المهر حقٌّ للزوجة يتّفق عليه معها أو مع وليِّها الشرعي وهو “الأب” أو “الجد للأب”، ويُسمَّى المهر في اللغة أيضاً “الصداق” و”الفريضة”، ولا شكّ أنّ أصل المهر ثابتٌ في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة حيث وردت العديد من الآيات والروايات التي تتحدّث عن المهر، تارةً بالإجمال وأخرى بالتّفصيل ممّا يوحي بأهميّة هذا الأمر ضمن عقد الزواج الإسلاميّ.
ولا شكّ أنّ لكلّ حكمٍ من أحكام الإسلام فلسفته الخاصة التي من أجلها شرَّعه الله، وحكم المهر لا يخرج عن هذه القاعدة، وإذا أردنا أن نتحدّث عن فلسفة المهر يمكن أن نحدّد الأسباب التّالية:
أولاً: إنّ الرجل هو الذي يسعى للحصول على إمرأةٍ للاقتران بها، ونادراً ما يحصل العكس، والسرّ في ذلك من النّاحية التكوينيّة أنّ الله خلق الرجل ومنحه الإحتياج إلى المرأة مع حالةٍ وجدانية من العشق لها والسّعي من أجل الوصول إليها، ومنحها الله من الناحية التكوينيّة أيضاً الجمال والحياء والعفّة والإستغناء عن الرجل، ولذا من أجل أن يصل الرجل إلى المرأة التي انجذب إليها لا بدّ من أن يقدّم لها شيئاً كعربونٍ على إرادته لتلك المرأة زوجةً له، وعندما تتقبّل منه ذلك فهو دليلٌ على قبولها أيضاً به كزوج.
ثانياً: إنّ الطّلاق قد جعله الإسلام بيد الرجل (الطّلاق بيد من أخذ بالسّاق)، وهذا يعني أنّ خلوّ عقد الزواج من المهر يجعل المرأة قليلة القدر والقيمة عند الرجل من جهة، ويجعلها من جهةٍ أخرى عُرضةً للطلاق عندما لا يعود هناك حاجةٌ عند الرجل إليها، حيث يمكنه عندئذٍ بسهولةٍِ أن يتخلّى عنها ويبحث عن أخرى وهكذا تصبح المرأة مجرّد سلعةٍ أو أداةٍ لقضاء الرجل وطره منها، كما هو الحاصل حاليّاً في عالم الغرب حيث يعيش الرجل مع المرأة من دون عقد زواج، بل يكتفي كلّ منهما بالمعاشرة، وعندما يسأم أحدهما من الآخر يترك الأمر وكأنّه لم يكن وهذا مثالٌ للتّقريب عن إنفصال الرجل عن المرأة عندما لا يكون هناك مهر، من هنا فإنّ المهر يلعب دور الضّامن نوعاً ما في الحياة الزوجية، حيث أنّ الرجل سوف يفكّر كثيراً عندما يريد أن يطلّق المرأة خصوصاً عندما لا تكون الأسباب والمبررات كافيةً ومقنعةً.
ثالثاً: الكلّ يعلم من مذاق الشريعة الإسلاميّة وحرصه على نشر العفّة والحياء والوقار أنّ المرأة لا يجوز لها أن تكشف عورتها حتى أمام أقرب المقرّبين إليها كأبيها وأمِّها وأختها وسائر الأهل والأقارب، بينما نرى أنّ الزوج يحلّل له الشّرع المقدّس النّظر إليها بما أنّها زوجته وهي عاريةً تماماً، مع أنّه قد يكون غريباً عنها من جهة النّسب وقرابة الدم، والسبب أنّ المراد من الزواج أمورٌ عديدةٌ، ومنها بشكلٍ أساس تحقيق كلٌّ من الرجل والمرأة الوسيلة المشروعة لتحصيل شهواتهما الجنسيّة، وهذا لا يمكن أن يتحقّق من دون إنكشاف كلٍّ من الزوجين على الآخر حتّى على مستوى العورة للوصول إلى ممارسة الفعل المعلوم بين الزوجين، ومن هنا يمكن أن نعتبر أنّ المهر هو البديل الذي ارتضاه الشّارع للمرأة حتّى تكشف عورتها أمام زوجها في الوقت الذي يحرّم عليها فعل ذلك أمام الأهل والأقارب، ولا شكّ أنّ كشف المرأة لعورتها أمام زوجها أوّل مرة يحتاج إلى جرأةٍ أدبيّة وأخلاقيّة بعدما كانت عورتها مستورةً منذ بلوغها السنّ الشرعيّ حتى اللحظة التي تريد كشفها، ولعلّ المهر الذي يتمّ دفعه للمرأة هو تعويضٌ ماديٌّ عن ذلك الكشف المادي والمعنوي معاً من جانب المرأة، وفي القرآن الكريم توجد آيةٌ كريمةٌ في “سورة النساء” لعلّها ترشد إلى هذا المعنى وهي: {وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً}، ولذا يقول السيد محمد حسين الطباطبائي “قده” في تفسير هذه الآية (وكيف تأخذونه…. إلى آخر الآية، الإستفهام للتعجّب، والإفضاء هو الإتصال بالمماسّة، وأصله الفضاء بمعنى السّعة، ولمّا كان هذا الأخذ إنّما هو بالبغي والظلم، ومورده مورد الإتصال والإتّحاد أوجب ذلك صحّة التعجّب حيث إنّ الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الزواج من الإفضاء والإقتراب كشخصٍ واحدٍ، ومن العجب أن يظلم شخصٌ واحدٌ نفسه ويؤذيها أو يؤذي بعض أجزائها بعضاً آخر). وأمّا الميثاق الغليظ ففسّروه بأنّه “العلقة التي أبرمها الرجل مع المرأة بالعقد الواقع بينهما” أو “أنّه العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من الإمساك بالمعروف أو التّسريح بالإحسان”.
