التعصب للذات بتبرير أخطائها والدفاع عنها حتى في الزلات والعثرات، وذلك ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ 1 إنه لا يعترف على نفسه بالخطأ، ولا يقبل لذاته أن يكون في موضع الإقرار و الاعتذار، إنه المحق دائما و أبدا، والمصيب في كل مواقفه و تصرفاته، و إن كان في أعماق نفسه مدركا لباطله و انحرافه، لكن العزة الآثمة، والعصبية الجاهلية لا تسمح له بالتراجع و التدارك.
ثالثا: التعالي والشعور بالرفعة والتفوق: وخاصة إذا ما أخطأ الإنسان تجاه من يعتقد أنهم أقل منه شأنا ومكانة، فإنه يأنف ويستثقل طلب المعذرة منهم.
وفي الواقع فإن جوهر الأخلاق الفاضلة، وحقيقة النبل والسمو، إنما تتجلى في مثل هذه المواقف، إذ ليس فخرا كبيرا أن يعتذر الإنسان لمن هم أقوى منه، وأرفع شأنا ومنزلة، فقد تكون الظروف تفرض عليه ذلك، أو تدفعه بهذا الاتجاه، لكن الفضل والمجد هو في حسن التعامل مع الضعفاء، وأداء حقوقهم، والتزام مكارم الأخلاق تجاههم.
رابعا: الثقافة العامة والأجواء الاجتماعية: حيث قد تسود المجتمع ثقافة التفاخر والتباهي، وأجواء العصبية والمزايدات، مما يجعل الأفراد منساقين ضمن هذا التيار العام.
تماما كما نقرأ في تاريخ العرب قبل الإسلام، وكيف كانت تحكمهم العصبيات القبلية، ومشاعر الاعتزاز والفخر تجاه بعضهم البعض، وكانوا يمارسون مبدأ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» بمعناه الحرفي، ويستجيبون لمبالغات شعرائهم التي كانت تملأ نفوسهم بالزهو، وتزين لهم مواقف التصلب والتعالي على الآخرين.
فهذا أحدهم يقول عن قبيلته:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول
ويقول آخر:
ونحن أناس لا توسط بيننا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ويقول ثالث:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي *** تخر له الجبابر ساجدينا
ولا تزال رواسب هذه الثقافة الجاهلية، وروح التعالي والتعصب، تلعب دورها في نفوس أبناء الأمة العربية إلى اليوم.
وإلا فكيف تفسر خطابات رئيس النظام العراقي صدام، ومقولات وسائل إعلامه؟
إنه يتحدث عن تفوق العراق، وعن سحق قوى الاستكبار، وعن أم المعارك، وأعظم الانتصارات التاريخية، بينما يعيش نظامه في أسوأ عزلة، ويرزح شعبه تحت أبشع حصار.. ومع كل المآسي التي أوقعها بالعراق والأمة العربية والإسلامية، عبرحربيه الظالمتين ضد إيران واحتلال الكويت، فإنه يرفض الاعتذار عن خطئه، ويكرر مقولاته الشريرة، كما تتمظهر رواسب الثقافة الجاهلية في مجتمعاتنا بأشكال متعددة ومختلفة، على مستوى الأفراد والتجمعات والمجتمعات.
قبول الاعتذار
أن يقدم المخطئ اعتذاره، تلك خطوة رئيسية هامة لتجاوز الخصام و تحقيق الوئام، لكنها يجب أن تقابل بخطوة إيجابية من الطرف الآخر، وهي قبول الاعتذار والصفح عن الإساءة، لتكون ثمرة الإصلاح والود يانعة ناضجة.. ولماذا لا يقبل الإنسان عذر الآخرين، و هو معرض لأن يصدر منه ما صدر منهم؟ وأي عقوبة يريد إيقاعها بالطرف الآخر أشد من هذه العقوبة المعنوية، حيث أقر له بالذنب، و اعترف تجاهه بالحق، وتقدم إليه بطلب المعذرة والصفح؟
ثم أي كسب يسعى لنيله أكبر من هذا الكسب الاجتماعي، إذ أصبح في موقع المرتجى والملتمس منه، واتضحت أحقيته أمام الناس؟ يقول الشاعر:
ولعمري لقد أجلك من جاء *** مقرا بذلة الاعتراف
إنه إذا تنكر لكل ذلك و أصر على رفض الاعتذار، فقد تتأثر موقعيته عند الله وفي أعين الناس، ويتحول من مركز القوة إلى موقع الضعف، ويتوجه إليه اللوم والإدانة لتصلبه وشدته.
ويقول الشاعر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه *** وكان الذي لا يقبل العذر جانيا
أخلاقيات التحضر
في الأمم المتحضرة و العالم المتقدم، يسود هذا الخلق الحضاري، و على أعلى المستويات، لأن الأجواء العامة لديهم من سياسية وإعلامية وثقافية تدفع بهذا الاتجاه.
فإذا ما حصل خلل أو خطأ في أداء أي مؤسسة أو جهاز فإن صاحب القرار فيها يعلن تحمله للمسؤولية، ويقدم اعتذاره، و قد يستقيل من منصبه.. ففي كوريا الجنوبية مثلا أدى تصادم قطار مع حافلة قبل فترة، إلى وفاة عدد من الركاب، فأعلن وزير المواصلات اعتذاره عن الحادث، وقدم استقالته.. وقبل أيام حينما فشلت القوات الإسرائيلية في اعتقال المجاهد محمود أبو هنود أحد القادة العسكريين لحركة حماس، وتسبب ذلك في مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، فإن رئيس القوة البرية الإسرائيلية أعلن تحمله لكامل المسؤولية واستقال من منصبه. بالطبع إن اليهود يلتزمون بهذه الأخلاقيات مع بعضهم البعض، أما تعاملهم مع الآخرين، فمحكوم بعنصريتهم وعدوانيتهم البشعة.. وعلى مستوى الدول والأمم فقد أعلنت اليابان في العام الماضي اعتذارها عن الفظائع التي ارتكبها جنودها ضد كوريا وتايلاند والصين إبان الحرب.. كما قدمت ألمانيا الاتحادية عدة مرات اعتذارات رسمية للعديد من الدول الأوروبية ولليهود عن جرائم النازيين. وقدم الرئيس الأندونيسي عبدالرحمن وحيد اعتذاره عن العنف الذي مارسته القوات الأندونيسية ضد سكان تيمور الشرقية طيلة 24 عاماً من الاحتلال.. وحتى رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا بولس الثاني أعلن اعتذاره في العام المنصرم عن الكنيسة والتجاوزات التي ارتكبها المسيحيون تجاه الأمم الأخرى، و في خلافاتهم الداخلية.
إننا بحاجة إلى ممارسة هذا الخلق الحضاري في تعاملنا مع أبنائنا وعوائلنا، وفي تعاطينا مع المحيطين بنا، من زملاء عمل وأصدقاء، وأشخاص يعملون تحت إدارتنا ومسئوليتنا2.
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 206، الصفحة: 32.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله.