من يتعرف على سيرة المفكرين بين الملل والنحل كافة قديما وحديثا، يدرك بسهولة لماذا أصبح هؤلاء قلة قليلة في مجتمعاتهم، كانوا وما زالوا على هذا الحال من الأمس إلى اليوم، ولن يتغير حالهم غدا ولا بعد غد، لا مع توالي الأيام، ولا مع تعاقب الأجيال.
والسبب في ذلك أن نمط حياة المفكرين لا طاقة لعموم الناس على تحمله، نمط ينفر منه هؤلاء الناس ولا يتقبلونه، يتعجبون حين يسمعون بهذا النمط من الحياة ولا يكادون يصدقون، يتساءلون حين يتعرفون عليه ويتحيرون أمامه، ولسان حالهم أن لا حياة في حياة هؤلاء المفكرين، فهي بالنسبة لهم حياة لا تطاق، من الصعب تحملها والصبر عليها.
وفي ذاكرة هؤلاء الناس نادرا ما يسمعون عن أحد تختلف حياته عن حياتهم بهذه الصورة الفارقة التي تميز حياة المفكرين، فهي صورة لا تحضر في خيالهم، ولا يقتربون منها في مشاغلهم العامة، ولا تتطرق إليها ألسنتهم وأحاديثهم، وتكون بعيدة أو غائبة عن مجالهم التداولي، وبدلا من ذلك تحضر الصور المغايرة وتطغى على الاهتمام العام.
وما هو معروف عن حياة المفكرين، أنهم يعيشون حياة جادة وحازمة وصبورة، لا تعرف عادة صرف الوقت في المرح والتسلية والفراغ، أو ترك الوقت يمر ويمضي بأي حال وكيفما كان، فالوقت بالنسبة للمفكرين هو أثمن ما يملكون، وأشد ما يحرصون عليه، ويتابعونه بدقة متناهية، ولديهم حساسية مفرطة تجاهه، ولا يقبلون التفريط به ولا التسويف، فالوقت هو رأس مالهم الذي به يكتنزون ويدخرون.
يذكر في سيرة الفيلسوف الألماني كانت، حسب رواية الكاتب الأمريكي ول ديورانت في كتابه (قصة الفلسفة)، أنه صب حياته في قالب لا يحيد عنه من النظام والدقة، فكان يستيقظ في الصباح، ويبدأ بشرب القهوة، ثم الكتابة، فالمحاضرة، ثم الغذاء، وبعد ذلك يخرج من المنزل للمشي والنزهة، ولكل من هذه الأمور وقتها المحدد، وعندما يبدأ بالسير نحو الشارع الصغير، يعرف الجيران أن الساعة قد بلغت منتصف الرابعة تماما.
من جانب آخر، يعرف عن المفكرين جميعهم أو الكثير منهم ميلهم إلى العزلة، لا رغبة فيها، ولا طلبا لها، وإنما لأنها من موجبات العلاقة بالعلم والفكر، فالعلم يطلب من الإنسان الانقطاع إليه لتحصيل بعض منه، ويمضي الإنسان حياته كلها في طلب العلم ولا يحصل منه إلا قليلا، وهذا ما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، وليس هناك عالم بين البشر كافة، إلا واعتقد راسخا أن ما حصله من العلم ما هو إلا شيئا قليلا.
لا شك أن معظم الناس لا يطيقون هذا النمط من الحياة، الذي يغلب عليه العزلة انقطاعا للعلم، فهناك شريحة كبيرة من الناس لا يتحملون البقاء في منازلهم يوما واحدا أو أيام عدة، فسرعان ما يخرجون منها حتى لا يصابوا بالملل والضيق والكآبة كما يتذرعون، ويقضون تمضية الوقت إما في الأسواق أو المطاعم أو المجالس أو الاستراحات أو غيرها.
ويعرف عن حياة المفكرين كذلك، أنهم يمضون أوقاتا طويلة بين الكتب مطالعة وبحثا وتأليفا وحتى تسلية، البرنامج الذي يحصل ويتكرر يوميا ولساعات طويلة نهارا وليلا، وعلى مدار السنة، ويكاد يستغرق العمر كله.
مكتبات هؤلاء المفكرين هي أمكنتهم المفضلة لهم، فيها يجدون راحتهم ومتعتهم وسكينتهم، ما يغادرونها حتى يفكرون في العودة إليها، ولا يفارقونها حتى يحنوا إليها، تظل في ذاكرتهم حينما يكونون بعيدين عنها، الكتاب هو أكثر ما يلمس أيديهم يوميا، وأكثر ما يتجه إليه بصرهم، وأكثر ما يستحوذ على حواسهم، فهو مصدر زاد عقولهم الذي لا يتوقفون من الاستزادة منه.
في سيرته ذكر العقاد حول تعلقه الشديد بالقراءة والكتاب، أن صديقه الأديب توفيق الحكيم تخيله في بعض كتبه قد دخل الجنة، وذهب يطوف في أرجائها عسى أن يرى وجهة مكتبة يقف أمامها، ويتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال به المطاف، ولم يجد مكتبة ولا كتبا أضجر منها، وطفق يقول: ما هذا؟ جنة بغير كتب.
ويعقب العقاد على هذا الكلام قائلا: لم يبالغ صديقنا الحكيم في تخيله، لأنني فعلا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها.
وحينما تلقى الدكتور طه حسين في سنواته الأخيرة نصيحة من الطبيب بالراحة وعدم الإكثار من القراءة، قال: هذا مستحيل، لأنه لا معنى لحياتي إذا لم أقرأ كما أريد. وهذه هي سيرة معظم العلماء والمفكرين والأدباء مع القرءة والكتاب.
هذا النمط من الحياة المتكرر والرتيب لا يطيقه ولا يقوى عليه كثير من الناس الذين لا يصبرون في مطالعة كتاب ساعة واحدة، ولا يتحملون الالتزام بساعة واحدة تخصص يوميا للقراءة، ويرون أن الحياة بهذا النمط هي حياة مملة ورتيبة من الصعب التكيف معها، والاستمرار عليها.
كما يعرف عن حياة المفكرين أيضا، الرضا ببساطة العيش، ولا يعرفون بالبذخ والرفاه ولا يسعون إلى ذلك، يقبلون بالقدر القليل، ويقنعون بما تحت اليد. فحين تحدث العقاد عن فلسفته في الحياة ذكر قائلا: إن أهم جانب من جوانبها، قلة الاكتراث للمقتنيات المادية، فأعجب شيء عنده هو تهالك الناس على اقتناء الضياع والقصور وجمع الذخائر والأموال، ولم يشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال، ولم يشعر قط بصغره إلى جانب كبير من كبراء الجاه والثراء، ويعتقد أن نابليون مهرج إلى جانب العالم باستور، والإسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس.
هذه الحياة التي لا يطيقها ولا يقوى عليها معظم الناس، هي التي أعطت حياة خالدة لهؤلاء المفكرين، الذين كتبوا لأنفسهم بقاء في التاريخ لا يمحى، وأورثوا لأممهم أمجادا يفتخرون بها، وضربوا للناس مثلا رائعا في طلب الفكر والحياة معه1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الرياض، الخميس 13 يوليو 2017م، العدد 17916.