نور العترة

كربلاء معركة لم تنته بعد …

تمثّل كربلاء في ذاكرة المسلمين ووعيهم أروع صورة من صور التفاني في التضحية والبذل والعطاء على امتداد التاريخ الإلهي العام والإسلامي بشكلٍ خاص، وتمثل من ناحية أخرى نموذجاً راقياً من نماذج التفاعل بين العبودية لله عزّ وجلّ وبين أحد أهم مظاهرها وتجلّياتها في الحياة الدنيا وهي “الشهادة” الناتجة عن الجهاد في سبيل الله سبحانه.
فلقد اختصرت كربلاء من خلال شخصياتها الرسالية المسفوحة الدم على أرض تلك الصحراء اللاهبة قضية الإنسانية كلّها الباحثة عن الأمن والسعادة في مواجهة الظلم والطغيان المتمثل بالنماذج السيئة التي لم تكن تعرف ولا تستطيع العيش إلّا من خلال التخلّص من تلك النماذج ذات المواصفات الرسالية التي كان بمقدورها أن تلعب الأدوار الإيجابية جداً في الحياة الإجتماعية العامة وإنقاذها من سيطرة وسطوة أولئك المتجبّرين الذين فتكوا بالإنسان وقيمه ومعانيه بطريقةٍ جعلت من الحياة جحيماً لا يُطاق وناراً لا تخبو لكثرة الجرائم البشعة التي سوَّدت صفحات التاريخ الإنساني.
إنّ الصور المأساوية التي قام بها الجيش الأموي والتي تجسّدت بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والصفوة من أهل بيته وأصحابه أسهمت عبر التاريخ الإسلامي في مرحلة ما بعد كربلاء من أن تصبح جزءاً من الوجدان الشعبي المرتكز في أعماق النفس البشرية التي تنفعل وتتأثّر بتلك الصور المحزنة التي تعبّر بذاتها عن المحتوى الكبير الذي تتضمّنه أو تشير إليه أو توحي به، لكن على أساس أن تكون الوسيلة لنقل تلك الصور قادرة على السماح لها بالنفوذ والتغلغل إلى أعماق النفوس لتثير فيها كلّ دوافع الحزن وذرف الدموع، ولتحرّك فيها القوة الكامنة التي تحتاج إلى الحوافز المحرّكة والشحنات العاطفية الدافعة، لكي تنتقل تلك القوة من حالة الكبت والحجز في النفس إلى حالة التوثب والنهوض للوقوف بوجه كلّ الذين يعملون على خنق أسباب القوة وإبقائها خامدة في القلوب.
إنّ تلك الوسيلة هي “مجالس العزاء الحسيني” التي اعتاد الشيعة على إقامتها سنوياً منذ الأول من محرم الحرام “بداية العام الهجري” وتمتد عشرة أيام وليالٍ في أقل مراحلها وتستمر إلى آخر صفر في بعض البلدان الإسلامية الأخرى كإيران والعراق، وهذه الوسيلة كان لها الدور الفعَّال عبر العصور في حفظ تلك النهضة الحسينية وتخليد ذكراها لتبقى حية نابضة في القلوب والعقول.
وقد كان للأئمة (عليهم السلام) الدور الريادي في تأسيس هذه الوسيلة للتعبير عن مأساة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، بل اعتبروا أنّ قضية إحياء هذه الذكرى شغلهم الأساس وهمّهم الأوحد، وقد عملوا على الإستفادة من كلّ مفرداتها المشبعة بروحية الجهاد والشهادة ذات الطابع المأساوي لتصبح تلك الثورة جزءاً من الوجدان والمشاعر والأحاسيس عند كلّ فردٍ من أتباعهم ومحبّيهم.
وأول من قام بهذه المهمة من الأئمة (عليهم السلام)، الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي تروي السيرة عنه بأنّه عاش فترة حياته ما بعد كربلاء باكياً حزيناً حتى صار هذا الأمر مشهوراً عنه ومعروفاً بين المسلمين، بل صار موصوفاً بأنّه أحد البكَّائين الخمسة عبر التاريخ الإلهي كلّه.
