م.م. عماد طاب موسى
((الحَمْدُ للهِ الَّذَي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القَائِلُونَ، وَلاِ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ…)) ([1]).
الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه، وجعله نورا لمن استضاء به، وبرهانا لمن حاجج به، ودليلا لمن خاصم به، واللهم صل وسلم على النبي المصطفى وآل بيته النجبا، واجعلهم حجة لنا، ولا تجعلهم حجة علينا.
أما بعد:
فقد تكرر ذكر مفردة (الحمد) كثيرا في خطب الإمام علي عليه السلام التي يحفظها مدون نهج البلاغة، وهذا التكرار له خصوصياته و مرجعياته القرآنية التي بذكرها يحتفل المقام بمراسيم خاصة تنضج الحجج وتقوي المضمون، ولو تصفحنا المعاجم اللغوية لنرقم معنى الحمد وما يتحوقل معها من مفردات تتخذ المسار الدلالي نفسه لوجدنا معنى – الحمد: من ((حمد: الحَمْدُ: نقيض الذَّمّ، يقال: بَلَوته فأحْمَدْتُه أيْ وجَدْتُه حَميداً محمودَ الفِعَال. وحَمِدْتُه على ذلك))([2])
وقيل((الحمد أعم من الشكر ))([3])، ومنهم من يساوي بين دلالة لفظي (الحمد والمدح) بقوله: ((الذي عليه أكثر الأدباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان ، لا فرق بينهما ،تقول : حمدت زيدا على أنعامه ، ومدحته على أنعامه ، وحمدته على شجاعته ، ومدحته على شجاعته ، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الانسان ، وفيما ليس من فعله ، كما ذكرناه من المثالين ، فأما الشكر فأخص من المدح ، لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة ، ولا يكون إلا صادرا من منعم عليه ، فلا يجوز عندهم أن يقال : شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد))([4]) ،(( ولكنّ المعروف أخصّية الحمد من المدح بوجوه : أحدها أن الحمد هو الثّناء على ذي علم وحياة لكماله ، والمدح هو الثّناء على الشّيء لكماله ، سواء كان ذا علم وحياة أم لا. الثّاني أن الحمد لا يكون إلَّا بعد الاحسان ، والمدح قد يكون قبل الاحسان وقد يكون بعده . الثّالث أن الحمد هو الثّناء على الجميل الاختياري ، تقول : حمدته على كرمه ، ولا تقول : على حسنه ، والمدح يعم الاختياري وغيره .
وأما الشكر فربما يعرّف بأنّه تعظيم المنعم من حيث انّه منعم على الشّاكر ، فيكون أخصّ من الحمد من وجه واعم منه بوجه آخر . أمّا الأوّل فلأنّ الشكر لا يكون الَّا على النّعمة الواصلة إلى الشاكر ، والحمد يكون على النّعمة وغيرها ، وعلى النّعمة العائدة إلى الحامد وغيرها، وأمّا الثّاني فلأن الحمد لا يكون إلَّا باللَّسان ، والشكر يكون باللَّسان والجوارح والقلب))([5])،
وتعرب جملة ( الحمد لله) مبتدأ وخبر، وهي متتالية جرت السنة في الافتتاح بها، وقد ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أنه قال: ((كلّ امر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد فهو اقطع))([6])،ومن تجلياتها في القرآن الكريم ما جاء في افتتاحية فاتحة الكتاب، إذ قال الله جلّ وعزّ: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفَاتِحَة: 2)، وغيرها كثير من المواطن التي ذكرت ـ (الحمد لله) ـ في القرآن الكريم([7]) .
ووقف سيبويه عند هذا التركيب وما شابهه(*) قائلا: وإنّما استحبّوا الرفعَ فيه لأنَّه صار معرفةً وهو خَبَرٌ فقَوىَ في الابتداء، بمنزلة عبد الله والرجل الذي تَعلم، لأنَّ الابتداءَ إنَّما هو خَبَرٌ، وأَحسنْه إذا اجتمع نكرة ومعرفة أن يبتدئ بالأعرف؛ وهو أصل الكلام([8]).
و (الحمدُ لله) وإن ابتدأتَه ففيه معنى المنصوب، وهو بدل من اللفظ بقولك: أَحمَدُ الله. وأما قوله: شيء ما جاءَ بك، فإِنه يَحسُن وإن لم يكن على فعل مضمَرٍ، لأنّ فِيهِ معنى ما جاء بك إلا شيء ([9]).
وَقَالَ النحويون: مَنْ نَصَبَ من الْأَعْرَاب الْحَمد لله فعَلى الْمصدر أَحْمد الْحَمد لله، وَأما مَنْ قَرَأَ: الحمدِ لله فعلى الاتباع َللخفة قَالَ الفَرّاء: هَذِه كلمة كَثُرَت عَلَى ألْسنِ العَرب حَتَّى صَارَت كالاسم الْوَاحِد، فَثَقل عَلَيْهِم ضَمُّها بعد كَسْرَة فأَتْبَعوا الكَسْرَة الكَسْرَة.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لحمدُ رفع بالابتداءِ، وقوله: (لِلَّهِ) إخبار عَنِ الْحمْدِ والاختيارُ في الكلَامِ الرفْعُ، فَأمَّا القُرآنُ فلا يُقْرأ فِيه (الحمدُ) إِلا بالرفع، لأن السُّنة تتبع فِي القرآن، ولَا يُلْتَفَتُ فِيَه إِلى غَير الرِّوايةِ الصحِيحَةِ التي قدْ قرأ بها القُراءُ المشْهُورُون بالضَبطِ والثِّقةِ، والرفعُ القَرَاءَةُ، ويجوز في الكلام أن تقول ( الحَمْدَ ) تريد أحْمَد الله الْحَمْدَ فاستغنيْت عن ذِكْرِ ( أحْمَد ) لأن حَالَ الحَمدُ يجب أن يكونَ عليها الْخَلْقُ، إلا أنَّ الرفْعَ أحْسَنُ وأبلغ في الثناءِ على الله عزَّ وجلَّ. وقد رُوي عن قوم من العرب: ( الحمدَ لله ) و ( الحمدِ للَّهِ )، وهذه لغة من لا يُلْتَفَتُ إِليه ولا يتشاغل بالرواية عنه. وإِنَما تشاغلْنَا نحنُ بِرِواية هذا الحرف لِنُحَذِّرَ الناس من أنْ يَسْتعْمِلُوه([10]).
وَمِنْ شَأْنِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا وَهُمْ يَرْمُونَ إِلَى غَرَضٍ عَدَلُوا لِأَجْلِهِ، وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصْبِ هُنَا إِلَى الرَّفْعِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِمَصِيرِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ فِي الْمَقَامِ مِنْ (أَلِ) الْجِنْسِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّقْدِيمِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِمُمْكِنِ الِاسْتِفَادَةِ لَوْ بَقِيَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا إِذِ النَّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَالْمُقَدَّرُ كَالْمَلْفُوظِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً إِذِ الِاسْمُ فِيهَا نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ فَهُوَ يُنَادِي عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَلَا يَحْصُلُ الدَّوَامُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ اعْتِبَارُ التَّقْدِيمِ فَلَا يَحْصُلُ الِاهْتِمَامُ. وَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ النصب كَمَا قرىء بِذَلِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى عُمُومِ الْمَحَامِدِ لِأَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ أَحْمَدُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَعُمُّ إِلَّا تَحْمِيدَاتِ الْمُتَكَلِّمِ من دُونَ تَحْمِيدَاتِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ نَحْمَدُ وَأُرِيدَ بِالنُّونِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وَبِقَرِينَةِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فَإِنَّمَا يَعُمُّ مَحَامِدَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَحَامِدَ الْمُوَحِّدِينَ كُلِّهِمْ، كَيْفَ وَقَدْ حَمِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهَ تَعَالَى وَحَمِدَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمَّا إِذَا صَارَ الْحَمْدُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْحَمْدِ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلَّهِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَمْدٍ. فَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَمْدَ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَالَّذِي يَنْصِبُ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَحْدَهُ لِلَّهِ تَعَالَى([11]).
