العلامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم (ره) 2016-10-09
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف حافظ النجف على اصالته؟؟
من غير الممكن أن يختزل تاريخ حضاري لمدينة عريقة شامخة مثل مدينة النجف الاشرف في بضع دقائق,بل أرى أن الكثير من الجوانب المشرقة المضيئة التي رفدت وترفد المسيرة الطويلة لهذه المدينة العملاقة جدير بالاهتمام والدراسة,وانطلاقا من تلك الحقيقة جاءت هذه الندوة الدراسية لتلقي الضوء على بعض تلك المحطات المضيئة,وما سيطرح من أبحاث ودراسات خلال اليومين سيثري المجتمع والتاريخ,أما أنا فأجدني مضطرا أن أتجنب خصوصيات البحث العلمي لمحدودية الوقت المتاح.
نحن أمام صرح “علي ” شامخ يمتلك عمقا تاريخيا متوازيا لحركة الرسالات السماوية ويكتسب قدسية ليحتضن أجداث الأنبياء والائمة والصالحين,واشتباكا حضاريا مع “الحيرة”ليحتضن حضارة عربية تصل التنوخيين واللخمين والمناذرة,وتداخلا مع “الكوفة” ليرسم معالم حضارة إسلامية عربية,وتألقا علميا امتد على قرابة عشرة قرون,كان رائده شيخ من مشائخ النهضة العلمية الأمامية أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي عام 448هـ .
ذلك هو النجف الاشرف,والذي قال أمير المؤمنين علي عليه السلام عن شرف أرضه:انه أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة,لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا في ظهر الكوفة .
كما تحدث عنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال :الغري,هو قطعة من الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما,وقدس عيسى تقديسا,واتخذ عليه إبراهيم خليلا,واتخذ عليه محمد حبيبا,وجعله للنبيين مسكنا,والله ماسكن فيه احد بعد آبائه الطيبين ادم ونوح أكرم من أمير المؤمنين عليه السلام .
وضم النجف من مراقد الأنبياء والمرسلين – كما اخبر الائمة الأطهار – قبور: آدم ونوح وهود وصالح .
ثم أصبح مهوى الأفئدة والقلوب بعد دفن بطل الإسلام الخالد,وإمام الفصاحة والبلاغة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فيه,ومن بعده كان”وادي السلام”في النجف مدفنا للأولياء والصالحين من المسلمين من قديم الزمان إلى يومنا هذا. ولعل الشاعر النجفي الشيخ علي الشرقي لم يجانب الحقيقة في قصيدته المشهورة,بعنوان “وادي السلام “حين يقول فيها:
عبرت على الوادي وسف عجاجه فكم من بلاد في الغبار وكم ناد
وأبقيت لم انفض عن الرأس تربه لأرفع تكريما على الرأس أجدادي
إن تشابك النجف مع الحيرة والكوفة لتكون هذه المنطقة التاريخية العريقة من يوم استوطنها إبراهيم الخليل عليه السلام وهو نازح من بابل في طريقه إلى مكة ,شعلة حضارية تمتد أصولها الوارفة إلى المجد العربي,والشموخ الإسلامي,ولترسم معالم حضارة عربية إسلامية تبقى مع الزمن تلهج بشرف الرسالات,ولغة القران الكريم,والسنة النبوية الشريفة ما امتد الزمن لتحفظ لغة العرب,وحضارة الإسلام,وتختصر التاريخ من ملحمة “كلكامش”إلى روعة “نهج البلاغة”عبر آلاف السنين,وتقتطف براعة الأقوام,في إبداعاتهم الفكرية التي كانت,ولازالت منبعا سيالا لحضارات الأمس واليوم وغد.
ولعل هذا التألق الفكري لصرح النجف برز واضحا في الجامعة العلمية الدينية التي أسسها رائدها العظيم الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي عام448هـ حتى أصبحت بفخر أحدى أربع جامعات إسلامية يعتز بها الوطن الإسلامي الكبير,وهي : جامعة القرويين في المغرب,وقد تأسست عام 245هـ ,وجامع الزيتونة في تونس والذي تأسس عام 114هـ,وانتقل التعليم به في دولة الموحدين منتصف القرن الخامس الهجري,وجامع الأزهر في القاهرة والذي أسس في عهد المعز الفاطمي عام358هـ -970م, وجامعة النجف العلمية عام448هـ – 1057م في العراق,واليوم دق عمرها أبواب الآلف عام من حين تأسيسها على يد الشيخ الطوسي.
