جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : لما قُتل الإمام علي عليه السلام قصد بنوه أن يخفوا قبرَه بوصيّة منه ، خوفاً من بني أميّة والمنافقين والخوارج أن يُحْدِثوا في قبره حدثاً.
فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة ـ ليلة دفنه عليه السلام ـ إيهامات مختلفة.
فشدّوا على جملٍ تابوتاً موثقاً بالحبال ، يفوح منه روائح الكافور وأخرجوه من الكوفة في سواد الليل بصحبة ثقاتهم ، يوهمون أنّهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة عليها السلام.
وأخرجوا بغْلاً وعليه جنازة مغَطَّاة ، يوهمون أنّهم يدفنونه بالحيرة ، وحفروا حفائر عدَّة ، منها في رحبة مسجد الكوفة.
ومنها برحبة قصر الإمارة ، ومنها في حجرة في دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي ، ومنها في أصل دار عبد الله بن يزيد القسري ، بحذاء باب الورَّاقين ، ممّا يلي قبلة المسجد.
ومنها في الكناسة ـ محلَّة بالكوفة ـ ومنها في الثويَّة ـ موضع قريب من الكوفة ـ فعمي على الناس موضع قبره.
ولم يعلم دفنه على الحقيقة إلّا بَنُوه والخواص المخلصون من أصحابه ، فإنّهم خرجوا بالإمام عليه السلام وقت السَحَر ، في الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان ، فدفنوا الإمام عليه السلام في مدينة النجف الأشرف ، بالموقع المعروف بالغري.
وذلك بوصاية منه عليه السلام إليهم في ذلك ، وعهد كان عهد به إليهم ، وعمي موضع قبره على الناس.
أمّا الشيعة فمتَّفقون خَلَفاً عن سَلَف ، نقلاً عن أئمّتهم أبناء الإمام علي عليه وعليهم السلام ، أنّه قد دُفِن في الغري ، في الموضع المعروف الآن في مدينة النجف الأشرف ، ووافَقَهُم المحقّقون من علماء سائر المسلمين ، والأخبار فيه متواترة.
أمّا قول أبو نعيم الإصبهاني : إنّ الذي على النجف إنّما هو قبر المغيرة بن شعبة ، فغير صحيح ، لأنّ المغيرة بن شعبة لم يُعرف له قبر ، وقيل أنّه مات بالشام.
وهكذا لم يزل قبره عليه السلام مخفيّاً ، لا يعرفه غير أبنائه والخُلَّص من شعيته عليه السلام.
حتّى دلَّ عليه الإمام جعفر الصادق عليه السلام أيّام الدولة العباسيّة ، حينما زاره عند وروده إلى أبي جعفر المنصور وهو في الحيرة ، فعرفته الشيعة ، واستأنفوا إذ ذاك زيارته.
وكان قبل ذلك قد جاء أيضاً الإمام علي بن الحسين بن أمير المؤمنين عليهم السلام من الحجاز إلى العراق ، مع خادم له لزيارته ، فزاره عليه السلام ثمّ رجع.
ثمّ عرَّفه وأظهره الخليفة العبّاسي هارون الرشيد ، بعد سنة ۱۷۰ هـ ، فعرفه الناس عامَّة.
وكان أوّل من عَمَّر القبر الشريف هو هارون الرشيد ، بعد سنة ۱۷۰ هـ ، لأنّ الرشيد استخلف سنة ۱۷۰ هـ ، ومات سنة ۱۹۳ هـ.
فإظهار القبر وتعميره كان في خلافته ، إذ أمر ببناء قُبَّة على القبر ، لها أربعة أبواب من طِين أحمر ، وعلى رأسها جرَّة خضراء وهي ـ اليوم ـ في الخزانة ، كما جاء في كتاب أعيان الشيعة ، وأخذ الناس في زيارته والدفن لموتاهم حوله.
وإن العمارة الموجودة اليوم ، والمشهورة بين أهل مدينة النجف الأشرف ، هي للشاه عبّاس الصفوي الأوّل.
فجعل القبَّة خضراء بعد أن كانت بيضاء ، ويُحتمل أن تكون هذه العمارة بأمر الشاه صفي الصفوي ، سنة ۱۰٤۷ هـ ، والد الشاه عبّاس الصفوي ، حيث توفّي صفي الصفوي عام ۱۰٥۲ هـ ، فأتمَّها ولده الشاه عبّاس الصفوي سنة ۱۰٥۷ هـ.
ثمّ تنافست الملوك والأُمَراء في عمارته والإهداء إليه ، وهو اليوم صرح تأريخي شامخ ، تعلوه قُبَّة كبيرة مذهَّبة ، ومئذنتان كبيرتان ذهبيَّتان ، وله صحن مربع كبير ، له خمسة أبواب من جهاته الأربعة ، يؤمُّه المسلمون من جميع أنحاء العالم ، لتجديد الولاء والزيارة له.
فسلامٌ عليك يا أبا الحسن ، وعلى ضجيعيك آدم ونوح ، وعلى جاريك هود وصالح ، ورحمة الله وبركاته.
المصدر : شبكة الإمامين الحسنين للتراث والفكر الإسلامي