الحلية (۱) والأغاني (۲) وغيرهما (۳) : حجّ هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الإستلام من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين عليه السلام وعليه إزار ورداء ، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة ، بين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز ، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتّى يستلمه هيبة له ، فقال شامي : من هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أعرفه ، لئلّا يرغب فيه أهل الشام ، فقال الفرزدق وكان حاضراً : لكنّي أنا أعرفه ، فقال الشامي : من هو يا أبا فراس ؟ فأنشأ قصيدة ذكر بعضها في الأغاني ، والحلية ، والحماسة ، والقصيدة بتمامها هذه :
يا سائلي أين حلّ الجود والكرم ؟ | عندي بيان إذا طلابه قدموا | |
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته | والبيت يعرفه والحلّ والحرم | |
هذا ابن خير عباد الله كلّهم | هذا التقي النقي الطاهر العلم | |
هذا الذي أحمد المختار والده | صلّى عليه إلهي ما جرى القلم | |
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه | لخر يلثم منه ما وطى القدم | |
هذا علي رسول الله والده | أمست بنور هداه تهتدي الاُمم | |
هذا الذي عمّه الطيّار جعفر | والمقتول حمزة ليث حبه قسم | |
هذا ابن سيّدة النسوان فاطمة | وابن الوصيّ الذي في سيفه نقم | |
إذا رأته قريش قال قائلها | إلى مكارم هذا ينتهي الكرم | |
يكاد يمسكه عرفان راحته | ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم | |
وليس قولك : من هذا ؟ بضائره | العرب تعرف من أنكرت والعجم | |
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت | عن نيلها عرب الإسلام والعجم | |
يغضي حياءاً ويغضى من مهابته | فما يكلّم إلّا حين يبتسم | |
ينجاب نور الدجى عن نور غرّته | كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم | |
بكفّه خيزران ريحه عبق | من كف أروع في عرنينه شمم | |
ما قال : « لا » قطّ إلّا في تشهّده | لولا التشهّد كانت لاؤه نعم | |
مشتقه من رسول الله نبعته | طابت عناصره والخيم والشيم | |
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا | حلو الشمائل تحلو عنده نعم | |
إن قال قال بما يهوى جميعهم | وإن تكلّم يوماً زانه الكلم | |
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله | بجدّه أنبياء الله قد ختموا | |
الله فضله قدماً وشرفه | جرى بذاك له في لوحه القلم | |
من جده دان فضل الأنبياء له | وفضل اُمّته دانت لها الاُمم | |
عمّ البريّة بالإحسان وانقشعت | عنها العماية والإملاق والظلم | |
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما | يستوكفان ولا يعروهما عدم | |
سهل الخليقة لا تخشى بوادره | يزينه خصلتان : الحلم والكرم | |
لا يخلف الوعد ميموناً نقيبته | رحب الفناء أريب حين يعترم | |
من معشر حبّهم دين وبغضهم | كفر وقربهم منجى ومعتصم | |
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم | ويستزاد به الإحسان والنعم | |
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم | في كلّ فرض ومختوم به الكلم | |
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم | أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم | |
لا يستطيع جواد بعد غايتهم | ولا يدانيهم قوم وإن كرموا | |
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت | والاسد أسد الشرى والبأس محتدم | |
يأبى لهم أن يحلّ الذمّ ساحتهم | خيم كريم وأيد بالندى هضم | |
لا يقبض العسر بسطاً من أكفّهم | سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا | |
أيّ القبائل ليست في رقابهم | لاوليّة هذا أوله نعم ؟ | |
من يعرف الله يعرف أوليّة ذا | فالدين من بيت هذا ناله الامم | |
بيوتهم في قريش يستضاء بها | في النائبات وعند الحكم أن حكموا | |
فجدّه من قريش في ارومتها | محمّد وعلي بعده علم | |
بدر له شاهد والشعب من اُحد | والخندقان ويوم الفتح قد علموا | |
وخيبر وحنين يشهدان له | وفي قريضة يوم صليم قتم | |
مواطن قد علت في كلّ نائبة | على الصحابة لم أكتم كما كتموا |
فغضب هشام ومنع جائزته وقال : ألا قلت فينا مثلها ؟ قال : هات جدّاً كجدّه وأباً كأبيه واُمّاً كاُمّه حتّى أقول فيكم مثلها ، فحبسوه بعسفان بين مكّة والمدينة ، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به ، فردّها وقال : يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلّا غضباً لله ولرسوله ، وما كنت لارزأ عليه شيئاً ، فردّها إليه وقال : بحقّي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك ، فقبلها ، فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس ، فكان ممّا هجاه به قوله :
أيحبسني بين المدينة والتي | إليها قلوب الناس يهوي منيبها | |
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد | وعينا له حولاء باد عيوبها (٤) |
ومن الغرائب وبعض الغرائب مصائب انّ هذا الديوان « عنى بجمعه وطبعه والتعليق عليه عبد الله إسماعيل الصاوي ، صاحب دائرة المعارف للأعلام العربيّة » إذا قرأنا مقدّمته نجد الصاوي يشير في ص ٥ انّ هشاماً حبس الفرزدق بعسفان لما مدح علي ابن الحسين عليه السلام سنة حجّ هشام مستنداً في ذلك إلى ابن خلكان ، ثمّ يذكر أوّل البيتين اللذين قالهما الفرزدق في حبسه كما في الأصل نقلاً عن شرح رسالة ابن زيدون. هذا كلّه نجده في المقدّمة ، لكنّا نجده في نفس الديوان في ج ١ ص ٥١ يذكر البيتين بتفاوت ثمّ يشير في الهامش إلى اختلاف الرواية في سبب إنشائهما ، ويذكر رواية الاغاني المصرحة بأن الفرزدق قالهما حين حبسه هشام على مدحه علي بن الحسين عليه السلام بقصيدته التي فأخبر هشام بذلك فأطلقه ، وفي رواية أبي بكر العلاف أنّه أخرجه إلى البصرة (٥).
