هناك أنساق من الكتابات في المجال العربي المعاصر، ظلت تتمحور حول مقولات معينة لها صفة الشياع والتداول الواسع، وكل نمط منها يتحد في بنيته التركيبية، وله في العادة جاذبية لسانية وبيانية.
وبعض هذه المقولات متوارث من الزمن القديم، وبعضها الآخر مكتسب من الزمن الحديث، فمن الزمن القديم تبرز مقولة في البدء كان الكلمة، التي وردت في كتاب الإنجيل المسيحي، وتمحور حولها نسق من الكتابات العربية، حيث تعددت وكثرت هذه البدئيات، بين من اعتبر أن في البد كانت الثقافة، وإلى من اعتبر أن في البدء كان الإنسان.. إلى غير ذلك من بدئيات ما زالت مستمرة.
ومن الزمن الحديث تبرز مقولة النهايات، التي تمحور حولها أيضاً نسق من الكتابات العربية، حيث تعددت وكثرت هذه النهايات، بين من دعا إلى نهاية المثقف، وإلى من دعا إلى نهاية الحداثة.. إلى غير ذلك من نهايات ما زالت مستمرة.
ومن هذه المقولات الشائعة كذلك، مقولة الفريضة الغائبة، فقد وجدت أن هناك نسقاً من الكتابات العربية المعاصرة، تمحورت حول هذه المقولة، واتخذت منها قبساً ودلالة، وهي كتابات ما زالت مستمرة ومتزايدة من جهة، ومتنوعة ومتعددة من جهة أخرى.
فهناك من يرى أن الجهاد هو الفريضة الغائبة، كما جاء في الكتاب الذي كشف عنه في وقته الدكتور محمد عمارة في مطلع ثمانينات القرن العشرين، وقدم حوله نقداً وتحليلاً، وهو من تأليف محمد عبد السلام فرج، وكان يعد كتاباً مرجعياً لتنظيم الجهاد في مصر.
وهناك أيضاً من يرى أن التجديد هو الفريضة الغائبة، كما ذهب إلى ذلك عبد الحليم أبو شقة في كتابه (أزمة العقل المسلم) الصادر عام 2001م، إلى جانب من يرى أن التفكير هو الفريضة الغائبة، وهكذا من يرى أن القراءة هي الفريضة الغائبة، أو التسامح، أو الحرية، أو المعرفة، أو الحضارة.. إلى غير ذلك من عناوين يبدو أنها لن تنتهي، وهناك كتابات ومقالات بكل هذه العناوين.
وعند التأمل والنظر في هذه المقولة، والكتابات التي تمحورت حولها يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: لقد جاءت هذه الكتابات متناثرة ومتفرقة، ومن دون ربط واتصال بينها، وبدون تحليل لطبيعة المقولة المكونة لها، وماذا تعني الفريضة الغائبة، وما هو المقصود منها دلالة ومعنى. وحين النظر في هذه المقولة بتركيبتها الثنائية، يمكن القول أن محل الشاهد فيها هو كلمة الفريضة التي تفيد معنى التقدير والتأكيد، التقدير من جهة الحدود والمعالم، فالشيء المفروض هو الشيء الذي حدوده ومعالمه واضحة وبينة، والتأكيد من جهة التقيد والإلزام، فالشيء المفروض من هذه الجهة هو الذي له درجة من التقيد والإلزام.
وبهذا اللحاظ فإن الفريضة إنما تتعلق بأمر واضح وبين، يفترض أو يجب فيه التقيد والإلزام، وبالتالي فهو نقيض الغياب والتغيب. وهذا يعني أن الفريضة من حيث الأصل لا ينبغي أن تكون غائبة، فهي التي توجب حضور الشيء وتمحو الغياب عنه، ولا تغيب الفريضة وتكون غائبة إلا بسبب خلل، وهذا ما هو حاصل وحادث في واقع المجتمعات العربية.
ثانياً: إن هذه المقولات جاءت في سياق الكشف عن طبيعة الأولويات التي لا تحتمل التفويت أو التغييب، وبالتالي فإن النظر في هذه المقولات على تنوعها وتعددها، هو نظر في طبيعة وجهات النظر المطروحة والمتداولة حول الأولويات الملحة بحسب تقدير أصحابها.
ثالثاً: يلاحظ أن هذه المقولات وقعت في إشكالية النظرة الأحادية، حيث تصورت الحل والعلاج إنما يكمن ويتحدد في عامل واحد. ولعل قدراً من هذا اللبس نشأ بسبب التركيبة اللغوية لمقولة الفريضة الغائبة التي توحي بأنها مركبة على أمر واحد، أو هكذا الشائع والمتداول فيها.
في حين أن الأزمة في الأمة وطبيعة تعقيداتها وتراكماتها التاريخية والشاملة، لا يمكن النظر إليها تفسيراً وتحليلاً، حلاً وعلاجاً، من خلال عامل واحد مهما كانت قوة وعظمة هذا العامل.
وبالتالي فنحن لسنا أمام فريضة غائبة، وإنما أمام فرائض غائبة، فكل الفرائض التي قيلت هي فرائض غائبة فعلاً، فالبحث إذا هو عن فرائض غائبة وليس عن فريضة غائبة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 21 فبراير 2008م، العدد 15153.