إن العقلانية بطبيعتها وفي نظر العقلاء والحكماء قديماً وحديثاً لا تعرف الاكتمال أو الانتهاء، وليست هناك عقلانية مكتملة، أو عقلانية بلغت درجة الاكتمال، أو وصلت حد الانتهاء، كما ليس هناك ما يمكن وصفه بالعقل الكامل بين البشر.
ومن يدعي امتلاك هذا الوصف، فإنه برهان على نقضه، ودليل على نقصان العقل وليس على كماله أو اكتماله، لأنه عندئذ يصدق عليه إعجاب المرء بنفسه، الذي لا يرتضيه العقلاء والحكماء لأنفسهم، ويوبخون من يدعي ذلك ويستنكرونه، وينهون الناس عنه، وفي حديث للإمام علي يقول فيه (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله).
والله سبحانه اقتضت حكمته العادلة أن يقسم العقل بين الناس، وهذا ما يعرفه العقلاء وغيرهم من الناس، لكي يدركوا حاجة بعضهم لبعض، وبمنطق القرآن الكريم﴿ … لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا … ﴾ 1
وبالعقل يدرك الإنسان حاجته لغيره، وحاجة غيره له، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، وليس أعقل الناس من تفرد على جميع الناس بعقله، وتظاهر بينهم بوصفه أعقلهم، فهذا ليس من العقل، ولا من سيرة العقلاء والحكماء.
ومن يبلغ مرتبة رفيعة في العقلانية، وهي مرتبة سامية وشريفة لا يرتقي إليها إلا صفوة الناس، عليه أن لا يزكي نفسه﴿ … فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴾ 2، ومن وصل إلى مثل هذه المرتبة السامية، عليه أن يحافظ على ثباته واستقامته، لكي يشع منه نور العقلانية، ويكون قبساً، ويظل الناس يقتبسوا منه هذا النور.
وبعد هذه الإشارات، نأتي ونقول إن العقلانية كما ندركها ونتبصرها من حيث المعنى والمفهوم، هي تأكيد ما هو معقول على مستوى النظر والعمل، ونفي ما هو غير معقول على مستوى النظر والعمل، فهناك نفي، وهناك إثبات في معنى العقلانية، وتارة يتحدد المعنى في جانب الإثبات، وتارة يتحدد في جانب النفي، وجانب الإثبات يدل على جانب النفي، والعكس كذلك.
وهذا المعنى يأخذ في الاعتبار جانب العقل والمعقول من جهة، وجانب ما هو ضد العقل والمعقول من جهة أخرى، وجانب ما يتقبله العقلاء والحكماء ويقرون ويعملون به، وجانب ما لا يتقبله العقلاء والحكماء ولا يقرون ولا يعملون به، بمعنى أن العقلانية تتجلى تارة فيما يوافق العقل، وتارة تتجلى في نفي ما يناقض العقل.
ومن جهة أخرى، فإن العقلانية تتجلى تارة على مستوى النظر نفياً أو إثباتاً، وتارة تتجلى على مستوى العمل نفياً أو إثباتاً أيضاً. بناء على ما توارثه العقلاء في تقسيم العقل، إلى عقل نظري وعقل عملي، ويعرفون العقل النظري في إطار إدراك ما ينبغي أن يعلم، والعقل العملي في إطار ما ينبغي أن يعمل.
وعلى مستوى النظر تتجلى العقلانية نفياً وإثباتاً في تقبل ما يقبله العقل والعقلاء، وفي رفض ما لا يتقبله العقل والعقلاء، وفي تحكيم معايير وضوابط العقل والعقلاء، والتي تتجلى في التثبت والتبين والتروي والتذكر والتفكر والتبصر، والدوران مع الدليل أينما دار، والتمسك بالحجة والبرهان ﴿ … قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 3وهكذا على مستوى العمل4.
- 1. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 32، الصفحة: 491.
- 2. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 32، الصفحة: 527.
- 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 111، الصفحة: 17.
- 4. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 18 سبتمبر 2008م، العدد 15363.