقبل والمضارع لا تدلّ على المستقبل فحسب ، وإنّما تدلّ على حالة الاستمرار والتداوم والتواصل .
وعند هذه الكلمة تتبيّن ميـزة عظيمة يتميّز بها مذهب أهل البيت عليهم السلام عن كلّ المذاهب . فبينما ترى الديانات القائمة اليوم والمذاهب المعاصرة أنّ الاتصال بين ربّ العباد وأهل الأرض قد تمّ في فترات محدّدة تأريخياً ثم انقطع ؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أناساً يزعمون ان الاتصال بين السماء والأرض قد انقطع بعد مقتل عيسى عليه السلام ـ حسب زعمهم ـ وهكذا الحال بالنسبة إلى اليهود الذين يرون أنّ هذا الاتصال قد انقطع منذ أربعة آلاف سنة .
هذا في حين أنّ مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي يمثّل جوهر الإسلام نراه يتميّز بانّه يؤمن أن هذا الاتصال ما يزال قائماً وسيظلّ قائماً إلى يوم الدين . فهناك في كل عام ليلة هي ليلة القدر ، تتنـزّل فيها الملائكة على حجة الله فوق الأرض ، والذي هو الإمام المهدي الحجة بن الحسن عجل الله فرجه . فمذهبنا يؤمن أنّ الأرض لا يمكن أن تخلو من حجّة ، وأنّ الله تبارك وتعالى لا يترك الأرض سدىً ، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم .
صحيح أنّ الإمام عليه السلام مغيّب، ولكنّ حجاب الغيبة لا يمنع آثار الخير والبركة . فأثر الرسول صلى الله عليه وآله في أمّته لم يكن أثراً مادّياً فحسب ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ … ﴾ 2فمجرد وجود الرسول صلى الله عليه وآله بين أمّته هو رحمة ، وتبليغه للدعوة هو إضافة لهذه الرحمة . ونحن نعلم أنّ الله عزّ وجل لم ينـزل العذاب على قوم إلاّ بعد أن أمر رسوله أن يترك قومه .
فوجود الإمام الحجة عليه السلام في هذه الأرض يمنع عنها النكبات والنقمات وعذاب الاستئصال ، وهذا هو واحد من أبعاد أثره ، وهناك أبعاد أخرى لا ندركها رغم انّها موجودة ، وملموسة الآثار .
وأهل البيت عليهم السلام يأمروننا ان نستدلّ بسورة القدر على استمرار التواصل بين الأرض والسماء . فحجّة الله تعالى في هذه السورة بالغة علينا ، فهو عز وجل يصرّح بانّ الملائكة تتنـزّل في ليلة القدر . ومعنى التنـزّل الإنزال على شكل مراحل ، وفي نهاية الآية تفسير وبيان لما تتنـزّل به الملائكة وهو الذي يشير إليه تعالى في قوله :﴿ … مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ 3.
ما هو الروح ؟
وقبل أن نقف قليلاً عند هذه الكلمة لابدّ من وقفة أخرى عند قوله عزّ من قائل :﴿ … الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ … ﴾ 3. فالظاهر من هذه الآية أنّ الملائكة شيء ، والروح شيء آخر ، لأنّ الشيء لا يمكن أن يُعطف على نفسه . وعلى هذا ؛ فإنّ الروح غير الملائكة ، فمن هم ، ولماذا ينـزلون في ليلة القدر ، وهل يمثّلون شخصاً واحداً أم أشخاصاً متعدّدين ؟
لقد اختلف المفسّرون كثيراً في تفسير هذه الآية ، فمنهم من قال إنّ الروح يمثّل إشراف الملائكة ، وقال بعضهم بل إنّ الروح هو شخص جبرائيل عليه السلام ؛ أي الروح الأمين ، ولأنّه يتنـزّل في هذه الليلة فقد خصّه الله عز وجل بالذكر للإشارة الى ميزته وخصوصيّته .
الآثار العملية للايمان بالملائكة
ومما يجب على كلّ واحد منّا الإيمان بالملائكة ، فهم وسائل رحمة الله ، وسبل مواهبه . كما أنّ من الواجب علينا أن نحبّ جبرائيل عليه السلام كما نحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، لأن حبّ الملائكة يدفعك الى أن تتشبّه بصفاتهم ، وتقترب من أعمالهم وأفعالهم . فالآيات القرآنية التي تذكّرنا بالملائكة ، لا تذكّرنا عبثاً ، بل لكي يجري في داخلنا تحوّل باتجاههم .
ولأننا ينبغي أن نضمر الحب للملائكة ، فانّه من الواجب علينا أن نصلح أنفسنا وواقعنا لكي تتنـزّل الملائكة على بيوتنا . فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر فيه الله ، ويتدارس العلم ، والبيت الذي يعمّه الخير والفضيلة والحبّ وكان منبعاً للإحسان الى الناس ، هذا البيت تتنـزّل فيه الملائكة .