لقد جعل الإمام زين العابدين (عليه السلام) قضية كربلاء ومظلومية أبيه الحسين (عليه السلام) وظيفة رئيسية أعطاها حيّزاً كبيراً من جهده وعطائه، ولكن بطريقةٍ عفوية وبسيطة كانت تهز الناس من الأعماق وتحرّك فيهم المعاني الإنسانية السامية التي كان الحكّام يعملون على تجريد الإنسان المسلم منها ليعيش الحياة على خلاف التوجّه الرسالي الإلهي العام.
وقد تمكّن الإمام السجاد (عليه السلام) من أن ينقل كربلاء بتلك الوسيلة المحزنة والمبكية ومن أن يجعل الثورة الحسينية بكلّ صورها الجهادية المشرقة وبكلّ المظلومية التي لحقت بالإمام الحسين (عليه السلام) ومن استشهد معه أن تدخل إلى القلوب والنفوس وتستميلها للوقوف إلى جانب قضية الحق الذي أراد بنو أمية القضاء عليه بجرائمهم النكراء ضدّ أولئك الشهداء العظام.
وبرجوعنا إلى سيرة الإمام السجاد (عليه السلام) نجد أنّ هذا الأمر كان له ظهور قوي في حياته الشخصية والعامة على حدٍّ سواء، فقد حمل معه قضية كربلاء في حلِّه وترحاله ينقلها إلى كلّ الأماكن التي يذهب إليها، ولم يفصل بين استشهاد الإمام (عليه السلام) ومن معه وبين الشروع بالمهمة من جانب الإمام السجاد (عليه السلام) إلّا مسافة الطريق ما بين كربلاء والكوفة، حيث كانت خطبته الأولى التي عبّر فيها عن معاني المظلومية التي لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، وأظهر فيها الظلم والعدوان اللذين قام بهما الجيش الأموي، حيث دفعت كلماته بالناس إلى الضجيج والبكاء والعويل على ذلك المصاب الجلل الذي تنفطر له القلوب ولا يملك الإنسان أمامه إلّا أن يترك لمشاعره وأحاسيسه أن تنطلق لتعبّر عن التأثّر والتفجّع لتلك الجرائم المرتكبة بحق الصفوة من ذرية النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبذلك كانت نهضة الحسين (عليه السلام) وتوضيحها للأمة الشغل الشاغل للإمام السجاد (عليه السلام) حتى انتشر هذا الأمر عنه بين المسلمين جميعاً، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (بكى علي بن الحسين على أبيه عشرين سنة ما وضع خلالها بين يديه طعاماً إلّا بكى، وقال له بعض مواليه: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين، فقال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع أبي وإخوتي وبني عمومتي إلّا خنقتني العبرة).
ومن المرويات عنه في هذا المجال أيضاً، أنّه كان إذا خرج للتجوّل في الأسواق ورأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها، كان يدنو منه ويسأله بقوله (عليه السلام): هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا ابن رسول الله، إنَّا لا نذبح حيواناً حتى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي (عليه السلام) عند ذلك ويقول “لقد ذُبح أبو عبد الله (عليه السلام) عطشاناً”.
وفي رواية لافتة للنظر في هذا المجال يُروى أنّ الإمام (عليه السلام) دخل إلى مكان فرأى شخصاً غريباً فسلَّم عليه ودعاه إلى بيته لضيافته، وقال له بحضور جمعٍ من الناس: (أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك هل تجد من يغسلك ويدفنك؟ فقال الناس: يا ابن رسول الله كلّنا يقوم بهذا الواجب، فبكى وقال: لقد قُتل أبو عبد الله غريباً وبقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلا غسلٍ ولا كفن).
وبهذه الأساليب التي لا تثير الريبة ولا تلفت الأنظار عند السلطات عمل الإمام زين العابدين (عليه السلام) على إيصال تلك الصور المفجعة والمحزنة إلى قلوب الناس واستجلاب أنظارهم إلى الجريمة البشعة التي ارتكبها ذلك الحاكم الظالم والمنحرف، ومهَّد الإمام السجاد (عليه السلام) بذلك الأسلوب لتأسيس مجالس العزاء للإمام الحسين (عليه السلام)، وقد أكمل الأئمة كلّهم من بعده السير على نفس ذلك المنهج، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعضاً من الروايات التي تبيّن الحالة التي كان عليها أئمتنا (عليهم السلام) أيام عاشوراء وكيف كانوا يطلبون من أتباعهم ومحبّيهم أن يكونوا عليه من المواساة والتأسي بهم وكيف صار يوم الحسين (عليه السلام) من أعظم المصائب التي مرّت على الأمة الإسلامية.
فقد جاء في رواية عبد الله بن الفضيل الهاشمي قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يا ابن رسول الله كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وحزن وبكاء، دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله واليوم الذي ماتت فيه فاطمة واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن (عليه السلام) بالسم؟ فقال الصادق (عليه السلام) إنّ يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام، وذلك أنّ أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله عزّ وجلّ كانوا خمسة… فلمّا قتل الحسين لم يكن قد بقي من أصحاب الكساء أحد للناس فيه بعده عزا وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم).
وقد نقل الإمام الرضا (عليه السلام) في رواية يشرح فيها حال أبيه الكاظم (عليه السلام) أيام عاشوراء فيقول: (كان أبي (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم، يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: “هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)”).
وكذلك من الروايات التي تحث أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على البكاء لمصاب سيد الشهداء، نورد ما يلي، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (فعلى قتل الحسين (عليه السلام) فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)، وكذلك قوله (عليه السلام) لأحد أصحابه وهو ابن شبيب: (إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي (عليه السلام) فإنّه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون).
بل إنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يدعون الله لكلّ من يحزن ويبكي ويواسي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) بذلك المصاب، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الرواية التالية: (أللهم يا من خصّنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة… إغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي الحسين بن علي صلوات الله عليهما… أللهم فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا، اللهم إنّي أستودعك تلك الأنفس والأبدان حتّى ترويهم من الحوض يوم العطش).
من كلّ النصوص التي أوردناها نرى إذن أنّ الأئمة (عليهم السلام) هم الذين حملوا في عصورهم أمانة الثورة الحسينية وتولّوها بالرعاية والعناية وتكفّلوا بمهمة تبليغها إلى الأمة جميعاً عبر تشجيع المسلمين على إحيائها للبكاء على الحسين (عليه السلام) والإجتماع لتذكّر مصائب أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبذلك الأسلوب الرائد استطاع الأئمة (عليهم السلام) من أن يجعلوا من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته ثورة دائمة حاضرة في القلوب والنفوس، وتمكّنوا من خلالها أن يلهبوا مشاعر المسلمين وأحاسيسهم ويجعلوهم يعيشون كربلاء وكأنّها معهم بشكلٍ دائم ومتواصل لا تفارقهم ولا يفارقونها، وكلّما مرّ عليها الوقت كلّما تعمّقت في الوجدان والشعور.
وبذلك تطوّرت إقامة مجالس العزاء لمصاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته بمرور السنوات والقرون حتّى صارت بهذا الشكل الواسع الذي يشمل مساحة الوطن الإسلامي الكبير، بل العالم كلّه، وكأنّها معركة جرت بالأمس القريب ولم تمض عليها كلّ تلك القرون المتمادية في التاريخ الإسلامي، وكان الذين تحمّلوا عبء الحفاظ على استمرارية تخليد ذكرى عاشوراء وأوصيائها عبر الغيبة الكبرى المراجع العظام الذي ساروا على نهج الأئمة (عليهم السلام) حفاظاً على تلك الثورة التي اعتبروها كأوليائهم الأصليين أنّها المموّل الأساس لإبقاء حركة الإسلام الأصيل والتي تساعد حركة العلماء الكبار على ترسيخ التوجّهات الإسلامية البعيدة عن كلّ عوامل الإنحراف والتزييف الذي كانت السلطات الحاكمة تقوم بها زمن الأئمة (عليهم السلام) وفي أزمنة الغيبة الكبرى.
وبهذا نعتبر نحن اليوم أنّ معركة كربلاء لم تنتهِ بعدُ، طالما أنّ الأسباب التي أدّت إلى تلك النهضة الحسينية ما زالت قائمة وموجودة، وهي التي تحكم واقع الأمة الإسلامية وتتحكم بمسارها ومصيرها وتستغلّ خيراتها وثرواتها في غير صالح المسلمين، وإنّما تستفيد منها الأنظمة الفاسدة التي لا تبتعد كثيراً في مواصفات حكامها عن الحكم الأموي الذي ارتكب تلك المجزرة الدموية البشعة بحق الحسين (عليه السلام) ومن كانوا معه، ويستفيد منها كذلك الإستكبار العالمي الذي يستخدم الأنظمة كغطاء لحماية امتيازاته ومصالحه في عالمنا الإسلامي وعالم المستضعفين عموماً.
لهذا كلّه، فإنّ الثورة الحسينية سوف تبقى حية في العقول والقلوب والضمائر، وسوف تبقى الملهمة والمثيرة والمحرّكة للأجيال لكي تقوم بواجب الجهاد المقدّس ضدّ أعداء الأمة من الخارج وضدّ الخونة والعملاء من الأنظمة الفاسدة في الداخل، وسوف تبقى هذه المجالس الحسينية قائمة ومنتشرة وفي تزايدٍ مستمر يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، لكي تبقى الرمز الأكبر والنموذج الأرفع للمجاهدين الثائرين من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
ونظراً لأنّ كربلاء تملك ذلك القدر الكبير من عناصر الإثارة والتحريك والتمويل الروحي والمعنوي لحركة الثائرين الذين صار الحسين (عليه السلام) شعارهم الأكبر وملهمهم الأوحد، كانت تلك النهضة الحسينية محل الإهتمام الكبير والعناية الخاصة للإمام الخميني “قده” الذي كان يعتبر أنّ (“عاشوراء” برموزها الإستشهادية وبرصيدها المعنوي الرسالي وبصورها المأساوية هي الفيض الروحي الكبير الذي يزداد قوةً وتأثيراً من خلال إقامة مجالس العزاء لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام))، ولهذا أطلق كلمته الشهيرة التي تختصر الآثار الكربلائية الخالدة في مسيرة الإسلام والأمة الإسلامية والتي يقول فيها: (إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء)، بل نرى أيضاً أنّه قد أفرد لها مكانة خاصة في وصيته الرسالية للأمة الإسلامية فيقول “قده”: (ومن جملة ذلك أن لا يغفلوا أبداً عن مراسم عزاء الأئمة الأطهار وخصوصاً سيد المظلومين ورائد القصداء أبا عبد الله الحسين صلوات الله الوافرة وصلوات أنبياء الله وملائكته والصالحين على روحه العظيمة المقدامة)، ثمّ يتابع الإمام “قده” فيقول: (وليعلموا أنّ كلّ أوامر الأئمة (عليهم السلام) في مجال إحياء ملحمة الإسلام التاريخية هذه وأنّ كلّ اللعن لظالمي آل البيت والتنديد بهم ليس إلّا صرخة الشعوب في وجه الحكام الظالمين عبر التاريخ إلى الابد،… وتعلمون أنّ لعن بني أمية ورفع الصوت باستنكار ظلمهم – مع أنّهم انقرضوا – هو صرخة ضدّ الظالمين في العالم وإبقاء لهذه الصرخة المحطمة للظلم والنابضة بالحياة) ثمّ يتابع “قده” فيقول: (ومن اللازم أن تتضمن اللطميات وأشعار الرثاء وأشعار المديح لأئمة الحق عليهم سلام الله التذكير – وبطريقةٍ ساحقة – بالفجائع ومظالم الظالمين في كلّ عصر ومصر)، ثمّ ينتقل الإمام “قده” في وصيته ليربط بين كربلاء التاريخ والواقع المعاصر فيقول: (وفي هذا العصر عصر مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا وروسيا وسائر المرتبطين بهم ومن جملتهم آل سعود هؤلاء الخونة للحرم الإلهي العظيم، لعنة الله وملائكته ورسله عليهم، فإنّ من اللازم التذكّر بذلك ولعنهم والتنديد بهم بصورةٍ مؤثرة وفاعلة).
إنّ ذلك الفهم الواعي والدقيق للإمام الخميني “قده” الذي ظهر في وصيته وفي كلماته في المناسبات المختلفة تعبّر عن التوجّه الذي أراد له الأئمة (عليهم السلام) أن يحقّقوه في وعي المسلمين ووجداناتهم، وقد تحقّق هذا الأمر بالفعل عند الأمة التي نرى كيف تتفاعل مع هذه الذكرى الأليمة بمجرّد اقترابها في كلّ عام، ومن كلماته في هذا المجال يقول “قده”: (إنّ الحفاظ على مراسم عزاء سيد الشهداء يعدّ رمزاً لبقاء الإسلام وانتصار الثورة)، ويقول أيضاً: (لا تظنّوا أنّنا نبدّل تلك العادات التي تحصل في أيام عاشوراء – بالمظاهرات – هي نفسها مظاهرات… إلّا أنّها تظاهرات بمحتوى سياسي هكذا كما في السابق، بل أفضل، باللطم على الصدور واللطميات والقصائد الحسينية – فذلك رمز افتخارنا – يجب أن تغطي مجالس العزاء كلّ البلاد، الجميع يقرأ العزاء والجميع يبكي، فأيّ شيءٍ هو أفضل من هذا الإتّحاد، فأين تشاهدون أمة تتعاون وتتحد هكذا؟ من الذي وحَّد هؤلاء؟ وحدَّهم سيد الشهداء عليه السلام).
إنّ هذا النص الأخير بالخصوص يكشف عن حقيقة هامة جداً وهي “أنّ سرّ انتصار ثورة الإسلام في إيران كان من عاشوراء ومن خلال إحياء ذكرى سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّ ذلك الإنتصار لا يعني أنّ النهضة الحسينية قد انتهى دورها وتأثيرها، بل إنّ دورها قد صار أكبر والإهتمام بإقامتها سوف يزداد ويقوى، لأنّ الهدف الأساس والرئيس للثورة الحسينية لم يتحقّق بعد وبالكامل، وإنّما الإنتصار الذي يتحقّق هو خطوة على الدرب الطويل الذي ما زال علينا أن نقطعه”.
من ذلك كلّه، فإنّ إقامة هذه المجالس وإحياء ذكرى سيد الشهداء يجب أن تبقى مستمرة لتبقى قضية الإسلام الأصيل حية في النفوس والعقول، لأنّها هي التي حفظت لنا الدين والتوجّه إلى الله عبر العصور منذ الأئمة عليهم السلام وإلى الوقت الحاضر.
إنّنا في هذا العصر نتحمّل مسؤولية هذه الثورة الحسينية التي حملها قادتنا الأبرار وتلامذتهم النجباء عبر العصور، لكي نسلِّم هذه الأمانة الخالدة إلى الأجيال اللاحقة لتكون مصدر وحيهم وإلهامهم وتزويدهم بالقوة الروحية والمعنوية التي تعينهم على الصبر على كلّ ألوان البلاء والإمتحان في مواجهة المستكبرين والظالمين وكما أعانتنا نحن وأعانت الذين تحمّلوا مسؤولية هذه الأمانة ممّن سبقونا، وبذلك صدقت كلمة رسول الله ونبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: (إنّ لقتل الحسين (عليه السلام) حرارةً في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى