قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ 1.
يلقي الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة على المؤمن مسؤوليتين، المسؤوليّة الأولى تجاه نفسه، والثانية تجاه أهله، فيأمره بوقاية نفسه وأهله من نار جهنّم.
وأمّا كيف يقي الإنسان نفسه من نار جهنّم؟! فهذا واضح، لا يحتاج إلى مزيد من التأمل والتفكّر، فإنّ العبد إذا اجتنب فعل ما يؤدّي إلى النّار ويكون السبب في دخولها والعذاب فيها، فإنّه يكون بذلك قد وقى نفسه وأنقذها من النّار، ومعلوم أنّ الذنوب هي سبب ذلك وموجبه، فتكون وقاية النّفس من النّار باجتنابها. ولكي يجتنبها العبد فلا بدّ له من معرفة أسبابها للحد من تأثيرها، وهي كثيرة أذكر منها في حديثي هذا سببين رئيسيين:
1- النفس الأمارة بالسوء
وهي حالة من الحالات التي تكون عليها النّفس الإنسانية، حيث يكون الإيمان والتقوى في مراتبهما الضعيفة، فلا يشكلان قوّة مانعة تحجز النفس عن الاتجاه صوب المعصية وفعل المخالفة الشرعية. هذه الحالة التي تكون عليها النفس البشريّة هي التي أشار إليها الإمام زين العابدين «عليه السلام» في مناجاته المعروفة بمناجاة الشاكرين، فقال: (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إنْ مسّها الشر تجزع، وإنْ مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة).
وللحد من تأثير النّفس على الإنسان في دفعه نحو الخطيئة، لا بدّ له من مجاهدة نفسه، ليكبح جماح الشّهوات والرّغبات والغرائز فيها، وليسيطر عليها ويهذّبها ولا يستجيب لها إلاّ في حدود الشرع الشريف فقط.
وجهاد النّفس ليس بالأمر السهل، بل هو صعب وشاق وعسير، يحتاج إلى صبر قوي، فالنبي «صلى الله عليه وآله» وصفه بالجهاد الأكبر، فيروى أنّه «صلى الله عليه وآله» استقبل سريّة قد قدمت من جهاد العدو، فقال: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس)2.
فكما أنّ جهاد العدو لصعوبته يحتاج إلى صبر شديد وقوي يتحلّى به المجاهد، فكذلك المجاهد لنفسه يحتاج إلى أن يتمتع بصر قوي وشديد، أشد وأقوى من الصبر الذي يحتاجه المجاهد في سوح القتال، فنفس الإنسان هي أعدى أعدائه، ففي الرّواية عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: (أعدى عدوّك نفسك الَّتي بين جنبيك)3.
من طرق مجاهدة النفس محاسبتها
ومن أهمّ الطرق لمجاهدة النفس هو محاسبتها، فعلى العبد أن يحاسب نفسه حساباً دقيقاً، كما يحاسب الشريك شريكه، بل وأشدُّ من ذلك، عليه أن يخصص جزءاً من وقته، والأفضل أن يكون ذلك عندما يأوي إلى فراشه، فيستعرض ما قام به من أفعال وما صدرت منه من أقوال في طوال ذلك اليوم، فإن كانت متوافقة مع تعاليم وتوجيهات الشرع الشريف ليس فيها معصية أو مخالفة شرعية، فعليه أن يشكر الله العليَّ القدير لما وفقه لعمل الخير وفعل الطاعة واجتناب المعصية، وإن كان فيها ما هو معصية ومخالفة شرعية، فعليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه، ويطلب منه العفو والصفح عنها، وأن يحاسب نفسه فيوجه لها العتاب واللوم، ويخاطبها -مثلاً- بالقول: يا نفس لم عصيت الله؟ لم تعرّضت لغضب الله؟ لم تجرأت على الله؟ يا نفس ألا تخافين عذاب الله في القبر وعرصات القيامة؟ ألا تخافين النّار والعذاب فيها؟ وما شاكل ذلك من العتاب والمحاسبة.
والرّوايات عن النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم السلام» التي تحثّ على محاسبة النّفس كثيرة منها ما عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنّه قال لأبي ذر الغفاري «رضي الله عنه»: (يا أبا ذر لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أمن حلٍّ ذلك، أم من حرام؟)4.
وعن الإمام موسى الكاظم «عليه السلام» قال: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه»5.
وعن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قال: (من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر)6.
2- الشيطان
ويعتبر الشيطان بوساوسه للإنسان أحد الأسباب والعوامل الرئيسية لدفع الإنسان نحو ارتكاب المعاصي، وجرّه إلى اقتراف السيئات، فهو بطرقه المختلفة ووسائله العديدة والكثيرة، يسعى وبكل ما لديه من حيل وسبل، أن يوقع الإنسان في المخالفات الشرعية، ليبعده عن الله سبحانه وتعالى ويوصله إلى نار جهنم والعياذ بالله.
فكما أنّ للإنسان عدوٌ داخلي وهو النّفس، فكذلك له عدوٌ خارجي وهو الشيطان، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ 7، فهو منذ اليوم الذي سقط في صراعه مع الحق، واستحق بذلك اللعنة، صرّح بعدائه للإنسان وأعلن شنّ الحرب عليه، فقطع هذا اللعين على نفسه عهداً بإضلال الإنسان وإغوائه فقال كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ … ﴾ 8، وقال: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ 9، وقال: ﴿ … لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ 10، ولذلك يأمر اللهُ سبحانه وتعالى بأن يُتعامل مع الشيطان على هذا الأساس، على أساس أنّه عدو، فلا يُسمع لوساوسه، وأن يحارب في كلِّ سبله وأهدافه وغاياته ووسائله، فيسد المسلم جميع المنافذ التي يمكن للشيطان أن ينفذ إليه من خلالها ليغويه ويوقعه في الضلالة والعصيان، وعليه أن ينمي جانب الوازع الديني لديه بتقوية إيمانه وتقواه، لأنّ ذلك عامل رئيسي في حجز العبد ومنعه عن الاتجاه صوب المعصية والمخالفة الشرعية.
وأما المسؤولية الثانية التي ألقتها الآية الكريمة على عاتق العبد، فهي مسؤولية وقاية أهله من نار جهنم، فكما أنّه مسئول عن نفسه ويجب عليه أن يقيها من عذاب الله في نار جهنّم، فكذلك عليه مسؤولية أخرى وهي وقايه أهله من جهنم وعذابها.
أما كيف يقي أهله من نار جهنم؟ فإنّ الواجب عليه هو أن يقوم بتوجيههم وإرشادهم إلى فعل كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، وينهاهم عن كل ما يغضبه سبحانه، فيقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وسط عائلته، وبين أفراد أسرته وأرحامه.
فعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (لما نزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا … ﴾ 1 جلس رجل من المؤمنين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك)11.
وسأل أبو بصير الإمام الصادق «عليه السلام» عن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا … ﴾ 1 كيف أقيهم؟ قال: (تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عما نهى الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك)11.
إن التزام أفراد المجتمع المسلم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء كان ذلك في نطاق الأسرة أو في خارج هذا النطاق، مما يؤدي إلى استقامة أفراد المجتمع وصلاحهم، ولذلك شددت الشريعة الإسلامية في النهي عن ترك هذين الواجبين واعتبرت التقاعس عن أدائهما مما يؤدي إلى فساد المجتمع، وأشارت الروايات الشريفة إلى الآثار السلبية الخطيرة لترك هذين الواجبين، قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» في وصيته لابنيه الحسن والحسين «عليهما السلام»: (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)12.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: (ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلاّ أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)13.
وقال الإمام علي «عليه السلام»: (إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قلب فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه)14.
وعن الإمام الرضا «عليه السلام» قال: (كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)1516.
- 1. a. b. c. القران الكريم: سورة التحريم (66)، الآية: 6، الصفحة: 560.
- 2. الكافي 5/12.
- 3. المحجة البيضاء 5/6.
- 4. ميزان الحكمة 9/513 – 514، رواية رقم: 22428.
- 5. الكافي 2/453.
- 6. وسائل الشيعة 16/98.
- 7. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 6، الصفحة: 435.
- 8. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 119، الصفحة: 97.
- 9. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 16 و 17، الصفحة: 152.
- 10. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 118، الصفحة: 97.
- 11. a. b. الكافي 5/62.
- 12. بحار الأنوار 42/256.
- 13. بحار الأنوار 97/78.
- 14. وسائل الشيعة 16/134.
- 15. الكافي 5/59.
- 16. المصدر كتاب “بحوث ومقالات من هدي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.