مهاجرو الحبشة
أخذ عدد المسلمين يزداد باطراد، إذ لم تفلح قريش بضغطها على المسلمين في صدّهم عن دينهم الجديد بل لم تستطع الوقوف إزاء تيار المسلمين الجارف، فتعصّب المسلمين لدينهم، وصبرهم على ما يلاقونه من الأذى والعذاب كان يثير غضب قريش ويحملها على التشدّد في أذيتهم و تعذيبهم.
لما رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين في مهلكة لا نجاة لهم منها إلا بالهجرة، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، باعتبار أن حاكمها النجاشي كان رجلا عادلا وبإمكانهم أن يقيموا شعائرهم الدينية بحريّة تامة تحت ظل حكومته.
هاجر المسلمون إلى الحبشة واطمأنوا بأرضها وأصابوا دارا وقرارا وعبدوا الله بكل حرية لا يؤذون ولا يسمعون ما يكرهون.
لما بلغ ذلك قريشا خافوا أن يتسع نفوذ الإسلام هناك، فأتمروا بينهم وصمموا على أن يخرجوا المسلمين من الحبشة ويردّوهم إلى مكة حتى يتمكنوا من السيطرة عليهم، والحد من انتشار دينهم، ولذا فقد اختاروا رجلين وحملوهما هدايا ثمينة للنجاشي وبطارقته ولم يدعوا بطريقا إلا وأهدوا له هدية ثم أوصوهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي ثم قولا للنجاشي أنه قد انضوى إلى بلاد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم وجاؤا بدين مبتدع وقد بعثنا أشراف قومهم ليردوهم وأشاروا عليه بتسليمهم.
فذهب الرسولان إلى الحبشة ووزعوا الهدايا على البطارقة فأعطوا كل بطريق هديته، وأخذوا منهم عهدا على أن يؤيدوهما في مجلس النجاشي وقدما هداياهما الثمينة إليه ثم كلّماه بالغرض الذي جاءا من أجله، وطبقا للقرار المعقود بين البطارقة وبين ممثلي قريش، أشار البطارقة كلهم بإخراج المسلمين فورا وتسليمهم إلى قريش، ولكن النجاشي لم يقبل هذا الرأي بل قال: لا أسلمهم إليهما، فهؤلاء قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، ولا بد من أن أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقول سلمّتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
فلما سمع ممثلا قريش قول النجاشي تغير لونهما وارتعدت فرائصهما لأنهما كانا يخشيان من أن يقابل النجاشي المسلمين ويتكلم معهم، وكانا يؤثران بقاء المسلمين في الحبشة على مقابلتهم للنجاشي لخوفهم من أن يفتتن النجاشي بما يسمع من المسلمين من القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن ما الذي يفعلانه وقد أمر النجاشي بأن يحضروا هؤلاء المهاجرين أمامه في وقت اتفق عليه.
علم المسلمون بهدف مجيء ممثلي قريش إلى النجاشي، فخافوا خوفا شديدا من أن يجبروا على الرجوع إلى مكة.
ولما جاءهم رسول النجاشي يطلب حضورهم أمام النجاشي علموا بأن الخطر بلغ منتهاه، فاجتمعوا مع بعضهم للمشورة، وماذا يجب عليهم أن يقولوا في جواب النجاشي إذا سألهم؟ فاجتمعت كلمتهم على أن لا يقولوا غير الحقيقة وأن يوضحوا له وضعهم في الجاهلية ووضعهم بعد الإسلام وأن يعرفوه بحقيقة الإسلام الخلاقة وروح الدعوة البناءة وأن لا يخفوا عليه شيئا.
كان مجلس النجاشي مكتظا بعلماء الدين المسيحي باعتباره الدين الرسمي للحبشة في ذلك الوقت ، وكان إزاء كل واحد منهم كتاب مقدس وقد أخذ رجال الدولة أماكنهم الخاصة، فانسجمت المراسم الدينية والملكية لتضفي على مجلس النجاشي أبهة وعظمة وجلالا خاصا.
تصدر النجاشي المجلس واستقر العلماء ورجال الدولة في الأماكن المعدة لهم، ثم دخل المسلمون مجلس النجاشي هذا المجلس الذي يجبر الداخل إليه على إبداء الخضوع هيبة له إلا أن المسلمين دخلوه بكل طمأنينة ووقار،لم تؤثر عليهم عظمته ولم ترهبهم أبهته، بل إنهم لم يراعوا مراسم الأدب الجارية في ذلك الوقت من قبيل تقبيل الأرض أمام السلطان، بل دخلوا وسلّموا يتقدمهم كبيرهم جعفر بن أبي طالب.
كان دخولهم بهذه الصورة إهانة لمقام النجاشي وعظمته، لهذا فقد سددت إليهم سهام الانتقادات من كل صوب ولكنهم أجابوا عليها فورا بقولهم: أن ديننا الذي لذنا بسببه إلى هنا لا يبيح لنا السجود لغير الله الواحد الأحد.
هنا سألهم النجاشي قائلا: ما هذا الدين الذي فارقتم قومكم بسببه ولم تدخلوا في سواه من الأديان؟ فأجابه كبيرهم جعفر بن أبي طالب قائلا: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة نأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وعبادته وأن نهجر ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ،وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله.
فحاربنا قومنا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وضيّقوا علينا، لذنا ببلادك ونرجوا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
لما انتهى جعفر من كلامه قال له النجاشي: هل معك ما جاء به نبيكم عن الله من شيء؟
– نعم.
– اقرأ علي.
فشرع جعفر بقراءة سورة مريم التي تتحدث عن مريم وعيسى ويحيى وزكريا. قرأ جعفر سورة مريم لأن المجلس كان مشحونا بالإحساسات والعواطف المسيحية بالإضافة إلى أنه أراد أن يبين للمسيحين بأن القرآن بقدر ما يقدس عيسى ومريم منتهى التقديس فإنه يعتبرهما عبدين من عبيد الله.
بكى النجاشي وبكى المجلس كله ثم قال النجاشي: ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة اذهبا فلا والله لا أسلمهم إليكما.
وبعد ذلك أسلم النجاشي وتوفي في العام التاسع للهجرة وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جنازته من على بعد1.
*قصص الأبرار، الشيخ مرتضى مطهري،التعارف، ص91-96.
1- سيرة ابن هشام ج1 ص356.