أما البيت الذي يمتلئ غيبة ونميمة وتهمة وسوء ظن وريـاءً وغناءً وطرباً . . فانّ الملائكة لا تقترب منه ، وعندما تبتعد الملائكة تحلّ الشياطين .
فلنعش مع الملائكة ولنكنّ الاحترام والتقدير لهم دائماً ، ولنحاول أن نكرّس في أنفسنا حبّهم .
(الروح) غير الملائكة
ها هي أحاديث أهل البيت عليهم السلام تصرّح أن الروح هو صنف آخر غير الملائكة ، بل هم خلق أعظم من الملائكة ومن جبرائيل نفسه وميكائيل وإسرافيل . ويظهر من بعض الروايات أن إسرافيل هو أقرب الملائكة الى الله سبحانه وتعالى ، وهناك روايات أخرى تفيد أنّ جبرائيل هو الأقرب . ولكنّ الذي يبدو من مجمل الروايات أنّ إسرافيل هو أقرب الملائكة ، لأنّه آخر ملك يبقى بعد قيام الساعة . ومع ذلك فإنّ إسرافيل ليس بأعظم من الروح ، وهذا الروح على عظمته يتنـزّل على الإمام الحجة عليه السلام ، وهنا يمكننا أن نعرف جانباً من عظمة الإمام المهدي عجل الله فرجه ، بل جانباً من عظمة الإنسان عندما يعبد الله عز وجل حق عبادته بحيث يصل الى درجة يتنـزّل فيها الروح عليه . فالإنسان المخلوق من لحم ودم يصبح بفضل الله في مستوىً ينـزّل فيه الروح عليه .
وعلى هذا الأساس ؛ فانّ الروح هو خلق من خلق الله جل ثناؤه ، وأنّه يؤيّد به ملائكته . فاذا ما سمعنا أنّ جبرائيل يسمّى بـ (الروح) فلأنّ الله يؤيّده به كما يؤيّد نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسائر الأنبياء ، ويؤيّد كذلك المؤمن الصالح من روحه . وأقصد بالروح هنا (النور) ؛ أي أنّه يؤيّده تأييداً عينيّاً بالروح . فالروح يتلقّى النور من الله جل وعلا ، ومنه ينبعث الى الملائكة ؛ أي أنّ الله يؤيد كلاًّ من الملائكة والرسل بالروح .
وفي الحيقيقة ؛ فانّ هذه هي الروح التي سألوا النبي صلى الله عليه وآله عنها ، وأشار إليها تعالى في قوله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ … ﴾ 4فجاءهم الجواب : ﴿ … قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ 4. وهي نفسها الروح التي قـال عنها عز من قائل :﴿ … وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ … ﴾ 5. وأخيراً هي الروح التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة القدر قائلاً : ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا … ﴾ 3.
(فروح القدس) هو خلق أعظم من الملائكة ، وبواسطته تؤيّد الملائكة والأنبياء والصالحون ، ومن خلالها أيضاً تؤيّد أرواحنا الموجودة في أجسامنا .
الخط الفاصل بين الشرك والتوحيد
وفي قوله تعالى﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ … ﴾ 3فكرة دقيقة ، وأشارة لطيفة الى الخطّ الفاصل بين الشرك والتوحيد ؛ فالمشركون كانوا يزعمون أنّ في الكون قوىً فاعلة غير الله سبحانه وتعالى ؛ أي أنّهم كانوا يزعمون أنّ هناك حالة من الانفصام والتناقض بين الملائكة ، وبين الله تعالى شأنه ، ولذلك فإنّ فكرة الشفاعة عندهم كانت تنبع من هذه الزاوية . فكانوا يتوهّمون أنّ الملائكة تحتمّ على الله تقدّست أسماؤه الشفاعة ، فإذا اذنبوا ذنباً لا يرضى الخالق عنه ، فإنّ الملائكة تفرض على الله تعالى أن يغفر لهم ذنوبهم!
أمّا الإسلام ؛ فيرى أنّ الملائكة عبادٌ لله لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ـ كما قال القرآن ـ وهذه هي عقيدتنا في الأنبياء عليهم السلام أيضاً ، فهم عظماء ولكنّهم عبيد الله أمام الله . وهذه العقيدة هي الحدّ الفاصل بين الشرك والتوحيد . فلنا الحق في أن نعتقد بالإنسان أنه مؤمن وعالم ومجاهد . . ولكن ليس لنا الحق مطلقاً في أن نعتقد أنّه متّصل اتصالاً مباشراً بالله سبحانه وتعالى . فالعبد مهما ارتفع ، ومهما تقرّب الى الله ، فانه لا يستطيع أن يصل إليه ، لانّ الله خالق وهو مخلوق ، والمسافة بين الخالق والمخلوق تبقى موجودة دائماً . ولذلك فإنّ القرآن الكريم لم يطرح مطلقاً مفهوم (الاتّصال المباشر بالله) ، بل طرح مفهوم (التقرّب) لكي يبقى الخالق خالقاً ، والمخلوق مخلوقاً .
