ذكروا أنه حدث في عهد (المعتضد العباسي) الذي تولى الخلافة من سنة 279 إلى 289هـ أن اقترض أحد الضباط الكبار بعضا من المال من عجوز في بغداد، ورفض فيما بعد أن يرده عليه .. وكلما حاول الحصول على ماله لا يستطيع. حتى أرشده أحد الناس إلى خياط بسيط قائلا له: انه الوحيد الذي ليستطيع أن يحصل لك على مالك.
ذهب إليه. كان خياطا بسيطا للغاية ولذلك أدهشه أنه قال له: أجلس هنا فسرعان ما سآخذ لك بحقك
ثم أمر احد العمال أن يذهب إلى بيت الضابط، ويقول له ان يأتي إليه، ومعه نقود الرجل.
وبعد لحظات كان الضابط يسلم الرجل العجوز دينه الذي عليه ويعتذر إليه، كما يعتذر الطفل إلى أبيه …
وبعد أن ذهب الضابط قال العجوز للخياط: كيف اصبحت لك سلطة على هؤلاء؟
فأجابه الخياط: إن لي قصة. فأنا كما ترى خياط عادي وليست لي أية صفة رسمية وإنما حصلت على هذا المركز الذي شاهدت آثاره لقضية حدثت هنا.. فقد كنت جالسا في شرفة بيتي ذات ليلة وإذا بي أرى أن أحد الضباط يمر وهو على فرسه من أمام بيتنا، ومن جانب آخر كانت امرأة جميلة تمر بهدوء ورزانة، وفجأة نزل الضابط من على ظهر جواده، وأمسك بالمرأة، وأركبها بالقوة على الجواد وانطلق بها نحو بيته بينما كانت المرأة تصرخ مستغيثة:
لست زانية.. أنا متزوجة وزوجي أقسم علي بالطلاق إن بت ليلة واحدة خارج الدار … ولكن لم يعتن لها.
فنزلت من الشرفة، وجمعت بعض الرجال، وذهبنا نتوسط في قضيتها، ولكنه أمر الشرطة فضربونا، ومزقونا.. فجئت إلى البيت، لكني لم أذق النوم لحظة واحدة كنت أفكر في المرأة، وكيف أن زوجها سيطلقها إذا باتت هذه الليلة في بيت ذلك الضابط.
وفيما أنا أفكر في ذلك، جاءتني فكرة أن أذهب إلى مئذنة الجامع وأؤذن للصبح، وبالطبع فإن الضابط سيظن أن الصبح قد حان، فيتركها لشأنها، فتذهب إلى الدار قبل أن يتم الليل، وبذلك نتخلص من الطلاق.
وهكذا ذهبت إلى الجامع، وصعدت المئذنة وبدأت أؤذن بصوت عال.. وما أن أنهيت الآذان حتى رأيت الشرطة وقد أحدقوا بالجامع، وطلبوا مني أن أذهب معهم إلى قصر الخليفة (المعتضد) (فهو بانتظارك) كما قالوا لي.. فذهبت إليه، وكان ممتلئاً بالغضب فبادرني قائلاً: ما هذا بوقت أذان؟ أليس للبلد أحكام.
فقلت له: طول الله بال الأمير. ان أحكام البلد قد ديست بالأقدام يوم ترك للكبير أن يفتك باعراض النساء ولا من رادع.
ثم قصصت عليه ما جرى. فأمر بإحضار الضابط، والمرأة وبعد أن تأكد من أمرهما، أمر بقتل الضابط فقتل، ثم أفرج عن المرأة وأكرمها.. وطلب مني أن (أؤذن) كلما رأيت حادثة من هذا النوع.. وبما أن الخبر شاع بين الضباط والرؤساء فإنهم يهابونني ولهذا كانت لي عليهم السلطة.. نذكر هذه القصة التاريخية كمدخل للحديث عن المسؤولية العامة للمواطنين في الدفاع عن حقوق الإنسان. فنحن في هذه القصة بناء على وقوعها أمام مواطن عادي، رأى أمامه انتهاكاً لحقوق الإنسان، من قبل موظف كبير في الدولة، استغل موقعه للاعتداء على آخرين، فلم يسمح لهذا المواطن البسيط ضميره أن يسكت على هذه الظلامة، ولم يبرر لنفسه بمحدودية إمكاناته أمام قوة ونفوذ ذلك الضابط، بل اعتصر ذهنه للتفكير في وسيلة ممكنة للدفاع عن حق تلك المرأة الضعيفة وإنقاذها، وهداه الله تعالى بإخلاصه وصدق نيته إلى طريقة مبتكرة فتحت له السبيل للانتصار لأي مظلوم، والدفاع عن كل حق. وهذا هو الدرس الهام الذي تقدمه لنا هذه القصة: فكل مواطن يجب أن يتحمل مسئوليته تجاه حقوق الإنسان، لأنها أهم وأقدس قضية تستحق الاهتمام والكفاح. فحقوق الإنسان هي مقومات إنسانيته، وانتهاكها يعني الانتقاص من إنسانيته، والنيل من كرامته التي منحها الله تعالى له1.
- 1. صحيفة اليوم 2 / 6 / 2004م، نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله.