ثمّة في تاريخ الفكر ما يجعل الأمر البسيط غايةً في التعقيد والغموض، فيذهب بالفكرة ناحيةً لم يكن مؤسّسوها قد ذهبوا إليها أو ظنّوا أن تنجرّ إليها، وتاريخ الفكر الديني حافلٌ بهذا الانزياح المفاهيمي للمقولات. مفاهيمٌ بسيطة وواضحة تغدو بمرور الأيّام وضخّ السجالات أكبر ممّا نتصوّر جميعاً.
ولعلّ هذا ما حصل في الفكر الشيعي بالتحديد، حينما حاول فرقاء عديدون إيجاد قفزات نوعيّة في بُنية المفاهيم الشيعيّة نفسها، ممّا عدّه بعضهم اغتيالاً للعقل الشيعي، والشيء الملفت الذي حصل معاصرة هذه القفزات لصيرورة سياسيّة نوعيّة شهدها المجتمع الشيعي، على سبيل المثال الدولة البويهيّة والدولة الصفويّة و..
وما يثير في هذه التحوّلات النوعيّة في الفكر الديني السياقُ الذي يُحدثها، والذي يكمن ـ عادةً ـ في نظام القولبة الذي يتبلور الفكر الديني على أساسه، فالدين أشبه شيء بالماء الصافي الذي يتخذ أشكاله تبعاً للظرف الذي نضعه فيه والآنية التي تستوعبه، ومعنى ذلك أنّ السياق الزمكاني والأركيولوجي الذي يتموضع الفكر الديني داخله يترك تأثيرات بالغة على تكوّن المفاهيم المساعدة في هذا الفكر أو على إعادة إنتاج المفاهيم القديمة عينها في ظلّ أوضاع جديدة تفرض عليه أحياناً إجراء تعديلات بنيويّة رئيسة.
وفي هذا السياق، يلحظ المتابع للفكر الشيعي ظاهرة حركات الغلوّ المذهبي التي شهدها القرنان الثاني والثالث الهجريّان بالخصوص، بوصفها ردّات فعل على واقع القمع الشرس الذي مارسته سلطات الأيديولوجيا الدينيّة الزائفة في العصرين الأموي والعباسي. إنّ تنامي المفاهيم الانتقاميّة في العقل المقموع يتخذ لنفسه أشكالاً داخل الفكر نفسه، تتمظهر في مزيد من الإفراط لصالح المقولات التي مورس القمع بسببها على تلك الجماعة، في تعبير حادّ عن حسّ الذات وإبداء الخصوصيّة والتمايز عن المسار العام.
لكن ظواهر الغلو في العقل الشيعي لم تستطع الصمود أمام المدّ العقلي الاعتزالي ـ بالمعنى العام للكلمة ـ الذي شهده الفكر الشيعي منذ أواسط القرن الرابع الهجري، تلك الفترة التي شهدت غياب شمس الاعتزال عن الحياة الإسلاميّة، حتى اعتبر بعض الباحثين الهامّين في الحضارة الإسلاميّة التشيّعَ وريثَ الاعتزال بعد تنحّيه عن سدّة السلطة.
كان دخول آليات التعامل الاعتزالي ضربةً قاصمة للمفاهيم الغالية المؤدلجة بامتياز ـ إلى جانب ضربات أخرى لسنا بصددها الآن ـ لقد اُعيد إخضاع المقولات التي أنتجها العقل الشيعي لمعايير العقل الأرسطي الفلسفي الذي كان قد تبلور إلى حدّ كبير من تلك الفترة في تاريخ الثقافة الإسلاميّة، وكان من الطبيعي ـ وفق النهج الاعتزالي في قراءة النصّ ـ تأويل النصوص التي لا تنسجم مع العقل بدل تضبيب المفاهيم بحيث تغدو متعاليةً على العقل، كما عرفته الحركات الغالية في الفكر الشيعي، وعبر هذا السبيل اُقصيت الكثير من المفاهيم وظهر العقلان الكبيران في التاريخ الشيعي، وهما: محمد بن محمد بن النعمان المفيد (413هـ)، والشريف المرتضى (436هـ)، ليصوغا علم الكلام صياغة اعتزاليّة على صعيد تحكيم العقل، ثم تنشيط التأويل القائم على نظريّة المجاز الاعتزاليّة.