الهوامش
۱. حلية الأولياء ج ٣ ص ١٣٩.
۲. الاغانى ج ١٤ ص ٧٥ وج ١٩ ص ٤٠ طبع الساسي بمصر.
۳. وهم جمع كثير من المتقدّمين والمتأخّرين وحسبك منهم من أعلامنا المتقدّمين الشيخ المفيد في الإختصاص ص ١٩١ ، والاربلي في كشف الغمة ج ٢ ص ٢٦٧ والراوندي في الخرايج والجرايح ص ١٩٥ والسيّد المرتضى في أماليه ج ١ ص ٦٧ ٦٩ والشيخ حسين ابن عبد الوهّاب معاصر المرتضى والرضي ومشاركاً لهما في بعض مشايخهما في عيون المعجزات ص ٦٣ طبع النجف. أمّا المتأخرون فلا يسعني ذكرهم لكثرتهم.
أمّا سائر أعلام المسلمين الذين ذكروا ذلك فهم كثير وإليك طائفة منهم : أبو الفرج ابن الجوزى في صفة الصفوة ج ٢ ص ٥٤ ، والسبكي في طبقات الشافعيّة ج ١ ص ١٥٣ وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ج ١ ص ١٤٢ ، واليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٣٩ ، وابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام زين العابدين عليه السلام ، وابن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة الفرزدق ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ص ٧٩ طبع ايران ، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة ص ١٩٣ طبع النجف ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ ص ١٨٥ طبع ايران ، والدميري في حياة الحيوان مادّة « الأسد ».
والسيوطي في شرح شواهد المغني ص ٢٤٩ طبع مصر سنة ١٣٢٢ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب ص ٣٠٣ طبع النجف ، والخطيب التبريزي في شرح ديوان الحماسة ج ٢ ص ٢٨ ، والعيني في شرح الشواهد الكبرى بهامش خزانة الأدب للبغدادي ج ٢ ص ٥١٣ ، والقيرواني في زهر الآداب ج ١ ص ٦٥ ، وابن نباتة المصري في شرح رسالة ابن زيدون بهامش الغيث المسجم للصفدي ج ٢ ص ١٦٣ ، وابن كثير الشامي في البداية والنهاية ج ٩ ص ١٠٨ ، وقال : وقد روى من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد الخ ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ص ١٩٨ طبع مصر سنة ١٣٧٥ ، والشبلنجي في نور الأبصار ص ١٢٩ والصاوي في ديوان الفرزدق ج ٢ ص ٨٤٨ وغيرهم وغيرهم.
٤. ديوان الفرزدق ج ١ ص ٥١ وفيه « يرددنى » بدل « أيحبسنى » وتفاوت في البيت الثانى.
أوّلها « هذا الذي تعرف البطحاء وطأته » الخ.
أمّا إذا رجعنا إلى نفس الديوان في حرف الميم في ج ٢ ص ٨٤٨ نجده يذكر ستّة أبيات فقط من القصيدة ولا أدرى ما الذي حداه إلى هذه الخيانة الأدبيّة ؟ أليس هو الذي سبق منه أن نقل عن تاريخ ابن خلكان والأغاني وشرح رسالة ابن زيدون سبب انشائها ، ان لم يعتمد هذه الكتب فلم نقل عنها ؟ وان اعتمدها في نقل السبب فلم لم ينقل القصيدة بكاملها عنهم ؟ أليست هي جميعها من شعر الفرزدق ؟ ألم يعلم وهو « الذي عنى بجمعه الخ » انّ القصيدة مثبتة في ديوان الفرزدق قبل أن يخلق ؟ فهذا سبط ابن الجوزي ذكر في تذكرة الخواصّ رواية أبي نعيم في الخلية للقصيدة ، ثمّ عقب ذلك بقوله : قلت : لم يذكر أبو نعيم في الحلية إلّا بعض هذه الأبيات والباقي أخذته من ديوان الفرزدق اه ، ولعلّ الصاوي حاول تجاهل الواقع تقليداً لسلفه هشام حين تجاهل ذلك ؟ وظنّ وظنّه اثم أنّه بفعله وفعله جرم سيخفى الحقيقة ، ولن فاته أنّها تظهر ولو بعد حين.
وانّ من الخير أن نرشد القارئ الكريم إلى الطبعة الجديدة من ديوان الفرزدق « طبع دار صادر ودار بيروت » فقد أشار الأديب الفاضل الاُستاذ كرم البستاني في مقدّمة الديوان ص ٥ إلى هذه القصيدة العصماء ، كما أنّه ذكرها في ج ٢ ص ١٧٨ وهي أوّل قصيدة في حرف الميم.
٥. الماقب ج ٣ ص ٣٠٦.
مقتبس من كتاب : [ بحار الأنوار ] / المجلّد : ٤٦ / الصفحة : ۱۲٤ ـ ۱۲۸