نص الشبهة:
فإن قيل: فما وجه قوله تعالى فيما حكاه عن موسى عليه السلام والعالم الذي كان صحبه وقيل إنه الخضر عليه السلام من الآيات التي ابتداؤها: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ إلى آخر الآيات المتضمنة لهذه القصة. وأول ما تسألون عنه في هذه الآيات أن يقال لكم كيف يجوز أن يتبع موسى عليه السلام غيره ويتعلم منه، وعندكم أن النبي (ع) لا يجوز أن يفتقر إلى غيره؟ وكيف يجوز أن يقول له والاستطاعة عندكم هي القدرة وقد كان موسى عل مذهبكم قادرا على الصبر؟ وكيف قال موسى ﴿ … سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ فاستثنى المشيئة في الصبر وأطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته؟ وكيف قال ﴿ … لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ وشيئا نكرا وما أتى العالم منكرا في الحقيقة؟ وما معنى قوله ﴿ … لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ … ﴾ وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام؟ ولم نعت موسى (ع) النفس بأنها زكية ولم تكن كذلك على الحقيقة؟ ولم قال في الغلام: ﴿ … فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ فإن كان الذي خشية الله تعالى على ما ظنه قوم، فالخشية لا يجوز عليه تعالى؟ وإن كان هو الخضر (ع) فكيف يستبيح دم الغلام لأجل الخشية والخشية لا تقتضي علما ولا يقينا؟.
الجواب:
قلنا: إن العالم الذي نعته الله تعالى في هذه الآيات فلا يجوز إلا أن يكون نبيا فاضلا، وقد قيل إنه الخضر عليه السلام، وأنكر أبو علي الجبائي ذلك وزعم أنه ليس بصحيح قال: لأن الخضر (ع) يقال إنه كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا من بعد موسى (ع)، وليس يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسى، وأرشد موسى (ع) إليه ليتعلم منه، وإنما المنكر أن يحتاج النبي (ع) في العلم إلى بعض رعيته المبعوث إليهم.
فأما أن يفتقر إلى غيره ممن ليس له برعية فجائز، وما تعلمه من هذا العالم إلا كتعلمه من الملك الذي يهبط عليه بالوحي، وليس في هذا دلالة على أن ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم، لأنه لا يمتنع أن يزيد موسى في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف مما علمه، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وإن كان ذلك المعلوم يذهب إلى غيره ممن هو أفضل منه وأعلم.
وأما نفي الاستطاعة فإنما أراد بها أن الصبر لا يخف عليك أنه يثقل على طبيعتك، كما يقول أحدنا لغيره: إنك لا تستطيع أن تنظر إلي. وكما يقال للمريض الذي يجهده الصوم وإن كان قادرا عليه: إنك لا تستطيع الصيام ولا تطيقه، وربما عبر بالاستطاعة عن الفعل نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن الحواريين: ﴿ … هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ … ﴾ 1فكأنه على هذا الوجه قال: إنك لن تصبر ولن يقع منك الصبر.
ولو كان إنما نفى القدرة على ما ظنه الجهال، لكان العالم وهو في ذلك سواء، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة، والذي يدل على أنه نفى عنه الصبر لاستطاعته قول موسى (ع) في جوابه: ﴿ … سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا … ﴾ 2ولم قل ستجدني إن شاء الله مستطيعا. ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء، فدل جوابه على أن الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.
وأما قوله: ﴿ … وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ 2فهو أيضا مشروط بالمشيئة، وليس بمطلق على ما ذكر في السؤال، فكأنه قال ستجدني صابرا ولا أعصي لك أمرا إن شاء الله. وإنما قدم الشرط على الأمرين جميعا وهذا ظاهر في الكلام.
وأما قوله: ﴿ … لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ 3فقد قيل أنه أراد شيئا عجبا، وقيل أنه أراد شيئا منكرا، وقيل إن الأمر أيضا هو الداهية. فكأنه قال جئت داهية.
وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أن الأمر مشتق من الكثرة من أمر القوم إذا كثروا، وجعل عبارة عما كثر عجبه، وإذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها، وإن حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله لقد جئت شيئا نكرا واحدا.
في ذلك وجوه
منها: أن ظاهر ما أتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل أن يعرف علته.
ومنها: أن يكون حذف الشرط فكأنه قال إن كنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نكرا. ومنها: أنه أراد أنك أتيت أمرا بديعا غريبا، فإنهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته أنه نكر ومنكر، وليس يمكن إن يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع.
ألا ترى إلى قوله: ﴿ … أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا … ﴾ 3وإلى قوله: ﴿ … أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ … ﴾ 4. ومعلوم أنه إن كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق، فقد أتى منكرا. وكذلك إن كان قتل النفس على سبيل الظلم.
وأما قوله: ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ … ﴾ 5فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه أراد النسيان المعروف، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة، فإن الانسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.
والوجه الثاني: إنه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ … ﴾ 6أي ترك، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ … ﴾ 5. يقول بما تركت من عهدك.
والوجه الثالث: إنه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة كما قال المؤذن لأخوة يوسف عليه السلام: إنكم لسارقون أي إنكم تشبهون السراق. وكما يتأول الخبر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: “كذب إبراهيم (ع) ثلاث كذبات في قوله سارة أختي، وفي قوله بل فعله كبيرهم هذا. وقوله إني سقيم”، والمراد بذلك إن كان هذا الخبر صحيحا أنه فعل ما ظاهره الكذب. وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه أن النبي صلى الله عليه وآله إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه.