ويمثّل نتاج هاتين الشخصيّتين أنموذجاً بارزاً لانحسار المفاهيم الغالية انحساراً نسبيّاً، بل وانحسار النصّ لصالح العقل نسبيّاً أيضاً، من هنا ساد في تلك الفترة رفض المذهب الشيعي عموماً للسنّة النبويّة الظنيّة، ممّا أفسح بالمجال لتقليص تلك النصوص التي شاد العقل الغالي مقولاته عليها.
وعندما نتحدّث بهذه الطريقة لا نريد إبداء الاتجاهات الشيعيّة مفروزةً عن بعضها، فمفهوم الغلوّ ما يزال ـ حتى الساعة ـ من المفاهيم الغائمة لدى العديد من دراسي التاريخ الشيعي، كما أنّ تقييمات علماء تلك الحقبة بعضهم بعضاً على صعيد الاتهامات المتبادلة بالغلوّ أو التقصير تظلّ هي الأخرى تقييمات اجتهاديّة قائمة على آراء شخصيّة، أي أنّها ليست حاسمة أيضاً، نظراً للهلاميّة التي تهيمن على مقولة الغلوّ في تلك الحقبة الخطيرة، ممّا يضاعف من الحاجة إلى تحليل هذا المفهوم تحليلاً تاريخيّاً مركّزاً.
على أيّة حال، كانت تنحية النصّ الثاني ـ أي السنّة الظنيّة ـ محاولة فاعلة لتهميش التيارات السلفيّة أو النصيّة في الفكر الشيعي، لكن الأمور لم تجرِ وفق رغبة الاعتزال الشيعي، فقد أنتج الطوسي (460هـ) ـ وهو وليد هذه المدرسة ـ المقولات التي سعت للتوفيق بين تيّاري العقل والنصّ شيعيّاً، ورغم حملات النقد الشديدة التي تعرّض لها لفترة قاربت القرن والنصف، أي حتى نهايات القرن السادس الهجري، من جانب من أصفهم بقايا الاعتزال الشيعي القديم، إلا أنّ مدرسة الطوسي واصلت طريقها بانتظام تجاه المفاهيم العقديّة التي عاد وبلورها العلامة الحلي في القرن الثامن الهجري ضمن اعتزاليّته الجديدة.
وفي تقديري، فإنّ الأصول الفكريّة التي أنتجها الطوسي على صعيد جدليّة العلاقة بين النصّ والعقل كانت الأوفر حظّاً، كما كانت منطلقاً فيما بعد للثورة التي شهدتها الحقبة الصفويّة، وهي الحقبة الأكثر إثارةً في تاريخ هذا المذهب.
يجب أن لا يغيب عن ناظرنا دخول عناصر جديدة في هذه الحقبة الحسّاسة لم يشهدها التاريخ الشيعي فاعلةً من قبل، وسأسمح لنفسي هنا بالتركيز على جماع عنصرين أساسيّين هما:
1 ـ الاتجاه الصوفي بأشكاله المتطوّرة التي شهدها العالم الإسلامي آنذاك، منذ محيى الدين ابن عربي ومن تلاه كالقونوي وابن تركة الإصفهاني وغيرهم.
كانت المقولات التي أنتجها هذا العهد الصوفي بالغة الأهميّة بالنسبة للفكر الشيعي، تماماً كما كانت مقولات العقل الشيعي مؤثرةً أيضاً، ولكي أعطي مثالاً يؤكّد الفكرة أطرح مقولة الإنسان الكامل. ثمّة تصوّر موجود ينافح بقوّة عن العلاقة الجدليّة بين الفكر الشيعي في قضيّة الإمامة وبين فكرة الإنسان الكامل التي تطرحها المدرسة العرفانيّة، بوصفها ضرورة لبقاء نظام الوجود في تمام النشآت.