فَإِنْ قُلْتَ وَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِالْحَمْدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمُّ فَكَانَ الشَّأْنُ تَقْدِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْقَاءَ الْحَمْدِ غَيْرَ مُهْتَمٍّ بِهِ حَتَّى لَا يَلْجَأَ إِلَى تَغْيِيرِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ، قُلْتُ قُدِّمَ الْحَمْدُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ الْحَمْدِ إِذْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَوْلَى النِّعَمِ بِالْحَمْدِ وَهِيَ نِعْمَةُ ابتداء الخلق وبيان تفصيلاته، الى غيرها من نعم الخالق سبحانه والطافه على العباد، فَتِلْكَ الْمِنَّةُ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدِ اشْتَمَلَت الخطبة على الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ التي اختص بها الله سبحانه وحده، وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِوُجُوبِ حَمْدِهِ وَأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَمْدِ لَا مَحَالَةَ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ وَأُزِيلُ عَنْهُ مَا يُؤْذِنُ بِتَأَخُّرِهِ لِمُنَافَاتِهِ
فَكَانَ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالتَّحْمِيدِ سُنَّةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ، وكذا سار على هذا النهج في أدق استعمالاته امير المؤمنين عليه السلام بوصفه ترجمان القرآن ولسانه الناطق.
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح: 1/ 39.
[2] كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170هـ)، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، الناشر: دار ومكتبة الهلال: 3/ 188، وينظر: جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفى: 321هـ)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين – بيروت، ط1، 1987م: 1/ 505.
[3] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين الراوندي(573هـ)، تحقيق: السيد عبد اللطيف الكوهكمري، مكتبة آية الله المرعشي العامة- قم، الخيام- قم، 1406ه: 1/ 24.
[4] شرح نج البلاغة ، ابن ابي الحديد( 656هـ)، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط1، 1378هـ – 1959م: 1/ 58.
[5] نهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي (المتوفى: 1324)، تحقيق : سيد إبراهيم الميانجي، ط4، بنياد فرهنگ امام المهدي ( عج )، مطبعة الاسلامية بطهران:1/ 294.
[6] وسائل الشيعة ، الحر العاملي (1104هـ)، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء الثراث، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، مطبعة مهرـ قم، ط2، 1414: 7/ 170.
[7] وردت متتالية ( الحمد لله) في القرآن الكريم ثلاث وعشرين مرة وهي على الترتيب: الفاتحة: 2، الانعام:1، 45، الاعراف: 43، يونس: 10، ابراهيم: 39، النحل: 75، الاسراء: 111، الكهف: 1، المؤمنون: 28، النمل: 15، 59، 93، العنكبوت: 63، لقمان: 25، سبأ: 1، فاطر: 1، 34، الصافات: 182، الزمر: 29، 74، 75، غافر: 65.
(*) جاء ذكرها في باب ما يُختار فيه أن تكون المصادرُ مبتدأة مبنياً عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات وذلك قولك: الحمدُ لله، والعَجَبُ لك، والوَيلُ لك، والتُّرابُ لك، والخَيْبةُ لك. للاستزادة ينظر: الكتاب، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (المتوفى: 180هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1408 هـ – 1988 م : 1/ 328 وما بعدها.
[8] الكتاب: 1/ 328.
[9] ينظر: الكتاب: 1/ 329.
[10] ينظر: معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب – بيروت، ط1، 1408 هـ – 1988 م: 1/ 45.
[11] ينظر: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ: 1/ 157ـ 158.
المصدر: http://inahj.org