أخرج البخاري في صحيحه الجزء الخامس ( ص 82 ) في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال : عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم )
أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر : إن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : « لا نورث من تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال . . . إلى أن يقول البخاري فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا و صلى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر » .
و أورد مسلم في صحيحه ذات الواقعة مع تغيير طفيف في الألفاظ يقول « فغضبت فاطمة » بدل كلمة وجدت 1 .
من هاتين الروايتين و غيرهما نستخلص الآتي :
أولا : هذه الحادثة التي وقعت بين فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و الخليفة الأول حقيقة لا يمكن تكذيبها و لا الإعراض عنها لأنها مثبتة في متن أكثر الكتب صحة و اعتمادا عند أهل السنة و الجماعة بل في كل المصادر التاريخية و الحديثية كما سيأتي بيانه لاحقا .
ثانيا : إن الحادثة لم تكن خلافا عابرا أو سوء تفاهم بسيط بل هي مشكلة كبرى هذا ما نلمسه من كلمة « فوجدت فاطمة على أبي بكر » أو بتعبير مسلم « فغضبت فاطمة » فالغضب و الوجد معناهما واحد ، محصلة أن فاطمة غضبت غضبا شديدا على أبي بكر . . بالرغم من قول الخليفة بأن الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال « لا نورث » و لكن فاطمة غضبت .
ثالثا : إن غضب الزهراء كما أنه لم يكن قليلا في حدته لم يكن قصيرا في مدته بل استمر حتى وفاتها كما يقول البخاري نقلا عن عائشة « فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت » و هذا معنى جلي في أن حالة الغضب و الخلاف استمر إلى و فاتها بل إلى ما بعد ذلك إذ أن أبا بكر لم يصل عليها و دفنت ليلا سرا بوصية منها كما سنبين .
رابعا : غضب الزهراء لم يكن منصبا فقط على أبي بكر بل شمل الخليفة الثاني بدليل عدم ذكره ضمن المصلين عليها ، و سيتضح أثناء البحث أن موقف أبي بكر و عمر واحد يعني موقف الزهراء منهما و موقفهما منها ، يقول ابن قتيبة في تاريخه « دخل أبو بكر و عمر على فاطمة فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط . . إلى أن يقول فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) تعرفانه و تعملان به ؟ قالا : نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يقول : رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني و من أرضاها فقد أرضاني و من أسخطها فقد أسخطني ؟ . .
قالا : نعم سمعناه من رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قالت : فإني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني و لئن لقيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لأشكونكما إليه ، ثم قالت : والله لأدعون عليكما في كل صلاة أصليها » 2 .
كل هذه الحقائق جعلت الدنيا مظلمة لدي . . و فور توصلي إليها قفز إلى ذهني ألف سؤال و سؤال . . لا أدري ماذا أفعل و كيف أفكر و إلى من ألجأ ؟ !! إنها بضعة المصطفى الصديقة فاطمة ، أقرأ فإذا بها عاشت بعد أبيها في حالة غضب إلى أن ماتت . . . كيف و لماذا !! الطرف الآخر الذي غضبت عليه الزهراء إنه الخليفة الأول . .
الصديق . . الخليل لقد كان يحب رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) كما علمونا ـ أكثر من نفسه . . فكيف يفعل بالزهراء شيئا يغضبها ؟ .
كيفما كانت التساؤلات و مهما كان التبرير ها هي فاطمة ( ع ) كما وجدت بين طيات الكتب غاضبة على الخليفتين . . و كما سأبين لك عزيزي القارئ في الفصول القادمة . . و برغم كل الحواجز قررت مواصلة البحث و التنقيب على ألا أجعل بين نفسي و الحقائق حجاب الخوف أو الرهبة أو التبرير و مضيت في طريق ربما كان شائكا في بدايته و لكني بفضل بركات الصديقة الطاهرة وصلت إلى شاطئ اليقين ، و معها ـ روحي فداها ـ كانت البداية المفجعة و النهاية الممزوجة بحلاوة الإيمان و قمة المعرفة .
