الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) السادس من سلسلة الأنوار الإلهية من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، ولد سنة 83 هـ وارتحل عن هذه الدنيا سنة 148 هـ، معاصراً خلالها عدداً من الخلفاء الأمويين والعباسيين بدءاً من عبد الملك بن مروان الأموي وانتهاء بالمنصور العباسي.
وقد أمضى إحدى عشر سنة مع جده الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ومع أبيه حتى سنة 114 للهجرة، واستقل حينها بالإمامة والولاية الشرعية على المؤمنين والأمة.
وتميز عصر الإمام (عليه السلام) بكثرة النزاعات والفتن والاضطرابات نتيجة الثورات المتلاحقة التي قام بها المسلمون ضد الظلم والتسلط الأموي، وأدت إلى إضعاف سلطتهم، ومن أبرز الثورات المشهورة ثورة “زيد بن علي” و”يحيى بن زيد”.
وقد راقب الإمام (عليه السلام) تلك المرحلة الحرجة بدقة، وسعى لنشر الفكر الإسلامي الصافي والأصيل، مكملاً في ذلك الدور الذي كان قد بدأه في تلك المرحلة والده الإمام الباقر (عليه السلام)، إلا أن الإمام الصادق (عليه السلام)، تمكن من توسيع دائرة نشر الفقه الإسلامي أكثر بسبب الانهيار الذي وصل إليه الحكم الأموي، ذلك الحكم الذي انصرف إلى الدفاع عن نفسه وخفف من قيود المراقبة والتجسس على الإمام (عليه السلام)، كما أن العباسيين الذين رفعوا راية الدفاع عن حق أهل البيت (عليهم السلام) في ثورتهم ضد الأمويين لم يتعرضوا للإمام الصادق (عليه السلام)، بل كانوا بحاجة إلى تأييده ومؤازرتهم له في ذلك، مما رفع بالتالي الكثير من العقبات أمام إيصال الرسالة.
كل تلك الأجواء أحسن الإمام (عليه السلام) استغلالها، وبدأ بنشر المعارف الإسلامية بطريقة لم تتيسر للأئمة (عليهم السلام) من قبله، حتى ورد عن كثير من الرواة بأن مسجد الكوفة كان يعج بالمئات من المحدّثين، وكل واحد منهم يقول “حدثني جعفر بن محمد” وقد وصل العدد إلى تسعماية راوٍ كما تخبر بعض الروايات، ومن أبرز مميزات عهد الصادق (عليه السلام) هو تسمية المذهب الإمامي الاثني عشري باسم “المذهب الجعفري” وهو التعبير المجسد لذلك الدور المهم.
ومن مميزات عصر الإمام (عليه السلام) هو شيوع التيارات الفكرية والعقائدية التي كانت من نتائج الاحتكاك بالثقافات الأخرى للشعوب الداخلة في الإسلام، وهذا ما استدعى من الإمام (عليه السلام) التصدي لتلك الموجة من العقائد المنحرفة حتى لا تأخذ مكانها بين المسلمين، وقد انتدب الإمام لذلك أصحاباً مخلصين من تلامذته النجباء ليكونوا حماة العقيدة الصحيحة، وقد اشتهر منهم في المجال العقائدي “هشام بن الحكم”، وفي المجال الفقهي”أبان بن تغلب” وغيره، وقد وصل عدد تلامذة الإمام والذين رووا عنه إلى أربعة آلاف وأكثر كما تصرح المصادر التاريخية بذلك، ويضاف إلى كل ذلك قيامه بالمناظرات المباشرة مع الزنادقة والفلاسفة الملحدين كعبد الملك الزنديق المصري والجعد بن درهم وابن أبي العوجاء لإبطال مقولاتهم وكشف زيف أدلتهم.
ومن مساهمات الإمام (عليه السلام) في هذا المجال أيضاً دفاعه عن الإسلام بوجه الذين عملوا على ابتداع بعض النظريات المنحرفة من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية كما في عقيدة الجبر والاختيار، حيث رد الإمام (عليه السلام) على تلك المقولة المنحرفة بالقاعدة المأثورة عنه (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين)، كما أبطل غيرها كالقياس والعمل بالرأي.
وأما في الجانب الفقهي، فقد نشر الإمام (عليه السلام) من خلال تلك الآلاف من الرواة كل الفقه الإسلامي بين أوساط الأمة، حتى أن بعض أئمة المذاهب الأربعة تتلمذوا على يديه، ومنهم “أبو حنيفة” المأثور عنه (لولا السنتان لهلك النعمان).
إضافة إلى المجالين العقائدي والفقهي، لم يترك الإمام الصادق (عليه السلام) المجال السياسي والعمل من أجل إنقاذ الأمة من ظالميها، حيث كان يبث روح الرفض والاستنكار ضد السلطات الظالمة، وكان ينهى عن مخالطة الحكام الفاسدين وعن طاعتهم أو العمل عندهم، ومن النصوص الواردة عنه في هذا المقام: (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أئمة الجور)، وكذلك (أيّما مؤمن قدم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر… فقد شركه في الإثم)، ومن أبرز ما ورد عنه: (أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء يعني “حكام الجور” كان بمنزلة الذين قال الله فيهم “ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به”).
لذلك كله، نجد أن العباسيين بعدما وطّدوا سلطتهم عادوا إلى السيرة التي كان عليها بنو أمية قبلهم وهي “المراقبة والتجسس” على حياة الأئمة (عليهم السلام)، ولذا تقول المصادر التاريخية أن المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي استدعى الإمام الصادق للحضور عنده بسبب خوفه من النشاط المكثف الذي قام به الإمام (عليه السلام) في الفترة الاتنقالية بين الحكمين، نظراً لما أحدثه ذلك النشاط من نشر الفكر والوعي الإسلاميين عند المسلمين، وقد ادعى المنصور أنه يريد رؤيته فقال له: (لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس) فأجاب الإمام (عليه السلام): (ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها، ولا تعدها نقمة فنعزيك عليها، فلم نغشاك؟)، وأرسل إليه مرة أخرى، فقال له: (إنك تصحبنا لتنصحنا) فأجابه الإمام (عليه السلام): (من أراد الدنيا فلا ينصحك، ومن أراد الآخرة فلا يصحبك).
وعندما لم يستطع المنصور استمالة الإمام (عليه السلام) إليه، أرسل مستدعياً له ومتهماً إياه بالتدبير لثورة ضد الحكم العباسي، ومع كل ذلك بقي الإمام صامداً قوياً في موقفه الرسالي لا تهزه التهديدات ولا ترهبه القوى المتسلطة والمتحكمة بمسار الأمة ومصيرها.
هذا غيض من فيض حياة الإمام الصادق (عليه السلام) الذي قام بدور كبير جداً في الحفاظ على قدسية وطهارة الدين الإلهي في المستويات العقائدية والفقهية والاجتماعية والسياسية والتربوية، وكانت مدرسته ثابتة على المبادئ ومتصلة بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ونهل منها المسلمون شتى المعارف الإلهية لتهذيب النفوس وسموّها والارتقاء بالعقل البشري إلى الدرجة التي يستحقها في الفكر الإسلامي الأصيل. والحمد لله رب العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.