والشيء الذي يضاعف إثارتنا هو الاتجاه الفلسفي الذي تلا ابن عربي، ساعياً لإعادة إنتاج المقولات الصوفية المتطوّرة في هذا العهد على شكل أنظمة فلسفيّة وجوديّة تنتهج آليّات التعامل الفلسفي، ممّا أحدث تحوّلاً يمكنني أن أنعته بالأهم في التفكير الشيعي العقدي والوجودي بالمعنى الواسع للكلمة.
إنّ جماع الصوفي ـ الفلسفي الذي بدا أنّه يريد أن يعيد إنتاج منظومة الوجود الشيعيّة منذ سيد حيدر الآملي وحتى صدر المتألّهين الشيرازي في القرن الحادي عشر الهجري، قد أسدل الستار على العقل الكلامي الاعتزالي الذي بذل العلامة الحلّي حياته من أجله، فقد كان المنهج الاعتزالي الشيعي بمدرستيه: القديمة المكثّفة مع المرتضى، والحديثة المخفّفة مع الحلّي، قائماً على أساسيّات العقل الكلامي الذي طالما نظرت إليه الفلسفة بسخرية واستهزاء، والآن يُعاد إنتاج التصوّر الشيعي للعالم على أساس العقل الفلسفي ـ العرفاني في أرقى أشكاله مع الحكمة المتعالية، وليس هذا بالأمر البسيط ولا بالهيّن.
وعندما يُعاد إنتاج التصوّر الشيعي للعالم على أساس الفلسفة الصوفية والتصوّف الفلسفي فإنّ مفهوم الإنسان يغدو أساسيّاً في نظام الوجود، ومن ثمّ سيدخل ـ شئنا أم أبينا ـ في أيّ تصوّر سوف ننسجه عن العالم، وإذا لم يكن في الموروث الشيعي فرصة لتطبيق هذا المقول على شيء سوى الإمام، فإنّ من الطبيعي أن يغدو هذا المفهوم هو الأوفر حظّاً لاكتساب تمام الامتيازات الصوفية الفلسفيّة التي أعطيت له، وهذا ما سيعيد تكوين أصل مقولة الإمامة، بل سيقلب تعريفها الأوّلي إلى مفهوم جديد، سنلاحظه حينما نمرّ تاريخيّاً ـ وبسرعة ـ على التعريفات الكلاميّة الشيعيّة القديمة للإمامة حتى بدايات العهد الصفوي، ثمة نقارنها بالتعريفات التي أنتجها التصوّف الفلسفي فيما بعد. فبعد أن كان مفهوم الإمامة نحواً من الرئاسة في الدين والدنيا، وهو ما كان يقترب بعض الشيء من التعريف السنّي لها كما شاهدنا مع مثل الغزالي في القرن الخامس الهجري، غدا اليوم مع التفسير الصوفي الفلسفي كامناً في بُنية نظام العالم، فالإمام حلقة من حلقات الوجود، لا ينتظم شأن العالم بدونها، وهذا ما عزّز مقولات كان قد طرحها جمعٌ من الشيعة من قبل، باتت تطلق على نفسها اسم الولاية التكوينيّة أو العلم المطلق للإمام أو..
إنّ صياغة مقولات الإمامة على أساس أنّها رئاسة في الدين والدنيا سوف يكوّن تصوّرات عن العصمة وصفات الإمام ودوره تختلف بعض الشيء عن إعادة إنتاجها بوصف الإمامة مركزاً رئيسيّاً في نظام الوجود، وكلّ من يستهين بهذا التحوّل الهائل في المفهوم سوف يرتكب أخطاء فادحة في تفسيره العلمي للعقل الشيعي.
2 ـ الاتجاه الإخباري النصّي الذي قام بخطوات متعدّدة الجبهات، معيداً بذلك إنتاج مصادر المعرفة الدينيّة ورتبيّتها، فنحّى العقل جانباً إلى حدّ بعيد، وأطاح ـ بقدر كافٍ ـ بمرجعيّة النصّ القرآني، وقطّع أوصال العلاقة مع الآخر في الاجتماع الإسلامي بفتحه كلّ الملفّات المذهبيّة الضاخّة بالدلالة، وعزّز مرجعيّة السنّة (النصّ الثاني) بما لم يعُد يسمح ـ إلا قليلاً ـ بمناقشتها، معيداً إحضاره في الحياة الشيعيّة وبقوّة، باحثاً عن شتات هذا النصّ المبعثرة هنا وهناك في أرجاء العالم، فثوّر الموروث النصّي الشيعي، وأبدى بقوّة كلّ الامتيازات الشيعيّة على حساب عناصر التواصل مع الآخر.
كان الاتجاه الإخباري مخاصماً ـ فيما بدا لنا ـ للمنحى الصوفي في الثقافة، تشهد على ذلك سجالات تلك الحقبة وكتب عديدة لتيّار الفقهاء والمحدّثين تحارب المنحى الصوفي الذي شهد رواجاً كبيراً في إصفهان إبّانها، لكن هذا الخصام المعلن كان يبدو تحالفاً غير معلن بين الطرفين لإعادة إنتاج العقل الشيعي بما يختلف عمّا كانت الحال عليه زمن هيمنة مدرستَي: الحلّة وجبل عامل بين القرنين السابع والعاشر الهجريّين.
والخطّ الذي ترك تأثيراً كبيراً في العقل الجمعي الشيعي كان تداول النصّ الثاني بقوّة في الوسط الشعبي، وهي الخطوة التي نشط عليها محمد باقر المجلسي (1111هـ)، فأدّى ذلك بعض الشيء إلى نحوٍ من أنحاء تغييب النصّ الأوّل، الأمر الذي بدا جليّاً في التفسيرات الروائيّة الكثيرة التي شهدتها تلك الحقبة، لاسيّما القرن الحادي عشر الهجري، وبدأت تطلّ على النصّ الأوّل من زاوية واحدة وهي زاوية النصّ الثاني، وقد تواصل ذلك حتى القرن الأخير إلى أن نادى محمد حسين الطباطبائي (1983م) بإعادة النظر جدّيّاً في هذا الموضوع.
آثار العصر الصفوي ما تزال حاضرة بقوّة اليوم في الحياة الشيعيّة، مهما كان موقفنا ـ إيجاباً أو سلباً ـ منها، بل يمكنني القول بأنّ الإنسان الشيعي قد اُعيدت صياغته من جديد بعد هذه الحقبة، وهو ما يضاعف الحاجة لدرسها وتفكيك أبعاضها.
وفي هذا الإطار يأتي هذا الكتاب الذي يقدّمه لنا باحث غربي ركّز جهوده لتحليل الفكر الشيعي في منعطف رئيس له، الا وهو المنعطف الصفوي في واحد من أبرز مظاهره، وهو شخصية العلامة محمد باقر المجلسي. إنّه كتاب يستحقّ أن يُقرأ، وأن تُكتب حوله التعليقات، وقد آن الأوان للشيعة بالخصوص لفتح ملفّ الدراسات الغربيّة حول التشيّع، بدل الغرق في القراءات السنّية السلفيّة له.
إنّنا نطالب بمركز دراسات يتناول القراءات الغربيّة للشيعة، أو الشيعة في العين الغربيّة، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل وعلى صعيد تفكيك العقل والتاريخ والمفهوم، وبعد ذلك يُعاد بناء الفكر الشيعي على ضوء التصوّرات المجملة حوله، شريطة التعامل الحرّ مع الدراسات الغربيّة، وعدم الانجرار وراءها في استلابٍ للعقل ومصادرة لطاقاته وإمكاناته.
أعتقد أنّ ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة، من جانب أخينا العزيز الأستاذ حسين عبد الساتر ضرورة، وهي خطوة طيّبة لإرفاد تصوّراتنا عن العقل الشيعي. إنّني إذ أشكر المترجم العزيز على خطوته الجريئة هذه، أشكر كلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب في حلّة جميلة إلى القارئ العربي، آملاً أن يسدّ فراغاً في مكتبتنا العربيّة والإسلاميّة، إن شاء الله تعالى1.
- 1. هذا المقال عبارة عن تقديم للطبعة العربيّة التي ترجمها الأستاذ حسين عبد الساتر، لكتاب: التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي، للكاتب الغربي: كولن تيرنر، وقد طبع الكتاب بالعربية منشورات الجمل، الطبعة الأولى، عام 2008م.