إنهم (عليهم السلام) رجال الفصاحة و فرسانها و حماة البلاغة وشجعانها عليهم تهدلت أغصانها و منهم تشعبت أفنانها و لهم انقادت معانيها وهم معانها ولرياضتهم أطاع عاصيها و أصحب جرانها إذا قالوا بذوا الفصحاء و إذا ارتجلوا سبقوا البلغاء وإذا نطقوا أذعن كل قائل و أقر لهم كل حاف و ناعل:
تركت و الحسن تأخذه تنتقي منه و تنتخب
فاصطفت منه محاسنه واستزادت فضل ما تهب
بألفاظ تجاري الهواء رقة و الصخر متانة و حلم يوازي السماء ارتفاعا و الجبال رزانة أذعنت لهم الحكم و أجابت ندائهم الكلم و أطاعهم السيف و القلم وصابوا و أصابوا فما صوب الديم ورثوا البيان كابرا عن كابر و تسنموا قلل الفضائل تسمنهم متون المنابر و تساووا في مضمار المعارف فالآخر يأخذ عن الأول و الأول يملي عن الآخر.
شرف تتابع كابرا عن كابر كالرمح أنبوبا على أنبوب
يفوح أرج النبوة من كلامهم و يعبق نشر الرسالة من نثرهم و نظامهم و تعجز الأوائل و الأواخر عن مقالهم في كل موطن و مقامهم فهم سادات الناس و قادتهم في جاهليتهم و إسلامهم فما ساجلهم في منقبة إلا مغلب و ما شابهم ماجد إلا قيل أطمع من أشعب شنشنة معروفة في السلف و الخلف و عادة شريفة ينكرها من أنكر و يعرفها من عرف.
ومن كلامه (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال:
الحمد لله وما شاء الله و لا حول و لا قوة إلا بالله صلى الله على رسوله وسلم خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصال يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم رضي الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصابرين لن يشذ عن رسول الله (صلى الله عليه واله) لحمته و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه و يتنجز لهم وعده من كان فينا باذلا مهجته و موطنا على لقائنا نفسه فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله .
وخطب (عليه السلام) فقال يا أيها الناس نافسوا في المكارم و سارعوا في المغانم و لا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوا و كسبوا الحمد بالنجح و لا تكتسبوا بالمطل ذما فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافاته فإنه أجزل عطاء و أعظم أجرا و اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقما و اعلموا أن المعروف مكسب حمدا و معقب أجرا فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين و لو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا مشوها تنفر منه القلوب و تغض دونه الأبصار أيها الناس من جاد ساد و من بخل رذل و إن أجود الناس من أعطى من لا يرجو و إن أعفى الناس من عفى عن قدرة و إن أوصل الناس من وصل من قطعه و الأصول على مغارسها بفروعها تسموا فمن تعجل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا و من أراد الله تبارك و تعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته و صرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه و من نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا و الآخرة و من أحسن أحسن الله إليه و الله يحب المحسنين.
قلت هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) و إن كان دالا على فصاحته و مبينا عن بلاغته فإنه دال على كرمه و سماحته و جوده و هبته مخبر عن شرف أخلاقه و سيرته و حسن نيته و سريرته شاهد بعفوه وحلمه و طريقته فإن هذا الفصل قد جمع مكارم أخلاق لكل صفة من صفات الخير فيها نصيب واشتمل على مناقب عجيبة و ما اجتماعها في مثله بعجيب.
وخطب (عليه السلام) فقال إن الحلم زينة و الوفاء مروءة و الصلة نعمة و الاستكبار صلف و العجلة سفه.
والسفه ضعف و الغلو ورطة و مجالسة أهل الدناءة شر و مجالسة أهل الفسق ريبة .
قال[كمال الدين بن طلحة رحمه الله] وقد التقاه و هو متوجه إلى الكوفة الفرزدق بن غالب الشاعر وقال له يا ابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته .
فترحم على مسلم وقال :صار إلى روح الله ورضوانه أما أنه قضى ما عليه وبقي ما علينا .
وأنشده:
فإن تكن الأبدان تعد نفيسة فدار ثواب الله أعلى و أنبل
وإن تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ و الله بالسيف أفضل
وإن تكن الأرزاق قسما مقدرا فقلة حرص المرء في الكسب أجمل
وإن تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
هذا آخر كلام كمال الدين بن طلحة رحمه الله في هذا الفصل.
المصدر: http://h-najaf.iq