وهناك من يرى أن النجف كانت تحتضن حركة علمية قبل انتقال الشيخ الطوسي لها استنادا إلى عدة أدلة ناقشها بعض الكتاب .
واحسب أن التوفيق بين هذين الرأيين ممكن,فان عهد الشيخ الطوسي كان عهد تأسيس الجامعة العلمية الدينية العريقة,ولكن النجف في واقعها امتداد إلى معهد الكوفة العلمي,والذي شيده الإمام علي عليه السلام,وبلغ أوجه في عهد الإمام الصادق عليه السلام,حيث أشار الحسن بن علي الو شاء إلى ذلك بقوله:أدركت في هذا المسجد[الكوفة] تسع مائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد .والكوفة كانت تعج بالحركة العلمية في عهد الإمام الصادق عليه السلام80-148هـ ,وقد أشار المؤرخ البراقي إلى الأسر العلمية التي سكنت الكوفة,من الأيام الأولى للإسلام,ولاشك أن لبعض الأسر جذور وامتداد إلى ما قبل الإسلام .
واعتقد أن الشيخ الطوسي اختار النجف بعد اضطراره لترك بغداد على اثر الفتن الطائفية لوجود أرضية صالحة ممكن تشكيل حوزة علمية فيها,لوجود علماء فيها سبقوه .ومنطقة الكوفة والحيرة والنجف متداخلة بحيث يصعب التفريق بينها- فالحيرة عاصمة المناذرة,والكوفة عاصمة الإمام علي عليه السلام ازدهرتا قبل الإسلام وبعده- والنجف شعت بين هاتين المدينتين لتمتزج بها حضارة الإسلام والعرب.
وهنا سؤالان يطرحان أمامنا,وهما:
أولا- لماذا ندوة النجف هذه ؟؟
والجواب لكل ما تقدم من عمق تاريخي,وبُعد حضاري,وتتأجج فكري يكرم هذا الشموخ العلمي الثقافي لهذه المدينة العريقة,وليس بالكثير عليها ذلك.
وثانيا ً- كيف حافظ النجف على اصالته,وسط الأعاصير القاسية الزمنية التي تجتاحها؟ولا ادعي أني املك الإجابة الكافية,ولكن في حضارتنا العربية والإسلامية معالم تحدث التاريخ عنها بإجلال,وبصم بقوة عليه,ولا يمكن للمؤرخ تجنبها,ومن هذه المعالم التي تألقت في تاريخنا القديم والحديث مُدنا ًحملت جلها تراثا ً وحضارة وفنا ً,وامتدت لتصارع العصور والدهور,وفي تاريخ عراقنا الحبيب الشواهد الكثيرة التي لمعت وأضاءت وجه العراق…
ومن تلكم المعالم المضيئة في تاريخ العراق,مدينة النجف,والحديث عن النجف,ليس حديثا ً عابرا ً عن صرح شامخ برز في مرحلة من مراحل تاريخ العراق وبقي تراثا ً يعيش عليه المؤرخون,ويتحلق حوله الباحثون,بل تاريخ النجف معلم وصرح شموخه يتسع اطرادا ً مع تقدم الزمن,لن يتوقف عن رسم بصماته وبقوة على مجمل حركة الإنسان العراقي خاصة,والمسلم عامة.فهي تنمو باستمرار واطراد تخفي بين ثنايا عمرها المديد فصولا قد يبدو على المتتبع الباحث أن حركة التاريخ قد نأت عنها وابتعدت ولكن سرعان ما تشع فيها الحياة وتدب في أوصالها الحركة وتعود عقارب الساعة لتسجل لها نموا ً واتساعا ً وهكذا,وتلك خصيصة تنفرد بها القليل من مدننا في عالمنا العربي والإسلامي .وأصبحت المدينة” التاريخية الحية” تختزن الماضي بايجابية لتواجه الحاضر بسلبياته.
كثيرا ًمن هذه المدن وبفعل التمازج الحضاري والثقافي تتفاعل وتتأثر وتنصهر حينا ًوقد تذوب في الحين الآخر,أما النجف تميزت عن تلكم وأصبحت المدينة “المنفتحة المنغلقة” تملك من الوسائل والمغريات ما يجعلها تفتح أبوابها لكل القادمين من شتى أنحاء المعمورة,وتملك من المناعات ما يجعلها منغلقة أمام عوامل الانصهار والذوبان,فهي تختزن ايجابيات الانفتاح لمواجهة سلبيات الانغلاق.