رابعاً: إنّ عقد الزواج الواقع بين الرجل والمرأة ينبغي بالأصل أن يؤسّس لحياةٍ زوجية يسعَدُ بها الزوجان طبقاً للآية الكريمة: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة}، لأنّ المراد من الزواج هو الإستقرار والشعور بالأمن لكلٍّ من الزوجين ولذا تقول الآية الأخرى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن}، ولكن قد يحدث أحياناً أن لا تسير الأمور بين الزوجين على الوجه المطلوب وتصل الأمور إلى حالة “أبغض الحلال عند الله” وهو “الطّلاق” فتستحقّ المرأة في هذه الحالة المهر الذي قد يكون عاملاً مُساعداً لها ولو لفترةٍ من الوقت كونه ملكاً لها في ذمّة الزوج من لحظة إجراء عقد الزواج، أو قد يموت الزوج فيكون المهر كذلك مُعيناً للمرأة لفترةٍ ما حتّى تتمكّن من تدبير أمورها التي تكون قد اهتزّت بسبب الطّلاق أو الموت.
بل يمكن القول أيضاً بأنّ المهر مهما كانت قيمته وكان مقداره قد ينفع المرأة حتّى في حال بقاء العلقة الزوجيّة حيث لا طلاق ولا موت، إذ قد يكون للمرأة المتزوّجة نوعٌ من الحاجات الإضافيّة التي ترغب بها فيكون المهر مُساعداً لها على تأمينها، إذا فرضنا أنّ الزوج لم يكن قادراً على تأمينها من ماله الخاص الذي يصرف منه ما هو الواجب عليه من النفقة للزوجة، أو قد نفترض أنّه قادر لكنّه لا يريد تأمينها لها من ماله، فيمكنها إستعمال مهرها للحصول على ما تريد، لكنّ هذا السبب للمهر يمكن إعتباره من المتمّمات لا من الأسباب الرئيسة لكون المهر جزءاً من عقد الزواج في الإسلام.
ومن هنا نرى أنّ للمهر فوائد عديدة كما أنّه له مبرراته الموضوعيّة في الشريعة الإسلاميّة كما توضح ذلك.
نعم هناك مسائل جانبيّة في مسألة المهر إهتمّ الإسلام بها ولم يهملها وهي بنحو الإختصار على النّحو التالي:
أن يكون المهر من المال الحلال أو الأشياء المحلّلة إن لم يكن المهر مالاً.
أن يكون معلوماً غير مجهولٍ من كل جهة.
عند عدم ذكر المهر في عقد الزواج ينبغي على الرجل التعويض للمرأة عنه بحسب حاله من الغنى أو الفقر إذا طلّقها قبل الدخول بها، ويدفع لها مهر المثل مع الدخول بها.
يجوز دفع المهر للمرأة على النّحو الشرعي بمعنى أن تأخذ نصف المهر عند العقد ونصفه الآخر بعد الدخول بها، كما يمكن تأجيل المهر إلى حين الطلاق أو الموت أو لفترةٍ زمنيّةٍ محدّدة، أو يمكن تقسيمه إلى “قسم مُعجّل” تأخذه المرأة حين العقد، و”قسم مؤجّل” إلى ما أوضحناه.
إذا ذكر الرجل للمرأة مهراً في العقد، ثمّ طلّقها أو مات قبل الدخول بها فتستحقّ نصف المهر، أمّا لو طلّقها أو مات بعد الدخول بها إستحقّت كلّ المهر المذكور.
إذا ذكر الرجل للمرأة مهراً لا يجوز للمسلم أن يتملّكه كالخمر أو الخنزير، فمهرها في هذه الحالة يكون مهر أمثالها من النّساء من حيث البكارة أو الثيبوبة وما سوى ذلك من الحالات التي يختلف المهر باختلافها بنظر العرف الإجتماعي العام.
إنّ ذكر المهر في عقد الزواج لا يعني أنّ الزواج من دون ذكره يكون باطلاً، بل إنّ العقد صحيح لأنّ المهر عندنا ليس جزءاً أساسيّاً بل هو من التّوابع لا غير، لأنّ المقصود الأساس من الزواج ليس المهر وإنّما تأسيس الحياة الزوجية ثمّ تكوين الأسرة وتربية الأبناء وما شابه، وعندما يخلو عقد الزواج من ذكر المهر يمكن تصحيحه من خلال ما أوضحناه في نقطة رقم “5”.
وممّا أكّد عليه الإسلام مسألة عدم إرتفاع مهر المرأة، بل أكّد على أن يكون المهر معقولاً ومتناسباً مع العُرف الإجتماعي العام، وأفضل المهور هو مهر الزهراء (عليها السلام) ومقداره “خمسماية درهم من الفضة” أي ما يعادل “خمسين ديناراً من الذهب” بحساب الأيام الأولى من عهد الإسلام في مجتمع المدينة المنوّرة، لأنّ غلاء المهور قد يدفع بالشباب إلى العزوف عن الزواج والإضراب عنه خصوصاً إذا كانوا غير قادرين على تأمين تلك المهور، ولذا ورد في الحديث الشريف: (خير الصداق “المهر” أيسره)، و(أفضل نساء أمّتي أحسنهنّ وجهاً وأقلّهن مهراً)1..
- 1. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد (حفظه الله).