و سأبدأ معك عزيزي القارئ محطة فمحطة و لننطلق من تعريف شخصية فاطمة ( ع ) من خلال فضائلها التي سطرها الوحي بأحرف من نور و كللها النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بصدق حديثه و هو الصادق المصدق فكانت كلماته حول فاطمة ذات دلالات و معان نحاول أن نستقصيها في هذه الصفحات و بلا شك لن نستوعب كل ما جاء من مناقب و فضائل عن الزهراء ( ع ) لكني سأحاول سرد ما يفيدنا في بحثنا هذا و من ثم نتعرف على الحقائق المحيطة بفاطمة ( ع ) و التي بنورها و بركاتها اهتديت و خرجت من ظلمات الجهل إلى رحاب نور أهل البيت ( ع ) .
فاطمة ( ع ) في القرآن
كثيرة هي الآيات التي تحدثت عن قدسية الزهراء ( ع ) و مكانتها السامية سنختار هنا بعضا منها .
الآية الأولى
قوله تعالى ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 3 .
تشمل هذه الآية المباركة فيمن تشمل السيدة فاطمة الزهراء ( ع ) بل هي محور الآية و أساسها . . لأنها نزلت في أهل بيت النبوة ، و لنا حديث مع أولئك الذين حاولوا إدخال البعض من غير أهل البيت في نطاق الآية ، و ما يهمنا الآن هو أن الزهراء معنية بهذا الخطاب الإلهي . . و لقد فصلت السنة في سبب نزول الآية و فيمن جاءت .
لقد أورد مسلم في صحيحه أن الآية محل النقاش نزلت في خمسة : النبي ( صلى عليه و آله و سلم ) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ( ع ) و ذلك في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت و هو الحديث المعروف بحديث الكساء كما أنه اشتهر عند أهل بيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بأهل العباءة أو الكساء و هذا من المتسالم عليه بين كل المسلمين خصوصا في مجتمعنا السوداني . و سنزيدك من المصادر التي تؤكد أن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و عليا و فاطمة و الحسنين هم المقصودون بالآية في البحوث القادمة إن شاء الله و لكن دعنا الآن نتدبر الآية ، و من خلالها نتعرف على شخصية فاطمة ( ع ) .
إن المتأمل في كلمات الآية يتوصل إلى أن المخاطبين بهذه الآية ، و فاطمة أحدهم مطهرون معصومون من كل رجس ، و تقريب ذلك تصدير الآية بأقوى أدوات الحصر على الاطلاق ( إنما ) مما يعني أن هذا الأمر خاص بجماعة معينة محددة لا يتعداهم إلى غيرهم ، ثم يأتي البحث عن الإرادة الإلهية التي ذكرت في الآية ﴿ … إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ … ﴾ 3 هي إرادة المولى عز و جل ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 4 فلا يمكن بحال تخلف إرادته تعالى .
أما الرجس في اللغة فمعناه كل ما يلوث الإنسان سواء كان لوثا ظاهريا أو باطنيا و الذي يعبر عنه بالإثم . . و الرجس في هذه الآية هو اللوث و النجاسة الباطنية لأن الابتعاد و الطهارة من النجاسة الظاهرية وظيفة دينية عامة لجميع المسلمين و ذلك لشمول التكليف للجميع و لا خصوص لأهل البيت حتى ترد هذه الآية بحصرها و توكيدها لنفي الرجس الظاهري عن أهل البيت . إنما جاءت لبيان فضيلة لهم خصهم بها الله سبحانه و تعالى و أخبر عنها في كتابه العزيز .
ثم يأتي التأكيد ﴿ … وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 3 إن النظرة العميقة للآية تجعلنا لا نشك لحظة واحدة في عصمة أهل البيت الذين ذكروا فيها و منهم فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فهي معصومة مطهرة من كل رجس ظاهرا و باطنا و سيأتيك التأكيد على ذلك .
الآية الثانية
قوله تعالى : ﴿ … قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى … ﴾ 5 . لقد جعل الله سبحانه و تعالى أجر الرسالة مودة أهل البيت و منهم فاطمة الزهراء ، فالآية نزلت في قربى الرسول و هم علي و فاطمة و الحسن و الحسين كما نقل ذلك أعلام الحديث و التفسير مثل الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ج 2 ص 130 و الحاكم النيسابوري في المستدرك 6 .
