فكرة العالم الديني كانت تراودني منذ فترة سنوات ما قبل السلوك الفعلي لهذا الطريق الذي اخترته لحياتي، وكان من مبعث الفكرة عندي أن لي ابن عم كان قد ذهب في أواسط الستينات الى النجف الأشرف للدراسة الدينية، وعاد بعد سنتين عام 1967 وهو يلبس العمامة البيضاء، مما كان يكسبه احترام الناس من حوله، فأعجبتني الفكرة هذه ودخل في قلبي تصور – لصغر سني – يومها بأن العالم الديني هو أقل الناس عملاً وآخرهم احتراماً في المجتمع من خلال ما كنت أرى وألمس.
وفي العام 1971 كانت رحلتي الأولى إلى النجف للدراسة الدينية ولكن على قاعدة أن مهمة رجل الدين هي الوعظ والإرشاد وإنقاذ نفسه يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولم تكن الصورة للأهداف واضحة عندي كما هي اليوم، لأنني كنت أتصور المفهوم التقليدي فقط لرجل الدين كما كان سائداً يومها في مجتمعاتنا وخاصة في لبنان، وأدى وصولي إلى النجف واستفساري عن الأحوال والظروف المعيشية التي يحياها طلبة العلوم الدينية، إلى التفكير في التراجع لأني تخيلت تلك المعاناة التي سوف أواجهها ولم أكن معتاداً على العيش فيها.
بالطبع إن ذلك كان يكشف عن السذاجة في التفكير في أول سن الشباب، لكن بعد عودتي من النجف، والالتزام بالمطالعة والدرس، بدأت نظرتي الى مهمة رجل الدين تتغير، والظروف التي عشناها أواسط السبعينات لعبت دوراً رئيساً في تغيير تلك النظرة الساذجة، خاصة بعد دخولنا معترك الساحة في لبنان، حيث كانت الفتنة قد بدأت.
بعد التغير الجذري لنظرتي إلى العالم الديني، صممت على العودة إلى النجف، وبالفعل ذهبت وبدأت بالدراسة، لكن بعد قصة طريفة حصلت وهي أنه في يوم وصولي إلى النجف فوجئت بوصول والدي رحمه الله في اليوم الثاني مباشرة ومعه والدتي وعمي وشيخ منطقتنا التي نسكن فيها في لبنان، وعندما أخبرته برغبتي في دراسة العلوم الدينية ظهرت المفاجأة عليه ولم يرد أن يصدّق بادئ ذي بدء، إلا أنه لما وجدني مصراً على رأيي، حاول تنبيهي بأنه سوف يقطع عني كل المساعدات المادية وغيرها حيث كنت يومها ما أزال أعيش مع الأهل كوني لم أكن متزوجاً، لكنني أجبته بأن من يسلك سبيل الله، فإنه تعالى لا يتركه وحيداً، ومن يتوكل على الله فهو حسبه لأنه هو الذي رزقك وهو قادر على أن يرزقني، وعندما رآني بذلك العزم والتصميم لم يصر عل رأيه وترك لي حرية اتخاذ القرار، وهكذا ابتدأت بالدراسة، والحمدلله الذي أعانني في سلوك هذه الطريق ويسّر لي طريق الدرس والتحصيل، فهذه هي قصتي التي رأيت من المناسب عرضها، أما العبر والدلالات التي يمكن استخلاصها فهي التالية:
أولاً: أن لا يجمد الإنسان على قناعاته أيام الصبا باعتبار أنها قد تكون خليطاً من الشرع والعرف والتقاليد ما قد يحمله ذلك الخليط الممتزج من انحرافات بسبب ابتعاد المجتمع عن الأصول الإسلامية، خاصة في أواساط المجتمع اللبناني الذي تعرضت المجموعة الإسلامية فيه لحصار ثقافي وفكري واجتماعي أدى إلى شلل كبير من أنماط الفكر غير الإسلامي الوافدة إلى أوساطنا على مستوى القناعات والأعراف والتقاليد وما إلى ذلك، وكما هو ملاحظ في أوساطنا حتى الآن فعلياً.
ثانياً: تعميق حالة الالتزام بالإسلام المحمدي الأصيل عبر أخذه من المصادر الأساسية ومن الأشخاص المعروفين بالوعي والالتزام والتقوى، لأن هؤلاء هم الأجدر والأكفأ لبيان الأسلوب الصحيح في تطبيق المفاهيم الإسلامية، وقد شجعت الشريعة الإسلامية على تقليد هؤلاء فيما يقولون ويفعلون بشروط مفصلة في محلها.
ثالثاً: بعد التعمق في الالتزام وتحصيل درجة الوعي الرسالي، على الإنسان أن يبدأ بدراسة كل قناعاته المتكونة لديه، ومحاسبتها على ضوء الشريعة الغراء، ولا شك بأنه سيجد اختلافاً بين ما هو موجود عنده من قناعات وبين الشريعة، وهذا ما ينبغي أن يدفع بالمسلم الملتزم إلى البدء بالتخلي عن القناعات التي حصل عليها من بيته ومحيطه، وهنا يجب أن تبرز قوة المسلم وثقته بدينه حتى لا ينهزم أمام الانحراف المرتكز في أوساط الناس، لأن الركون إلى تلك القناعات خاصة إذا كانت تمس المبادئ والأسس هي نقطة الضعف الكبرى التي ابتلينا بها، مما سمح بالفكر المنحرف أن يغزو ساحاتنا وبلادنا وينجرف معها كل جيلنا والأجيال التي سبقتنا، وتشكلت بالتالي تلك القناعات الباطلة، التي ما زالت مترسخة حتى اليوم في أذهان الكثير من المسلمين بسبب اكتساب القناعات من هنا وهناك وأخذها اخذ المسلّمات من دون إرجاعها إلى الإسلام الذي غيبناه عن ساحاتنا في الكثير من المجالات الأساسية والمبدئية وفي الكثير من عاداتنا وتقاليدنا.
ولهذا فإن العبرة الأساسية من كل هذه القصة هي أن لا نأخذ القناعات من مجتمعنا وبيئتنا أخذ المسلّمات من دون النظر في صحتها وموافقتها للشريعة أو في عدم مخالفتها على الاقل، خاصة إذا علمنا أن المجتمع الذي نعيش فيه يحمل الكثير من القناعات البعيدة عن الإسلام فكراً وسلوكاً وعادات، وهذا ما يستلزم منا أن نعود إلى إسلامنا لنفهمه حتى نستطيع أن نحاكم قناعاتنا على أساسه، ومن هنا فإني أوجه الدعوة إلى عموم الإخوة والأخوات من منطلق إسلامهم أن يفهموا الإسلام ويتعمقوا في معرفته، لأن هذا الطريق وحده هو الذي يجعلهم من ذوي البصائر والفكر القادر على التمييز بين الحق والباطل في كل ما يحملونه من قناعات وما يوجد في الساحة التي يعيشون فيها أيضاً1.
- 1. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).