وكثيرا ً من هذه المدن وبفعل الصراع السياسي بين الدول تحجم وتصغر وربما تزول,أو تكبر.فهي بؤرة من بؤر الصراع السياسي والصراع الطائفي,وشهدت باستمرار محاولات مرعبة لطمسها وتفتيتها على مر التاريخ,وفي الجانب الآخر شهدت محاولات لرفع شانها ونصرتها.والنجف مدينة تصمد أمام عوامل التعرية وتنأى عن الكبرياء أمام عوامل القوة,فهي تختزن أسباب القوة لمواجهة عوامل الدمار.
وكثيرا ً من هذه المدن خضعت لقوانين “الصراع الاجتماعي”بين طبقات المجتمع فبدأت تتأجج حينا..وقد تطغى شريحة على أخرى بفعل هذه العوامل تاركة بصماتها علامة فارقة, أما النجف فتمكنت أن تستثمر هذا الصراع ليمنحها قوة في “التوازن الاجتماعي”,فهي تختزن القيم والعادات العربية لتجذر اصالتها لتضيف إلى مخزونها الاجتماعي ما يقيها لمواجهة هذا الصراع بايجابية وحركة .
وكثيرا ً من هذه المدن شهدت حركة علمية توجت تاريخها,غير أنها اتسمت بوتيرة ونمط معين.أما النجف فحركتها العلمية متميزة في الوقت الذي تعتبر واحدة من أرقى الجامعات الإسلامية في عالمنا العربي.ساهمت في دفع عجلة الحركة العلمية بطابعها الكلاسيكي ومازجته بحركة تجديدية,أضفت على هذه المعالم الثقافية والعلمية نوعا ًمن الحركة والتوازن والديمومة,فهي التي لازالت تفخر بطابعها القديم وتختزن قوته واصالته,لدفع حركة التطور باتجاه التحديث في محاولة متوازنة فكانت “الجامعة القديمة الحديثة “التي تفاعلت بما يتلائم وحركة المجتمع .
وكثيرا ً من هذه المدن لم تشهد تحركا سياسيا شموليا متنوعا,أما النجف ففيها امتزجت الحركة العلمية والدينية والثقافية بالحركة السياسية لتعطي لها مدلولا ووزنا خاصا.فعلى صعيد التحرك السياسي حفلت النجف بولادة “حركة النهضة” في العشرينات بقيادة سماحة المرحوم السيد محمد علي بحر العلوم,وسماحة المرحوم الشيخ محمد جواد الجزائري,ثم ولادة “الدعوة” بقيادة الإمام الشهيد الصدر في الستينات,ولا تلغي خصوصيات العمل بإطاره العام بل جاءت لتؤكد قدرة النجف على مواكبة التطور في العمل السياسي محافظة على الأجواء العامة.ولم يقتصر الأمر على الحركة الإسلامية,بل تعدى ليشمل أكثر الحركات الوطنية.
وكثيرا ًمن هذه المدن لم تواكب تطلعات الشعوب العربية وانغلقت على نفسها لتنحسر عن المواجهة.أما النجف فهي أرادت أن تحافظ على حيوية عروبتها واصالتها فساهمت في جهاد فلسطين والمغرب العربي والجزائر ومصر,وساندت حرك الشعوب العربية في مقاومة الاستعمار من اجل التحرر والاستقلال.وكل ما ترجته تطلعاتها الوطنية مع صدق أحاسيسها العربية.
وإذا كان كل ما تقدم سببا أو أسبابا يمكن أن يفسر صمود النجف والمحافظة على اصالته أمام الأعاصير الطاغية,فان خلاصتها هي بإيجاز:
1- قدسية النجف :
إن القدسية التي توجت بها النجف الاشرف نابعة من كونها – كما تقول الروايات- مثوى الأنبياء والصالحين من عباد الله الأبرار,وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام,فأصبحت بفضل هذه الخصيصة مقصدا وموئلا للمسلمين.
2- جامعتها العلمية :
إن من أهم مظاهر النجف الشاخصة جامعتها العلمية الدينية,ومركز مرجعية المسلمين الشيعة,وقد تظافرت المحاولات على تفتيتها ولكنها فشلت,لان هذه الجامعة تمتعت باستقلال تام عن الواجهة الحكومية,ولن تخضع طيلة مسيرتها,وليومنا هذا وبكل ظروفها الشائكة لآي عامل يستند إلى الدولة معنويا ً أو ماديا ً.