إنها العظمة و الرفعة . . لقد وزن الله تعالى الرسالة المهيمنة على كل الرسالات بمودة القربى . . لقد استحقت فاطمة هذا الوسام الإلهي بجدارة و يكفينا لتأكيد ذلك تسطيرها ضمن آيات الذكر الحكيم . . إنه رصيد يضاف لمناقب الزهراء و فضائلها و إلى المزيد .
الآية الثالثة
قوله تعالى ﴿ … فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ 7 .
لم يختلف المسلمون أن هذه الآية أيضا من مختصات أهل البيت فهي نزلت يوم مباهلة نصارى نجران و قد أمر الله تعالى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن يأخذ معه عليا و فاطمة و الحسن و الحسين ( ع ) . فكانت هذه الآية و ذلك مما ذكره مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب 8 . و هكذا مثلت فاطمة كل نساء الأمة و كانت المباهلة بمثابة تثبيت للرسالة ، و لأهمية الحديث و عظمته في مسيرة الإسلام كان المباهل بهم مع النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) هم علي و فاطمة و ابناهما . . مع أن الآية ذكرت نساءنا بصيغة الجمع إلا أن التمثيل المقدس كانت فاطمة فقط دون غيرها من النساء و لا حتى نساء النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فتأمل عزيزي القارئ و انطلق بعقلك لتدرك مكانة الزهراء و عظمتها و ما أظنك بقادر .
آيات أخرى
يقول تعالى ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ 9 إلى قوله تعالى ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ﴾ 10 ، هذه الآيات نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين بمناسبة قصة صيامهم ثلاثة أيام و تصدقهم في تلك الأيام الثلاثة بطعامهم على المسكين و اليتيم و الأسير بينما هم في أشد الحاجة إلى الطعام لإفطارهم . . و لقد ذكر جمع كبير من المحدثين و المفسرين أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء الأربعة . منهم الزمخشري في كشافه . . و الفخر الرازي في تفسيره 11 .
إن نزول هذه الآيات في علي و فاطمة و الحسنين ينبوع أخر لكرامتهم و مكانتهم عند الله . . إذ أن الخالق جل و علا خاطبهم من عليائه بصيغة الأمر الذي أبرمه و فرغ منه ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ 12 إلى آخر الآيات هذه هي حقيقة الزهراء فاطمة و تلك هي مكانتها عند الله .
يطول بنا المقام لسرد كل ما جاء عن فاطمة في القرآن و لقد جمع أحد العلماء الآيات التي نزلت في فضل فاطمة و أهل البيت فبلغت ( 258 ) آية من الذكر الحكيم .
و مع ذلك لو لم تأت إلا آية التطهير أو المباهلة لكفى بها موعظة لقوم يؤمنون فهذا قرآن عظيم في كتاب مكنون تنزيل العزيز الحميد .
فاطمة ( ع ) بلسان أبيها
ملاحظتان قبل الانطلاق في أحاديث الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عن فاطمة :
الملاحظة الأولى
إن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حينما يتحدث عن فاطمة فإنه لا ينطلق من عاطفة الأبوة و هو القائل فيه البارئ عز و جل ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ 13 و هو ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في عموم حديثه عن الأشخاص لا يعطي أحدا أكثر مما يستحقه تبعا لعاطفته و حتى لو كان ذلك الإنسان ابنته .
لأننا لو قلنا بذلك لطعنا في نبوته و كلماته القدسية التي نؤمن جميعا بأنها حجة لا زيغ فيها و لا هوى . . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت أكتب كلشيء أسمعه من رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فنهتني قريش و قالوا تكتب كلشيء سمعته من رسول الله و هو بشر يتكلم في الغضب و الرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه و قال : « أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق » .
إن النبي الأكرم ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لا ينطق إلا صدقا و عدلا فلنضع كلماته عن الزهراء نصب أعيننا و نحن نقرأ عن موقفها بعد وفاته و لا نترك للشيطان سبيلا يتسلل منه . . لان فهمنا لهذه النقطة يمهد لنا السبيل لفهم موقف فاطمة ( ع ) .
الملاحظة الثانية
إنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ركز في شخصية فاطمة على قدسيتها و خلوصها لله تعالى و قربها منه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بحيث يجعلك تأخذ الاحساس بأنها جزء منه ما يصيبه كأنما أصابها و ما يصيبها كأنما أصابه و أنها تمثله جسدا و موقفا . .