ويقول تعالى : ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ … ﴾ 3فعلينا أن نتوقّف عند مثل هذا التعبير ﴿ … بِإِذْنِ رَبِّهِمْ … ﴾ 3، فالملائكة لا تسبق ربّها بالقول ، بل هي وسائل . فالتوجّه الأوّل يجب أن يكون الى ربّ هذه الملائكة ، لا إلى الملائكة نفسها .
أمّا بالنسبة إلى عبارة ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ 6. فالسلام يعمّ أرجاء هذه الليلة ، وأيّ سلام أعظم من إرسال الله عز وجل ملائكته إلى الانسان ، هذا العبد المحدود ، الموجود الضعيف ، المخلوق من عجل ، الهلوع . . . يبعث الله له سلاماً ، ويرسل له الملائكة والروح ، ولكنّ الشقيّ من يحوّل هذا السلام الى عذاب ، فيسلّم عليه ربّه ولا يجيبه ، ويدعوه الى ضيافته فلا يقبل دعوته!!
كلمة الى الشباب
وهنا أوجّه حديث الى الشباب بالخصوص ، وأطلب منهم أن يعوّدوا أنفسهم على الممارسات العباديّة من تعبّد وتهجّد وخضوع ؛ وعلى سبيل المثال فإن قراءة دعاء (أبي حمزة الثمالي) جنّة من الخطايا والتعلّق بالدنيا . فمن المفروض في الشاب المسلم أن يتقرب إلى الله سبحانه ويشعر أنّه يتحدّث مع الخالق ، وأنّ الخالق يتحدّث معه ، وفي هذا ا لمجال يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : “وأنّ الراحل إليك قريب المسافة ، وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك ، وقد قصدت إليك بطلبتي ، وتوجهت إليك بحاجتي ، وجعلت بك استغاثتي ، وبدعائك توسلي من غير استحقاق لاستماعك مني” 7 .
إن شهر رمضان يمثّل فترة زمانية محدودة لا تلبث أن تنتهي ، وفي السنين القادمة لا نعرف هل سنكون من الأحياء أم الأموات . فعلينا أن نحذر من التسويف في استغلال هذا الشهر المبارك العظيم ، وأن نترك الممارسات التي لا طائل من ورائها من مثل الحضور في المجالس التي ترتكب فيها الذنوب والمعاصي ، والأحاديث التي تشغل الإنسان عن ذكر الله عز وجل . فعلينا أن نحذر من أن نفسد صيامنا بمثل هذه الأعمال التي ترين على القلب ، وتجعل الإنسان قاسياً لا يخشع عند الدعاء لقوله تعالى :﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 8.
فلنطهّر قلوبنا ، ولنحذر من أن نخرج من شهر رمضان كما دخلنا فيه . فلقلقة اللسان لا يمكن أن تنفع ، بل علينا أن نستشعر الندم الحقيقي على ذنوبنا ، وأن نعزم عزماً راسخاً على تركها ، وأن لا نعمد إلى تبرير ذنوبنا فنضاعفها ، ويحرمنا الله جلّ وعلا من المغفرة .
شهر رمضان ولادة جديدة
وهناك من الناس من يدخلون في شهر رمضان وهم مليئون بالذنوب ، ولكنّهم يخرجون منه وكأنهم ولدوا من جديد ، فتصبح قلوبهم وأنفسهم طاهرة نقية . ولكن هناك آخرين لا يغتنمون حتى ليالي الجمع ، فما بالك بليلة القدر ؟!
إن مثل هذه الأوقات ـ وفي طليعتها ليلة القدر ـ قد خصّصت أساساً لأن ينشغل الإنسان في العبادة والتهجّد والدعاء وذكر الله ، وتصحيح مسار النفس ، وتحديد الذنوب ، والتفكير في المستقبل والتخطيط له . فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليدخلنا نار جهنم ، بل لكي يستضيفنا في الجنة ، ويغدق علينا من فضله ، ويوفّقنا الى رضوانه الذي هو غاية ما يجب أن يطمح إليه الإنسان المؤمن في حياته 9 .
- 1. القران الكريم: سورة القدر (97)، من بداية السورة إلى الآية 5، الصفحة: 598.
- 2. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 33، الصفحة: 180.
- 3. a. b. c. d. e. f. القران الكريم: سورة القدر (97)، الآية: 4، الصفحة: 598.
- 4. a. b. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 85، الصفحة: 290.
- 5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 87، الصفحة: 13.
- 6. القران الكريم: سورة القدر (97)، الآية: 5، الصفحة: 598.
- 7. مفاتيح الجنان ، دعاء أبو حمزة الثمالي المروي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام .
- 8. القران الكريم: سورة المطففين (83)، الآية: 14، الصفحة: 588.
- 9. من كتاب : ليلة القدر معراج الصالحين ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي .