كَتَبَ الإمام الحُسين (عليه السلام) إلى بَني هاشم يَقول:
(بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم إستُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام)1.
إنَّ جميع الرِسالات السَّماوية إنّما جاءت من أجل إخراج الناس من الظُلُمات الى النور وهَديهم الى دين الله وصراطه القويم، قال الله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ 2. وإنّ المنهج الذي سارت به تلك الرسالات السماوية هو منهج تكاملي وأسلوب تراتبي متتالي، يُكْمِلُ بعضه بعضاً ويَشدّ بعضه بعضاً، لا تتقاطع أهدافه ولا تتجزأ أحكامه لأن مَصدره واحد، وهو الله جل وعلا. وأنَّ هذه المسيرة التكاملية للأديان السماوية قَد مَرّت بمراحل ومَراتب مُتعددة حَتى وَصلت الى الدين الخاتَم، الدين الذي بَشّر به جَميع الأنبياء وأختاراللهُ له خَيرَ البَشر، المُصطفى مُحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، رَسولاً نَبياً ومنذراً ومبشراً وخاتم للأنبياء والمرسلين. بلّغ الرسالة وأدّى الأمانَة ودَعى الى سبيل رَبّه بالحكمة والموعظة الحسنة وجاهَد في سبيل الله وَنَصَح لأُمّته حتى بَلَغَ بدين الإسلام أعلى مَراتب الكَمال وأجمل صور الإعتدال، فكانت الشرائع والمناهج الإسلامية كفيلة بإصلاح الفكر والنظر وتقويم الأعوجاج في مسيرة البشر.
ثُمّ ما كانَ لرسولِ الله أنْ يَترك الأمة وثِقْلَ الرسالة دون أئمة أوصياء من بعده، قال الله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ 3. لذا فقد أوصى صلوات الله وسلامه عليه بخُلفاء وهُداة مَهديّون من بعده يَحملون هم حفظ الدين وتبليغ الرسالة، فلقد كانَ مُدركاً لأنقلاب القوم على أعقابهم ولابد لهذا الدين من حَفَظَة، فأوصى بأئمة من ذريّته وسَمّى بأسماءهم.
فبدأ بالوَصيّه لأبن عَمّه وَخَليفته من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فَنَصَّبَهُ بأمر مِنَ الباري بَعد حجّة الوداع وفي مكانٍ يُقال له غَدير خُم فنزل الأمر الألهي: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 4، وقد حضر في ذلك العام قرابة مائتي الف حاج ولم يتخلَّف عن هذه الحجة احد خصوصا كبار الصحابة. وبعد أن بايع المسلمون عليا إمام وخليفة ووصيا نزل قول الله تعالى: ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 5.
ثمَّ أنَّ النبي المصطفى صلى الله عليه واله عَرَّفَ في مناسبات أخرى بباقي الخلفاء من بعده، وفي هذا الشأن وَرَد الكثير، وَنَحن نكتفي بذكر حديثين لَه صلوات الله وسلامه عليه، فعن سعد بن عبد الله بن أبي خلف قال: (حدثني: يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبان بن تغلب، عن سليم بن قيس الهلالي، عن سلمان الفارسي رحمه الله، قال: دخلت على النبي (ص) وإذا الحسين (ع) على فخذيه وهو يقبل عينيه ويلثم فاه، وهو يقول: أنت سيد إبن سيد، أنت إمام إبن إمام أبو الأئمة، أنت حجة إبن حجة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم)6. وفي حديث آخر: (عن علي بن إبراهيم، عن أبيه.، عن إبن أبي عمير، عن سعيد بن غزوان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع) قال: يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي، تاسعهم قائمهم)7.
وَبَعد أن أختار الله لنبيّه دارَ القرار إطَّلَع رَأس الشيطان من مغرزه، فأجابَه أهلُ الغَدر والشقاق طائعين، فَتَرَكوا الوَصيّة مُهرولين وَنحو السقيفة مجتمعين، لَقد أدَّعوا خَوف الفِتْنَة ألا في الفِتْنَة سَقَطوا. لقد نكثوا العهد وخالفوا الأمر ونَصّبوا أبو بكر خليفة للمسلمين. رَفض أمير المؤمنين (وهو الوَصيّ بأمر الله) إعطاء البيعة لأبي بكر، وأعلَن رَفضَه لأولئك الذين اغتَصَبوا الحَقّ الشَرعي وانقلبوا على أمر الله وتَنكّروا لوصية رسوله، وكذلك فَعَلَت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام فأرسلوا بذلك للأمّة رسالة مَفادها أنّ القوم خالفوا أمرَ الله وأن لا شرعيّة لمن شَرَوا الخلافة بمعصية الله. كما أنّ جَمعاً من المهاجرين والأنصار وبعضاً من بني هاشم رَفضوا إعطاء البيعة لأبي بكر كالعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبرّاء بن عازب، وأُبي بن كعب، وعتبة بن أبي لهب، وآخرين، وقيل أنّهم مَضوا على ما أوصى به رَسول الله من أنّ الولاية لعليّ عليه السلام من بعده، بأمر من الله جل وعلا8.
فما كان جَواب القوم الاّ أن هَجموا على دار الزهراء يريدون علي عليه السلام، فتلقّتهم فاطمة عليها السلام على الباب فقالت: (يابن الخطاب، أتراك محرقاً عليّ بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك)9. ثم دعا عمر بالحطب ونادى بأعلى صوته: (والذي نفس عمر بيده لتخرجنَّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة، فقال: وإن10.
وأخرجوا أميرَ المؤمنين مِن دارهِ ملبّباً بثوبه يجرّونه إلى السقيفة وهو يوصي أصحابَه أن لا يُشهِرَنَّ أحداً منكم سَيفَه وَأن يَمتَثلوا لما أوصى به رسول الله في أن يصبروا على غَدر القَوم وأن يُسالِموا ما سَلِمَت أمور الأسلام المسلمين، وكان يأمرُهُم بالصّبر، ثم أنّ فاطمة ـ عليها السلام ـ حالَت بَينهم وَبَين بعلها وقالت: (والله لا أدعكم تجرون ابن عمّي ظلماً، ويلكم ما أسرع ما خُنتم الله ورسوله، فينا أهل البيت، وقد أوصاكم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ باتّباعنا ومودّتنا والتمسّك بنا، فأمر عمر قنفذاً بضربها فضربها قنفذ بالسوط فصار بعضدها مثل الدملج)11. ورغم كل تلك الجراح والآلام فإن الزهراء لم تترك وليّها وزوجها بل أخذت بيد ولديها الحسن والحسين عليهما السلام وتَوجّهت نحو القوم وهي تنادي: (خلّوا عن ابن عمّي، والله لأكشفنّ رأسي ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعوَنَّ عليكم، فما ناقة صالح بأكرم على الله منّي، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي)12.
لَم تَجد الزّهراء بَعد ما جرى عليها من الوَيلات والمِحَن وَمِن غَدر القوم ونكثهم للعهود والمواثيق غير قَبْرَ أبيها رسول الله صلّى الله عليه وآله تَلوذ وَتَستنجِد به قائلة: (يا أبتِ يا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة؟ فما تركت كلمتها إلّا قلوباً صدعها الحزن وعيوناً جرت دمعا)13، وَبَقِيَت سَلامُ الله عليها على هذا الحال حتى لَحِقَت بربّها صابرة مُحتَسِبة مُفوّضة أمرَها اليه شاكية ما فعل بها القوم.
لَقد بدأ مُخَطّط الشّجَرة المَلعونه، بَنو أميّة ومَن أسّسَ لهم وسارَ على نَهجِهم، لهَدم الدين ومحو رسالة السماء والعودة بالأمة لحكم الجاهلية، وهذا قول معاوية اوضح من الشمس في رابعة النهار حيث يقول: (وإن ابن أبي كبشة (يعني رسول الله) ليُصاح به كل يوم خمس مرات ” أشهد أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأيُّ عمل يبقى و أيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً)14.
لقد أسّس معاوية من أجل هذا الهدف منهجاً استخدم فيه الإعلام والإرهاب معاً، فَبدأ بحرب الإشاعات مستهدفاً أهل بيت الوحي ومعدِن الرسالة من خلال إغداق الأموال على مَن أستأجَرَهم وشَرى ضَمائرَهم وأقلامهم من أجل دَسّ وافتراء الأحاديث والروايات الكاذبة بقصد إثارة الفِتَن والأحقاد وَتَفتيت وحدة المسلمين وتمزيق دين الله والنَّيل من مَقام أل بَيت المُصطفى، وأنّا له ذلك والله مُعِزّهُم ورافعهم.