تعبر عنه و هو المعبر عن إرادة الله تعالى و ذلك في مجمل أحاديثه عن فاطمة « من أسخط فاطمة فقد أسخطني » « من أغضب فاطمة قد أغضبني و من أغضبني فقد أغضب الله » . . و على هذا المنوال .
و لقد استوقفني كثيرا محور كلام الرسول عن ابنته و الذي كان يدور حول غضبها و سخطها و رضاها وكأنه ـ بأبي و أمي ـ يلمح للأمة بمصيبتها و ابتلائها في موقفها من الزهراء . . و هذا لا و لن يخفى على ذوي الألباب المتفتحة و القلوب المفعمة بحب النبي و آله فلماذا يا ترى كان التركيز على هذا المحور بالذات ؟! هل يعقل أن يكون ذلك بلا سبب ؟! ألا يحمل هذا في طياته دلالات عميقة و إشارات واضحات .
لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أبلغ العرب حين يتكلم و أكثر الناس حكمة حينما يفصح كما كان أحسنهم إنصافا للناس .
لقد هيأ الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) الناس حتى يصدقوا الزهراء حين تنطق و هيأهم لأن يتحاشوا غضبها إذا غضبت و أخبرهم أن أذاها أذى له و هكذا مهمة الأنبياء تربية الأمم حاضرا أثناء حياتهم و تهيئتهم لاستقبال الحوادث المستقبلية بعد رحيلهم . . و النبي و هو أعظمهم خص الزهراء و هو الصادق الأمين بهالة قدسية تحرم على الآخرين هتكها . . ولم يكن ذلك لقرابتها منه بل لأنها أخلصت للحق و ذابت في بوتقته فكانت مقياسا و معيارا للذين سيأتون بعد أبيها ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و تجلت حكمة الرسول في أحاديثه المختلفة للأمة التي كانت تنظر لواقع المستقبل و هي تحمل في طياتها بصائر تتضح من خلالها الرؤية ، و تحكم بها على أحداث الواقع في أي زمان و مكان . و الأمثلة على ذلك كثيرة ، لقد تحدث النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) عن علي بن أبي طالب ( ع ) حينما قال « علي مع القرآن و القرآن مع علي » لأن معاوية سيأتي يوما ما و يرفع المصاحف على أسنة الرماح طالبا التحكيم بالقرآن كما حدث في صفين حينها ستعرف أين جهة الحق و الصدق لأن الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ترك المعيار فعلي و القرآن لا يفترقان . . كذلك عندما قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لعمار « تقتلك الفئة الباغية » فإنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لم يترك مجالا للاعتذار لأولئك الذين قاتلوا في صف معاوية ضد علي و معه عمار بن ياسر و هكذا أحاديث النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) تنطلق من الحاضر لتشخص داء الأمة في المستقبل .
كل ذلك يجعلنا ننظر إلى غضب الزهراء بقدسية و إلى موقفها بتعقل . إنه غضب من أجل الحق و موقف صدق ضد الانحراف .
إننا ننزه الزهراء من أن تغضب في سبيل شيء غير الحق إنه غضب مقدس و صرخة حق مدوية و بعد قليل سينكشف الغطاء و ترى لماذا كان هذا الغضب .
و إليك بعضا مما قاله المصطفى في ابنته ربيبة الوحي فاطمة الزهراء ( ع ) :
1 ـ « فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني » .
رواه البخاري في صحيحه باب مناقب قرابة الرسول ج 4 ص 281 دار الحديث القاهرة 14 .
2 ـ « إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها » .
رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة .
و في رواية « فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها و يبسطني ما يبسطها » 15 .
3 ـ قال الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لفاطمة ( ع ) :
« إن الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك » رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين كتاب مناقب الصحابة ص 154 و قال عنه حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه 16 .
4 ـ جاء في صحيح البخاري كتاب بدء الخليقة في باب علامات النبوة ج 4 ص 250 بسند عن عائشة قالت : أقبلت فاطمة تمشي ما تخرم مشيتها مشية النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فقال النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت فقلت لها لم تبكين ؟! ثم أسر إليها حديثا فضحكت فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال ، فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حتى قبض النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فسألتها فقالت : أسر إلي أن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة و أنه عارضني العام مرتين و لا أراه إلا حضر أجلي و إنك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكيت فقال : أما ترضي أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك 17 .