3- اصالتها العربية :
فرغم انفتاح جامعة النجف لعموم المسلمين,ومن شتى البلاد الإسلامية,لم تتمكن لغات الوافدين لجامعة النجف وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم أن تؤثر على النجف,بل بقيت النجف ترفل بثوبها العربي وتحاول المحافظة على اصالتها عبر هذه القرون,وإنما العكس فقد أثرت لغة النجف الجامعية على كل خريجيها مما ميزهم عن غيرهم من زملائهم أعلام المسلمين غير العرب.
4- دورها السياسي :
مارست النجف من خلال “القيادة الدينية” دورا ً توجيهياً سياسيا ًمتميزا ً على مستوى العراق والعالم العربي والإسلامي كان له الأثر الأكبر في بقاء النجف مركزاً حيويا ًيشارك الشعب همومه وتطلعاته.
5- تفاعلها مع التحديث :
إن الجامعة النجفية طيلة حياتها العلمية والأدبية تفاعلت مع التحديث,وحرصت على الحفاظ على القديم,في محاولة الجمع بين التيارين الحديث والقديم بما يتلائم ومتطلبات تطوير المجتمع الديني في مضمار العالم الإسلامي في هذا العصر.
6- نتاجها الموسوعي :
إن النجف طرحت فكرا ً موسوعيا ً ثقافيا ً,وزخما ً معطاء تميزت به عن سائر المدن التي شاركت في هذا المضمار,وعلى سبيل المثال لا الحصر:تفسير التبيان للشيخ أبي جعفر الطوسي في عشر مجلدات.وجواهر الكلام في الفقه للشيخ صاحب الجواهري في ثلاثة وأربعين مجلداً,ومستمسك العروة الوثقى في الفقه للسيد محسن الحكيم في أربعة عشر مجلدا ً,ومعجم رجال الحديث للسيد أبو القاسم الخوئي في عشرين مجلدا ً,والذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ اغابزرك الطهراني في خمسة وعشرين مجلدا ً,والمجموعة الكاملة لمؤلفات السيد الشهيد الصدر في خمسة عشر مجلدا ً,والغدير في الكتاب والسنة والأدب للشيخ عبد الحسين الاميني في احد عشر مجلداً,وشعراء الغري للأستاذ علي الخاقاني في اثني عشر مجلدا ًوغير هذا كثير وكثير يطول بنا المقام في تعدادها.
ومن المؤسف حقا ً أن نرى من يعمل بحقد وجاهلية لتهميش هذه المدينة العملاقة,وخصوصا ً ما يمارس في حقها وحق أبناءها في ظل سلطة الحكم الطائفي المقيت صدام حسين,وكمثل على ذلك فان طلاب العلم لهذه الجامعة إلى ما قبل هذا العهد الصدامي كان يتجاوز الخمسين آلف طالب من شتى مناطق العالم الإسلامي, والآن أنضمر إلى المئات,وكذلك المحاولات القمعية والتصفيات الجسدية لعلماء الدين ومراجعه العظام مستمرة,كما هو معروف للجميع,إلى جانب تضيق الخناق على طباعة الكتاب الديني,وخاصة الشيعي,ومنع ممارسة الشعائر الدينية,ورغم ضراوة هذا الصراع فستبقى النجف رمزاً للتشيع والنضال الإسلامي .
إني على ثقة بان هذه الندوة العامرة – في بحوثها ودراساتها التي تشارك فيها- صفوة من الباحثين والأساتذة المثقفين سيكون لها الأثر في كشف مكانة هذه المدينة الشامخة مع الزمن,وما أسدته إلى المجتمع الإسلامي من الشخوص المعرفية في غالب جوانب الفكر الإسلامي الديني.وهو وفاء رائع من رواد الفكر والمعرفة الإنسانية لهذه المدينة العظيمة التي تعاني في هذا الظرف من محنة خطيرة تكاد تعصف بها,لولا لطف الله.
الشكر لله سبحانه أولا ً,ثم لكل المساهمين بأحياء هذه الندوة العامرة بداية من اللجنة التحضيرية لـ [ مركز كربلاء للبحوث والدراسات]الداعية لهذه الندوة إلى الأخوة الأساتذة المشاركين بمحاضراتهم القيمة والمساهمين بالحضور,اشكرهم جزيل الشكر باسم النجف الاشرف راجيا العلي القدير أن يأخذ بيد العاملين في هذا المضمار إلى تحقيق الهدف الأسمى,وهو رضا الله سبحانه وخدمة دينه الحنيف,وهو وليّ التوفيق.
المصدر: http://h-najaf.iq