لَقَد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام مدركاً لمكر معاوية وخبثه فقاتله في صفين سنة 37 للهجرة فاستشهد مع الإمام خيرة أصحاب رسول الله أمثال ثابت بن عبيد الأنصاري وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الأنصاري وعمار بن ياسر وأبو عمرة بشر بن عمرو بن محصن الأنصاري و سعد بن الحارث بن الصمة الأنصاري والمهاجر بن خالد بن المخزومي، وغيرهم. ثُم لجأ معاوية بعدها لحُروب الغَدر فَبدأ بالتَّصفيات الجَّسدية، فَقَتَل خيرة أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام غدراً أمثال مالك الأشتر وقتل حجر بن عدي ورشيد الهجري ومحمد بن أبي بكروعمرو بن الحمق الخزاعي (الذي حبس زوجته في سجن بدمشق وقطع رأس زوجها وأمر احد أعوانه بأن يدخل عليها سجنها وأن يضع رأس زوجها في حجرها)15، والجرائم لا يحصيها المقال لكثرتها.
وَلَم يَتَوانى معاوية عن شَنّ غاراة الغدر ضدّ الأبرياء مِن شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، ففي سنة 39 للهجرة إختار لجيشه قادَةً مِمّن عُرِفوا بالغَدر والمَكر والخِداع، أناساً بلا دين ولا قِيَم ولا مباديء، استأجرهم لقَتل الأبرياء أينَما كانوا وَحيثما وجِدوا تَحت ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام، فأختار النعمان بن بشير وسَيّره إلى عين التمر، وسَيّر عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزاري إلى ثيماء، فَبالَغ بقتل الأبرياء والعُزّل. وَوَجّه سفيان بن عوف الى هيت ثم الأنبار والمدائن فأكثروا بأهلها القتل والسَلب، وأمَر الضحاك بن قيس الى واقصة والثعلبية والقطقطانة، فعاث قتلاً وسلباً وتدميرا.
وَوَجّهَ عبد الرحمن بن قباث ثم الحرث بن نمر التنوخي إلى بلاد الجزيرة، وسَيّر زهير بن مكحول العامري إلى السماوة، وفي سنة 40 للهجرة وجّه بسر بت أرطاة الى المدينة ثُم اليَمن لقتل شيعة علي عليه السلام وَتَمزيق وَمَحو دين رَسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. لقد قُتِلَ قرابة ثلاثين ألفاً في غارة بسر بن أرطاة على مكة والمدينة واليمن، بأمرٍ من معاوية حينما قال له: (سر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها، وأخِفْ من مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لابراءة لهم عندك ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد جاءني كتابهم ! فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية، حتى قدم المدينة…)16، وغار بسر بن أرطات على الأنبار فقتل عاملها حسان بن حسان وقتل رجالاً كثيراً ونساء.
وفي شهر رمضان سنة 40 للهجرة إمتَدَّت يَد أشقى الأولين ابن ملجم اللّعين فضرب الإمام أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي عليه السلام بسَيفِه المسموم وهو ساجد يُصلّي الفَجر في مسجد الكوفة، فاستُشهِد سلام الله عليه، فَضَجّت الملائكة بالبكاء وهبَّت ريحٌ عاصفٌ سوداء ونادى جبرائيل بين الأرضِ والسّماء (تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء)17.
وَمعاوية يَتَربّص وَيَتَحيّن الفُرص للإنقِضاض على منبر رسول الله، فَلَم يَكتفي طاغية بَني أميّة بِمَن قَتل وسبي حتى أمتَدّت يَدُه الغادِرة مُجدّداً لتَنال من كَريم أهل البَيت وسِبط المُصطفى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فقد أوصى الى جعدة بنت الأشعث وَمَنّاها بأن يُزَوجها من أبنه يَزيد إنْ هي قتلت الإمام، فَفَعَلت وَدَسّت اليه السُّمّ، ففي شهر صفر سنة 50 من الهجرية أستُشهِدَ الإمام أرتحل الى ربه مظلوماً صابرا. وهكذا وَجَد معاوية الأمور مُهيئة لمحو ما بَقي من الدّين فبدأ بالتهيئة لتنصيب إبنه يزيد، سَليل الشجرة الملعونة، ملكاً على الأمة وتحويل الخلافة مُلكا وراثياً.
لَقَد جَرَت كلّ تلك الأحداث بمرأى وَمَسمع من الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي كان يعيش تلك التطورات عن كثب ويقرأها أولاً بأول، كيف لا وهو الذي خَبَر الحياة السياسية بمعناها الصحيح إنطلاقاً من بعدها الإسلامي والأخلاقي لا بمعنى الغَدر والإحتيال، كما أنّ تجربته الطويلة وحكمته قَد كَشفت له معادن طُغاة عَصره، فَعَرَفَهم على حقيقتهم، رأى الفَساد كيف بدء يَدب في بيوت أبناء الطلقاء، وكيف كانَ وَصيّ المُصطفى يُسَبّ من على المنابر، وكيف أنّ أصحابَ رسول الله المُنتَجبين الأخيار مُطارَدين ومُشَرَّدين وأنّ سُلالة الشَّجرة المَلعونة مُقَرّبين ومُبَجّلين.
بعد إستشهاد الإمام الحسن عليه السلام كان جُلّ الصحابة والتابعين وأهل الوَرع والدّين يَرَون في الإمام سلام الله عليه سيّد أهل الحجاز بل وسيّد العرب الذي ليس على وجه الأرض أحدٌ يساميه قدراً وشرفاً وقرابةً ومنزلة، كيف لا وهو الحُجّة والإمام المُفتَرض الطاعة وخامس أصحاب الكساء والأمين والهادي والحافظ لرسالة المصطفى، لهذا كانَ كُل من أهمّه أمرَ الدين يَتَرَقّب من الإمام النَهضة والتحرّك خصوصاً بعد هلاك معاوية سنة 60 للهجرة وتنصيب أبنه يزيد خليفة وراعياً لأمور الأسلام والمسلمين.
كان يزيد يَعلم بثقل الإمام الحسين عليه السلام ومكانته بين الناس فبدأ التَّعجيل لأخذ البيعة منه مبكراً وحتى قبل أن يتنشر خبر موت معاوية بين أهل المدينة فَكانت نَصيحة مروان بن الحكم لوالي المدينة الوليد بن عتبة أن يأخذ البيعة من الإمام وذلك بأمرٍ من يزيد الذي كتب لهم قائلاً: (إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه)18.
فقال الإمام أبو عبد الله قولته المشهورة (إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، و مختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر و تنظرون أينا أحق بالبيعة والخلافة، ثم خرج عليه السلام)19.
فكانَ ذلك الموقف إعلانٌ رسمي ببدأ مواجهة طغيان بني أميّه وتصريحٌ جلي من أجل استنهاض بقايا حطام أمّة خانعة ودعوة واضحة للوقوف بوجه المشروع الأموي. ولقد أرادَ الإمام من هذا الأمر القاء الحجج على من أراد التخلّف عنه علماً أن أصحابه كانوا معلومين لديه لكنه لم يصارح الجميع بما عنده من علم ورثه من أبيه عن جده عن الله جل وعلا وبمصيره وما سيؤول اليه أمره وأمر أصحابه وأهل بيته، فهذه الحقائق لم يكن يُدلي بها لكل أحد إلّا عندما تكون العقول والأفهام واعية عارفة، لذا كان الإمام يكلم الناس بما تتحمله عقولهم ومداركهم، والدلائل في هذا الشأن مستفيضة نورد منها خطبتة سلام الله عليه لَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ فقَامَ خَطِيباً، وقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ ما شاءَ اللَّهُ وَ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَ يُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَحْمَةٌ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَ يُنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ، مَنْ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ وَ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ للَّهُ)20.
تَحرّك رَكب الحُسين (عليه السلام) من المدينة الى مَكّة، وسار معه عِدّةٍ من أهلِ بيته وخواصّه، فكان برفقته نساؤه وأبناؤه وأخته عقيلة بني هاشم زينب الكبرى عليها السلام وأخوه أبو الفضل العباس عليه السلام، يقودهم سيّد الأحرار حاملاً هَمّ الرسالة وحفظ دين جدّه رسول الله، متحدياً كبرياء وغَطرسة بني أمية متوجها إلى مكّة المكرّمة حيث وصل إليها أوائل شعبان، ومَكث فيها حتى يوم التروية يوم الثامنِ من ذي الحجّة الحرام. وعندما بدأت التَحَرّكات والأوامر مِن قِبل يزيد بن معاوية باغتياله (ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة المشرّفة)، خاف سلام الله عليه أن تُنتهَك به حرمةُ البيت الحرام، عندها أبدل حجَّةً بعُمرة وتوجّه عاجلاً نَحو العراق وكان نزوله في كربلاء يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين)21.
أنّ أختيارَ الإمام للعراق لم يكن أمراً ارتجالياً، إنما كان مُخططاً له وأكّدَت على ذلك الكثير من الروايات وقد سار على هديها سيّد الأحرار، فالكوفة كانت قاعدةً تَضُمّ الكثير ممن الموالين لأهل البيت ومِمَّن تتلمذوا وساروا على نهج أمير المؤمنين علي عليه السلام، فأراد الإمام وهو المقتول لا محالة أن يتخذها منطلقاً وقاعدة لأنها أرض خصبه، ولادة للثورات. فعند وصول الإمام سَأل عن اسم هذه المنطقة فقيل له: كربلاء، عندها دمعت عيناه وهو يقول: (اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء)، ثم قال: (ذات كرب وبلاء، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره الى صفّين وأنا معه فوقف، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال: ها هنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: ثقل لآل بيت محمّد ينزلون هاهنا)22. وقبض الإمام الحسين (عليه السلام) قبضةً من ترابها فشمّها وقال: (هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها، أخبرتني اُم سلمة)23.
- 1. بحار الانوار- العلامة المجلسي ج 42- ص81، وفي كامل الزيارات، ابن قولويه: 75، بـاب 24، حـديث 15 ، وفي اللهوف في قتلى الطفوف – السيد ابن طاووس – الصفحة 25.
- 2. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 13، الصفحة: 484.
- 3. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 7، الصفحة: 250.
- 4. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 67، الصفحة: 119.
- 5. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 3، الصفحة: 107.
- 6. الشيخ الصدوق – الخصال – ص475. القندوزي الحنفي ، ينابيع المودة ، ج3، الباب : السابع والسبعون ، ص445.
- 7. الشيخ الكليني – الكافي – الجزء: 1 – ص533.
- 8. تاريخ اليعقوبي 2 : 124 . وتاريخ أبي الفداء 2 : 63 . وشرح ابن أبي الحديد 2 : 49 و 56.
- 9. أنساب الأشراف 2 : 268. والشافي – السيد المرتضى 3 : 241 . وتلخيص الشافي – الطوسي 3: 67 .
- 10. الإمامة و السياسة لابن قتيبة : 30 ـ 29.
- 11. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول – العلامة المجلسي: ج 5 – ص 320.
- 12. الاحتجاج – الطبرسي:ج 1 / 222.
- 13. الغدير: 3 / 104. والإمامة والسياسة : 1 / 13 ، وتأريخ الطبري : 3 / 198 ، والعقد الفريد : 2 / 257 ، وتاريخ أبي الفداء : 1 / 165 .
- 14. الصحوة ، لصباح علي البياتي : 403 ، نقلاً عن الموفقيات : 577.
- 15. بلاغات النساء 64. والديارات 179 و180.
- 16. أحمد بن إسحاق اليعقوبي- تاريخ اليعقوبي، ج2 ص: 197.
- 17. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – 42 – 280 ـ باب 127.
- 18. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 44 – ص 324.
- 19. معالي السبطين في احوال الحسن والحسين 8 / محمد مهدي الحائري:1/ 207 . وكلمات الامام الحسين عليه السلام / محمود الشريفي: 1/ 280.
- 20. مثير الأحزان: 41. واللهوف: 26. وكشف الغمة 2: 29. وبحار الأنوار 44: 366. والعوالم 17: 216.
- 21. الأخبار الطوال : 252،، تاريخ الطبري : 3 / 309، إعلام الورى : 1 / 451، معجم البلدان : 4 / 444، بحار الأنوار : 44 / 380.
- 22. الأخبار الطوال : 253، حياة الحيوان للدميري : 1 / 60، مجمع الزوائد : 9 / 192.
- 23. تذكرة الخواص : 260، ناسخ التواريخ : 2 / 168، نفس المهموم : 205، ينابيع المودة: 406.