في مارس 2010م كنت أتحدث في مكتبة الإسكندرية حول المستقبل العربي، موضوع الجلسة الختامية لمؤتمر: (عالم يتشكل من جديد.. أين دور العرب؟)، وختمت حديثي بالإشارة لعنوان كتاب لفت انتباهي، من تأليف الرئيس التشيكي السابق الأديب فاسلاف هافل (مباح لنا الأمل)، وقلت نحن أيضا مباح لنا الأمل.
وفي أبريل 2011م نشرت مقالة بعنوان: (العالم العربي لم يعد خارج التاريخ)، صورت فيها أن العالم العربي قد تغير وتغيرت معه صورته ناظرا ومنظورا إليه، وبدأ يسطر صفحات جديدة، صفحات كانت إلى وقت قريب تمثل حلما بعيدا، أو حلما ضائعا، أو حلما مفقودا، لكنه بات اليوم حلما واقعا وملموسا، نعيشه ونحسه وكأننا نستعيد الروح من جديد.
واعتبرت في هذه المقالة أن العالم العربي لم يعد خارج التاريخ، كما نعاه الكاتب المصري الدكتور فوزي منصور في كتابه (خروج العرب من التاريخ) الصادر سنة 1990م، النعي الذي تردد بسهولة في وقته على ألسنة الكثيرين، لكنه النعي الذي توقفنا عن ترديده، فقد عادت الشعوب العربية إلى التاريخ، وعاد التاريخ إليها، وبدأت هذه الشعوب تكتب تاريخا جديدا، وأصبحت تسجل لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ المنطقة والعالم، وبات العالم يتحرك على إيقاع حركتها، ويتأثر بنبضاتها، وكأن التاريخ أصبح له ميعاد معنا.
لكنني اليوم وللأسف الشديد قد انقبلت عندي هذه الرؤية، وتغيرت بل وانكسرت كذلك، فالعالم العربي بعد أن كان في طريقه إلى التغيير والإصلاح، وبعد أن وجد بصيص أمل بمستقبل جديد، فإذا به ينتكس وبسرعة غير معهودة، ويرتد إلى الوراء تراجعا وتأخرا، وينحدر إلى وضع خطير بات مرعبا ومخيفا لعله الأسوء في تاريخه الحديث أو خلال القرن الأخير.
والأمر المحير أن العالم العربي الذي طالما انتظر التغيير وطال أمده، وكان بأمس الحاجة إليه، ومن شدة الانتظار تحول إلى حلم بعيد عند البعض، ومستحيل عند آخرين الذين غلبهم اليأس والإحباط، وحينما حان ميعاده تحول التغيير إلى كارثة، وانقلب الإصلاح إلى نكسة، وتبدل الحلم، وانسد الأمل بالمستقبل القريب، وكأن التاريخ غير مجراه معنا، وأغلق أبوابه في وجهنا، وغادرنا سريعا على غير عادته.
وبات العالم العربي اليوم يقدم أسوأ صورة عن نفسه في الداخل والخارح، وظهر أمام العالم وكأنه ساحة نزاعات وصراعات وحروب وانقسامات، تعمه الفوضى، وتحاصره الاضطرابات، وتشتد فيه وتتعاظم نزعات التعصب والتطرف والتحجر، وأخذ البعض يتحدث عن أن العالم العربي يتفكك، وهناك من يصفه بالانهيار، إلى جانب من يشبه حالنا بحال العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، إلى غير ذلك من أوصاف وتوصيفات تعددت وتكاثرت، وجميعها تتسم بالتشاؤم والإحباط.
ولسنا الوحيدين الذين نحمل عن منطقتنا مثل هذه الانطباعات القاتمة، فقد انتقلت إلى غيرنا وعبرت بين الأمم والمجتمعات، ففي مارس 2013م حذر وزير الخارجية الألمانية السابق يوشكا فيشر من أن هذه المنطقة هي عرضة لخطر التحول إلى بلقان القرن الحادي والعشرين، وفي أكتوبر 2015م أعلن مدير الإستخبارات الفرنسية برنار جوليه أن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وهكذا هي الانطباعات والتقديرات القاتمة عن هذه المنطقة.
ومن وجه آخر، يتصل بعالم الرواية، جاء الأديب الجزائري واسيني الأعرج بروايته المثيرة من عنوانها (2084 حكاية العربي الأخير)، ليعن فيها أن العربي بات يمثل كائنا مهددا بالانقراض، وقبله ومن وجه آخر يتصل بعالم المدنية، أعلن الشاعر السوري أدونيس في حوار له مع صحيفة الشرق الأوسط سنة 2009م، أعلن أن العرب انقرضوا، وكان يقصد انقراضهم بوصفهم طاقة تسير في موكب الإنسانية الخلاقة، وليس لكونهم أعدادا بشرية.
وعلى طريقة تساؤل شكيب أرسلان في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ سوف نتساءل: لماذا نجحت أوروبا الشرقية في العبور الآمن إلى التغيير وفشل العرب؟ وبصيغة أخرى: لماذا نجح ربيع أوروبا الشرقية وفشل ربيع العرب؟
وعلى هذا النمط وفي هذا السياق، يمكن أن نتساءل كذلك: لماذا تقدمت كوريا الجنوبية ولم يتقدم العرب؟ ولماذا تقدمت سنغافورا ولم يتقدم العرب؟ ولماذا تقدمت ماليزيا ولم يتقدم العرب؟ ولماذا تقدمت الهند ولم يتقدم العرب؟ ولماذا تقدمت جنوب إفريقيا ولم يتقدم العرب؟ وغدا سوف نتحدث عن تقدم دول أخرى وسنتساءل في وقتها ولماذا لم يتقدم العرب؟
هذه التساؤلات جادة، ولا بد من طرحها، والمكاشفة بها، والتركيز عليها، والنظر فيها، والتوقف عندها، بدل الانشغال في خلافات المذاهب، ونزاعات الفرق، وانقسامات الملل، والاحتباس في جدليات الماضي، والانغلاق على إشكاليات التراث، والاستغراق في جزئيات المسائل وهوامشها.
ومن المؤسف أن النتيجة التي توصلت إليها، مع أنني ما كنت متشائما، ولا أميل إلى نزعات التشاؤم، النتيجة هي أن العالم العربي لن يتقدم لا أقل على المدى المنظور، لأنه تحول إلى بيئة تتكاثر فيها وتشتد النزاعات والصراعات والانقسامات والحروب على أقسامها وأنواعها المذهبية والعرقية والجغرافية وغيرها، ومن طبيعة هذه البيئة أن تكون طاردة لقيم التقدم وشرائطه ومقتضياته، بل وتغلق أفق التقدم، وتجعله أفقا منسدا.
ولو كانت كوريا الجنوبية في هذه البيئة لما تقدمت، وهكذا الحال بالنسبة إلى سنغافورا وماليزيا والهند وجنوب إفريقيا، وفي الجانب الآخر لو كانت الصومال في جنوب شرق آسيا لكان حالها مختلفا كليا عما هي عمليه، وتقصدت الإشارة إلى الصومال لأنها تمثل شاهدا على فشل وعجز العالم العربي في حل مشكلاته، وخاصة مشكلات الصراعات والنزاعات والانقسامات!1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، السبت 16 يوليو 2016م، العدد 15737.