العفو الذي دعا الله عَزَّ و جَلَّ الناس اليه كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 1 ، إنما هو في الأمور الفردية و الشخصية و بشروط من أهمها وجود المصلحة في العفو .
أما العفو بالنسبة لما يرتبط بحقوق الآخرين أو بالنسبة إلى الحقوق العامة كأموال المسلمين و بيت المال و مصالحهم أو الأمور التي لو عُفي عن المجرم تسبب في ضياع الحقوق أو تغيير الحقائق أو حصول إنحراف في عقائد الناس فلا مجال للعفو فيها.
قال الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان : “وَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ” 2.
و كانت جارية لعليّ بن الحسين عليهما السلام تسكب عليه الماء فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها فقالت الجارية: إنّ اللّه تعالى يقول: ﴿ … وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ … ﴾ 1.
فقال: “كظمت غيظي”.
قالت: ﴿ … وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … ﴾ 1.
قال: “عفوت عنك”.
قالت: ﴿ … وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 1.
قال: “اذهبي فأنت حرّة لوجه اللّه تعالى” 3.
فاطمة الزهراء بوصلة الحق و الحقيقة
السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام جعلها الله معياراً لمعرفة الحق و الحقيقة فلا يجوز لها التسامح و العفو عن الظالمين حتى يلتبس الأمر على الناس ، حيث قال عنها رسول الله صلى الله عليه و آله : ” إن الله ليغضب لغضبك و يرضى لرضاك ” 4.
و هذا الحديث رواه الحاكم النيسابوري 5 في مستدرك الصحيحين ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
و في صحيح البخارى – كتاب فرض الخمس – باب أداء الخمس من الدين الجزء : ( 4 ) – رقم الصفحة : ( 42 ) الحديث رقم : 2926 ، حدثنا : عن عروة ابن الزبير أن عائشة أخبرته : أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و آله سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه و آله مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : أن رسول الله صلى الله عليه و آله ، قال : لا نورث ما تركنا صدقة فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.
فالزهراء عليها السلام بغضبها في مواضع عديدة أرادت أن تبين موقفها بوضوح تام حتى يكون ذلك حجة على من أراد الحقيقة ، و يُعرف ذلك أيضاً من وصيتها لعلي عليه السلام في دفنها ليلاً و إخفاء موضع قبرها لتسجل استنكارها المستمر تجاه غاصبي الخلافة و غاصبي حقوقها حتى يكون موقفها واضحاً جلياً ، فلا يبقى مجال للعفو في مثل هذه الحالة .
و مما تجدر الاشارة اليه هنا أن عدداً ممن إهتدوا إلى الحقيقة و إلى اختيار مذهب اهل البيت عليهم السلام كان السبب الأهم في استبصارهم هو الموقف الذي اتخذته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، فقد ألف الكاتب المستبصر عبد المنعم حسن بعد استبصاره كتاباً أسماه : “بنور فاطمة اهتديت” ، و هو كتاب جدير بالقراءة لكل من يريد معرفة حقيقة ما جرى بعد وفاة الرسول المصطفى صلى الله عليه و آله .
- 1. a. b. c. d. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 134، الصفحة: 67.
- 2. نهج البلاغة: 57، طبعة صبحي الصالح.
- 3. إعلام الورى بأعلام الهدى: 1 / 491 ، لأمين الإسلام الطبرسي، المتوفى سنة: 548 هجرية.
- 4. المستدرك على الصحيحين: 3 / 154.
- 5. هو محمد بن عبد الله بن حمدون أو (حمدويه) ابن نعيم بن الحكم الضبي النيسابوري ، و كنيته أبو عبد الله ، إشتهر بالحاكم النيسابوري ، كما و يُعرف بابن البيع .
إمام أهل الحديث في عصره و من كبار المصنفين فيه و هو من أعلم الناس بصحيح الحديث و تمييزه عن سقيمه .
ولد بنيسابور و رحل إلى العراق سنة 341 هجرية ، و حج و جال في بلاد خراسان و ما وراء النهر و أخذ عن نحو ألفي شخص .
في سنة 359 هجرية ، ولي قضاء نيسابور و لُقب بالحاكم لتوليه القضاء مرة بعد مرة ، ثم اعتزل منصبه ليتفرغ للعلم و التصنيف .
صنف كتبا كثيرة منها : تاريخ نيسابور ، المستدرك على الصحيحين ، الإكليل ، المدخل إلى علم الصحيح ، تراجم الشيوخ ، فضائل الشافعي ، و غير ذلك . توفي عن 84 عاماً .