في آيات الذكر، وفي أحاديث السنة الشريفة نقرأ كثيراً عن الأبرار وعن البِرِّ، وهناك تقابل في الآيات الكريمة بين (الأبرار) و(الفجّار) فالابرار في جنات، أما الفجّار ففي نار جهنم:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ 1.
فما هو البِرّ؟ وكيف يصبح البعض أبراراً؟ وبأية وسيلة؟
وهنا نجد الكثير من الناس يبحث عن البِرِّ هنا وهناك، عند هذا الفيلسوف وذاك العارف والصوفي، عند هذا السياسي وتلك السياسة، عند هذه القوة أو تلك.
ولكن كل هؤلاء تائهون ضائعون، فالبِرُّ ليس عند هؤلاء ولا عند غيرهم من فئات البشر العاديين مهما أوتوا من العلم، والفلسفة، والعرفان، والسياسة، والقدرة، والمال.
ولا نحتاج لبحث طويل عميق لنعرف ما هو البِرّ، وكيف نصبح من الأبرار الذين يعدهم الله بالجنان وبالنعيم، ذلك لأننا حين نقرأ القرآن الكريم بتمعّن وتفهّم وتدبّر، فاننا عندما نصل الى الآية 177 من سورة البقرة نجد الجواب واضحاً وصريحاً وشفافاً:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ … ﴾ 2
إنَّ خارطة الطريق التي تدلك على مسيرة البِرّ لا تجدها عند المشرق والمغرب، ولا شك أنه ليس المراد من ﴿ … الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ … ﴾ 2 ما هو المتعارف اليوم من تقسيم العالم الى الشرق والغرب، فهذا تقسيم جديد، وإنما هو إشارة – حسب ما يبدو – الى الاتجاهات البشرية المختلفة، فإذا كنتَ تبحث عن السعادة، عن الأمن، عن الاستقرار، عن العقيدة السليمة، عن البرنامج الحياتي المتكامل، عن التقدم في الدنيا والفلاح في الآخرة… إذا كنت تبحث عن كل ذلك وأكثر من ذلك، فانك لا تجدها هنا وهناك، عند المدارس والاتجاهات والنظريات والمناهج البشرية، لا في المشرق ولا في المغرب، ﴿ … وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ … ﴾ 2 فالآية تستدرك وتعلن بكل وضوح أن خارطة طريق البِرّ والسعادة الأبدية، إنما هي من خلال هذا المنهج الذي فيه العقيدة والنظرية، وفيه البرنامج العملي للحياة الاجتماعية ولبناء الذات:
1-﴿ … وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ … ﴾ 2 فالبِرّ النظري هو الايمان الخالص الصافي عن كل شوائب الشرك.
الإيمان بالله (التوحيد) واليوم الآخر (المعاد) والملائكة (قدرة الله المطلقة على الكون) والكتاب (رسالة الله للانسان) والنبيين (رسل الله وسفرائه في هذه الحياة) إنها عقيدة ومتكاملة، وايمان جامع.
2-﴿ … وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ … ﴾ 2.
بعد بيان أبعاد العقيدة الكاملة، تنتقل الآية – وحتى قبل الاشارة الى الفرائض واهمها الصلاة والزكاة – تنتقل الى التكافل الاجتماعي الذي يخلق المجتمع المثالي المطلوب، والذي يركز عليه الدين بشكل خاص:
أن ينفق المال برغم حبه له وتعلقه به. هنا يتضح للانسان مدى صدقه في ادعاء الإيمان، فبإتيان المال – على حبه – وانفاقه يُثبت المؤمن صدق ايمانه.
ولكن لمن يؤتي المال؟ وهل هناك اولويات؟
نعم، الخارطة واضحة:
اولاً:﴿ … ذَوِي الْقُرْبَىٰ … ﴾ 2 فالارحام يأتون في بداية القائمة. وفي الحديث: (لا صَدَقَةَ و ذُو رَحِمٍ مُحتاجٌ).
ثانياً:﴿ … وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ … ﴾ 2 الذين هم بأمسِّ الحاجة للرعاية الاجتماعية.
ثالثاً:﴿ … وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ … ﴾ 2 الذين انقطع بهم الطريق، أو ضاق بهم الفقر حتى صاروا يسألون الناس.
رابعاً:﴿ … وَفِي الرِّقَابِ … ﴾ 2 أي تحرير العبيد والإماء، فهذا العمل من أفضل القربات عند الله تعالى عندما يكون في المجتمع عبيد وإماء.
3-﴿ … وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ … ﴾ 2.
هنا نصل إلى أهم فريضتين: الصلاة والزكاة. وهنا في هذا التسلسل دلالة هامة، وهي أنه رغم أنَّ الصلاة هي من أهم الفرائض والعبادات، الا أنه في خارطة طريق البِرِّ يأتي ذكرها بعد التركيز على التكافل الإجتماعي.
4-﴿ … وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا … ﴾ 2.
الدين يؤكد على الوفاء بالعهود، والعقود، والالتزامات، والشروط، فالمؤمنون عند شروطهم. والوفاء بالعهد من أهم الالتزامات الاجتماعية على الاطلاق.
5-﴿ … وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ … ﴾ 2.
المقاومة والتحدي في الصعوبات والمشاكل من صفات الابرار ومن أعمال البر.
فمن كانت فيه هذه الصفات والالتزامات النظرية والعملية كان من الأبرار، وكان صادقاً في ادعاء الايمان:﴿ … أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا … ﴾ 2 ليس هذا فحسب، بل هؤلاء هم من أبرز مصاديق الاتقياء:﴿ … وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ 2. فالتقوى ليس التظاهر بالخضوع والخشوع واعتزال المجتمع. بل التقوى هي البِرّ، والبِرُّ هو الايمان بمعناه الشامل، وهو التكافل الاجتماعي، وهو العبادات والفرائض، وهو المقاومة والتحدي والصبر.
- 1. القران الكريم: سورة الإنفطار (82)، الآية: 13 و 14، الصفحة: 587.
- 2. a. b. c. d. e. f. g. h. i. j. k. l. m. n. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 177، الصفحة: 27.