فأما فيما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان، ألا ترى أنه إذا نسي أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتصل، فنسب إلى أنه مغفل، فإن ذلك غير ممتنع، وأما وصف النفس بأنها زكية فقد قلنا إن ذاك خرج مخرج الاستفهام لا على سبيل الإخبار.
وإذا كان استفهاما فلا سؤال على هذا الموضع.
وقد اختلف المفسرون في هذه النفس، فقال أكثرهم إنه كان صبيا لم يبلغ الحلم، وأن الخضر وموسى عليهما السلام مرا بغلمان يلعبون، فأخذ الخضر (ع) منهم غلاما فأضجعه وذبحه بالسكين.
ومن ذهب إلى هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زكية على أنه من الزكاة الذي هو الزيادة والنماء، لأن الطهارة في الدين من قولهم: زكت الأرض تزكو إذا زاد ريعها.
وذهب قوم إلى أنه كان رجلا بالغا كافرا ولم يكن يعلم موسى (ع) باستحقاقه القتل، فاستفهم عن حاله. ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالى: ﴿ … حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ … ﴾ 4يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام على مذهب العرب وإن كان بالغا.
فأما قوله: ﴿ … فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ 7فالظاهر يشهد أن الخشية من العالم لا منه تعالى. والخشية ههنا قيل: العلم. كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا … ﴾ 8وقوله تعالى: ﴿ … إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ … ﴾ 9وقوله عز وجل: ﴿ … وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً … ﴾ 10وكل ذلك بمعنى العلم.
وعلى هذا الوجه كأنه يقول إنني علمت بإعلام الله تعالى لي أن هذا الغلام متى بقي كفر أبويه (كفروا أبواه)، ومتى قتل بقيا على إيمانها. فصارت تبقيته مفسدة ووجب احترامه، ولا فرق بين أن يميته الله تعالى وبين أن يأمر بقتله.
وقد قيل أن الخشية هاهنا بمعنى الخوف الذي لا يكون معه يقين ولا قطع.
وهذا يطابق جواب من قال إن الغلام كان كافرا مستحقا للقتل بكفره، وانضاف إلى استحقاقه ذلك بالكفر خشية إدخال أبويه في الكفر وتزيينه (وترديده) لهما.
قال قوم إن الخشية ههنا هي الكراهية. يقول القائل:
فرقت بين الرجلين خشية أن يقتتلا، أي كراهة لذلك، وعلى هذا التأويل والوجه الذي قلنا أنه بمعنى العلم لا يمتنع أن تضاف الخشية إلى الله تعالى.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ … ﴾ 11والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل، وكيف يسمى مالكها بأنه مسكين والمسكين عند قوم شر من الفقير؟ وكيف قال: ﴿ … وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ 11ومن كان وراءهم قد سلموا من شره ونجوا من مكروهة وإنما الحذر مما يستقبل.
قلنا أما قوله: لمساكين ففيه أوجه: منها أنه لم يعن بوصفهم بالمسكنة الفقر، وإنما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة. كما يقال لمن له عدو يظلمه ويهضمه أنه مسكين ومستضعف وإن كان كثير المال واسع الحال. ويجري هذا مجرى ما روي عنه عليه السلام من قوله: ” مسكين مسكين رجل لا زوجة له “. وإنما أراد وصفه بالعجز وقلة الحيلة وإن كان ذا مال واسع.
ووجه آخر: وهو أن السفينة الواحدة البحرية التي لا يتعيش إلا بها ولا يقدر على التكسب إلا من جهتها كالدار التي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها، فهو مضطر إليها ومنقطع الحيلة إلا منها. فإذا انضاف إلى ذلك أن يشاركه جماعة في السفينة حتى يكون له منها الجزء اليسير، كان أسوأ حالا وأظهر فقرا.
ووجه آخر: إن لفظة المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون، فإذا صحت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال. فأما قوله تعالى: ﴿ … وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ 11فهذه اللفظة يعبر بها عن الإمام والخلف معا. فهي ها هنا بمعنى الإمام.
ويشهد بذلك قوله تعالى: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ … ﴾ 12يعني من قدامه وبين يديه.
وقال الشاعر: ليس على طول الحياة ندم *** ومن وراء المرء ما لا يعلم
وقال الآخر: أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصى تحنى عليها الأصابع
ولا شبهة في أن المراد بجميع ذلك: القدام.
وقال بعض أهل العربية إنما صلح أن يعبر بالوراء عن الإمام إذا كان الشئ المخبر عنه بالوراء يعلم أنه لا بد من بلوغه ثم يسبقه ويخلفه.
فتقول العرب: البرد وراءك وهو يعني قدامك، لأنه قد علم أنه لا بد من أن يبلغ البرد ثم يسبق.
ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يريد أن ملكا ظالما كان خلفهم وفي طريقهم عند رجوعهم على وجه لا انفكاك لهم منه ولا طريق لهم إلا المرور به، فخرق السفينة حتى لا يأخذها إذا عادوا عليه.
ويمكن أن يكون وراءهم على وجه الإتباع والطلب والله أعلم بمراده 13.
- 1. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 112، الصفحة: 126.
- 2. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 69، الصفحة: 301.
- 3. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 71، الصفحة: 301.
- 4. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 74، الصفحة: 301.
- 5. a. b. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 73، الصفحة: 301.
- 6. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 115، الصفحة: 320.
- 7. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 80، الصفحة: 302.
- 8. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 128، الصفحة: 99.
- 9. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 229، الصفحة: 36.
- 10. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 28، الصفحة: 191.
- 11. a. b. c. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 79، الصفحة: 302.
- 12. القران الكريم: سورة ابراهيم (14)، الآية: 16، الصفحة: 257.
- 13. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 118 ـ 124.