و أورد الترمذي في سننه كتاب المناقب عن حذيفة قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فصليت معه المغرب فصلى حتى صلى العشاء ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال : من هذا حذيفة ؟ قلت : نعم قال : ما حاجتك غفر الله لك و لأمك ؟ ثم قال : إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي و يبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة و أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة 18 .
و جاء في المستدرك ج 2 ص 294 بسنده عن عائشة قالت لفاطمة : ألا أبشرك ؟
إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يقول سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران ، و فاطمة بنت محمد ، و خديجة بنت خويلد ، و آسيا بنت مزاحم .
و قال عنه الحاكم النيسابوري حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه يقصد بخاري و مسلم .
و جاء في كنز العمال ج 7 ص 111 أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة .
و ذكر محي الدين الطبري حديث أفضل أربع نساء فضلهم الله في ذخائر العقبى ص 44 و أضاف و أفضلهم فاطمة .
5 ـ عن عائشة أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قالت : ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها 19 .
6 ـ أورد السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالى ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ … ﴾ 20 قال : و أخرج الطبراني عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها و لا أبيض ورقا و لا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة .
و روى الحاكم في المستدرك ج 3 ص 156 بسنده عن سعد بن مالك قال :
قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : أتاني جبرئيل ( ع ) بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أسري بي فعلقت خديجة بفاطمة فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة .
7 ـ عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ابنتي فاطمة حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث . و إنما سماها فاطمة لأن الله فطمها و محبيها عن النار ، ذكره ابن حجر في صواعقه ص 160 كما أخرجه النسائي و جاء في تاريخ بغداد أيضا ج 12 ص 331 .
8 ـ في صحيح الترمذي ج 2 ص 319 عن عائشة أم المؤمنين قالت : ما رأيت أحدا أشبه سمتا و دلا و هديا برسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) . . قالت : و كانت إذا دخلت على النبي قام إليها و قبلها و أجلسها في مجلسه و كان النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته و أجلسته في مجلسها الحديث .
رواه أيضا أبو داوود في صحيحه ج 33 في باب ما جاء في القيام . و رواه الحاكم أيضا في مستدرك الصحيحين ج 3 ص 154 .
9 ـ جاء في مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 275 كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إذا سافر جعل آخر عهده فاطمة و أول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة . .
و ذكر ذلك الحاكم في المستدرك ج 1 ص 489 و رواه البيهقي في سننه .
10 ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لعلي و فاطمة و الحسنين : أنا سلم لمن سالمكم و حرب لمن حاربكم رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج 2 ص 442 و الحاكم في المستدرك ص 149 و ابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 11 و ج 5 ص 523 .
11 ـ في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 190 أن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش : يا أهل الجمع نكسوا رؤوسكم و غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد على الصراط فتمر مع سبعين ألف جارية من الحور العين كمر البرق ذكره الحاكم في المستدرك ج 3 ص 153 .
كانت جولتنا مع أحاديث الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حول فاطمة قصيرة مقارنة بما ورد في حقها و لكن هذا القدر يكفي للعاقل حتى يتعرف على الزهراء ( ع ) التي أحاطتها العناية الإلهية من قبل ميلادها و كانت في جنة الخلد . . . هنالك كان المبدأ كما في رواية الإسراء و الجنة هي النهاية كما علمت و ما بين الانطلاقة الأولى من الجنة و المنتهى فيها كانت حياة الزهراء عظيمة تنبض بكل معاني القيم النبيلة . . فهل من الممكن أن يكون هناك نشاز في منتصف الطريق ؟! يقينا لا ، لذلك أوصى الرسول بفاطمة كثيرا و حذر الناس من غضبها الذي يعني غضبه بل و غضب الله عز و جل كما مر و شهدت لها عائشة بأنها أصدق الناس لهجة فهي الصديقة كما أن العناية الإلهية كان لها الدور المباشر في صياغة شخصية الزهراء فصار أذاها أذى الرسول الذي يعني أذى الرسالة و نزل الوحي يجلجل بالتطهير كما جاء في آية التطهير و تأكيدا على قدسية المسير و مباركة الرب لعمل فاطمة و أهل بيتها كانت سورة الإنسان . . . . و حتى نزداد يقينا بارتباط الزهراء بالوحي و استقامتها كانت المباهلة ثم الزواج المبارك الذي تم في السماء قبل أن يتم في الأراض بأمره سبحانه و تعالى . و رعاية الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) الخاصة بفاطمة حتى إنه عند قدومها يقبلها و يجلسها في مجلسه و كذا العكس . . و لا يخرج ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في سفر إلا أن يكون آخر من يودعه ابنته و أول من يسلم عليه عندما يعود . . هي سيدة نساء العالمين و سيدة نساء أهل الجنة ، إذا كل فعل تفعله هو فعل أهل الجنة و كل موقف تقفه هو موقف أهل الجنة و لو نظرت في الجنة لرأيت نعيما و ملكا كبيرا و يأتي المنادي غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة و تستقر في مقام محمود منه انطلقت و إليه تعود .
هذه المسيرة المقدسة ، و هذه العظمة ألا تدفعنا للوقوف إجلالا وإعظاما لشخصية قدستها السماء و بارك مسيرتها أبوها صاحب رسالة السماء ؟ كل ذلك ألا يجعلنا نتوقف قليلا أمام مواقفها ؟ يبدوا لي أننا حتى نستوعب كل ذلك نحتاج إلى عقل سليم و قلب مفرغ من الغرور و الاستكبار و الهوى لقد جسدت الزهراء تعاليم الوحي . . و سارت وفق هداه فكانت من الجنة إلى الجنة و ما بين ذلك غضبها هو غضب الله فتأمل و تفكر و تدبر 21 .
- 1. صحيح مسلم كتاب الجهاد باب قول النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لا نورث : 153 و كذلك أورده البخاري في كتاب فرض الخمس باب فرض الخمس .
- 2. الإمامة و السياسة « تاريخ الخلفاء » : 12 ـ 13 .
- 3. a. b. c. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 33 ، الصفحة : 422 .
- 4. القران الكريم : سورة يس ( 36 ) ، الآية : 82 ، الصفحة : 445 .
- 5. القران الكريم : سورة الشورى ( 42 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 486 .
- 6. كما أورد ذلك السيوطي في إحياء الميت و الزمخشري في تفسيره الكشاف . و الفخر الرازي في تفسيره و السيوطي في الدر المنثور و القندوزي الحنفي في ينابيع المودة و البخاري و غيرها من المصادر .
- 7. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 61 ، الصفحة : 57 .
- 8. و جاء ذلك أيضا في مستدرك الصحيحين للحاكم و مسند أحمد بن حنبل : 1 / 158 .
- 9. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآيات : 5 – 7 ، الصفحة : 578 .
- 10. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 579 .
- 11. الكشاف : 4 / 670 ط بيروت ، أسد الغابة لابن الأثير الشافعي : 5 / 530 ـ 531 ، تذكرة الخواص للسبط بين الجوزي و شواهد التنزيل للحاكم ، الدر المنثور للسيوطي و غيرها من المصادر .
- 12. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآية : 11 و 12 ، الصفحة : 579 .
- 13. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .
- 14. ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة : 188 .
- 15. أورده ابن حجر في صواعقه أيضا : 190 و قد جاء هذا الحديث بصيغ مختلفة تعبر عن نفس المعنى في كثير من المصادر مثل مسند أحمد بن حنبل وكنز العمال و الإمامة و السياسة لابن قتيبة . . . و غيرها .
- 16. و رواه ابن الأثير في أسد الغابة : 5 / 522 ، و ابن حجر في الإصابة : 5 / 156 . . كما جاء في ميزان الاعتدال للذهبي و غيرها من المصادر .
- 17. و ذكره أيضا في باب مناقب قرابة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : 4 / 281 كما رواه مسلم في صحيحه و أحمد بن حنبل في مسنده .
- 18. و رواه ابن حجر في الصواعق : 191 و الحاكم في المستدرك : 3 / 151 ، كتاب مناقب الصحابة و قال عنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
- 19. رواه الحاكم في مستدركه : 3 / 160 و قال حديث صحيح على شرط سلم . . كما ذكره ابن عبد البر في استيعابه : 2 / 751 .
- 20. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 282 .
- 21. كتاب بنور فاطمة اهتديت لكاتبه السيد عبد المنعم حسن : 61 ـ 74 .