لما كان المسلمون قرب بدر ، وعرفوا بجمع قريش ، ومجيئها ، خافوا وجزعوا من ذلك ؛ فاستشار النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه في الحرب ، أو طلب العير .
فقام أبو بكر ، فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت . ولم تخرج على هيئة الحرب .
فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إجلس ؛ فجلس ؛ فقال «صلى الله عليه وآله» : أشيروا علي .
فقام عمر ، فقال مثل مقالة أبي بكر .
فأمره النبي «صلى الله عليه وآله» بالجلوس ، فجلس .
ونسب الواقدي والحلبي الكلام المتقدم لعمر ، وقالا عن أبي بكر : إنه قال فأحسن 1 .
ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا : أن ما جئت به حق من عند الله ، والله لو أمرتنا : أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر صلب) ، وشوك الهراس لخضناه معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : ﴿ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ 2.
ولكنا نقول : إذهب أنت وربك ؛ فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون . والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ، ومن بين يديك ، ولو خضت بحراً لخضناه معك ، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك 3 .
فأشرق وجه النبي «صلى الله عليه وآله» ، ودعا له ، وسر لذلك ، وضحك كما يذكره المؤرخون 4 .
فيلاحظ : أن الكلام كله قد كان من المهاجرين ، وقد ظهر منهم : أنهم لا يريدون حرب قريش ، وهم يتفادون ذلك بأي ثمن كان ، غير أن المقداد قد رد عليهم مقالتهم ، وخالفهم في موقفهم . ثم توجه النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الأنصار ، حيث يقول النص التاريخي :
ثم قال : أشيروا علي ـ وإنما يريد الأنصار ، لأن أكثر الناس منهم ؛ ولأنه كان يخشى أن يكونوا يرون : أن عليهم نصرته في المدينة ، إن دهمه عدو ، لا في خارجها ، فقام سعد بن معاذ ـ وقيل ابن عبادة وهو وهم ؛ لأنه لم يشهد بدراً ؛ لأنه كان قد لدغ ، فلم يمكنه الخروج 5 ـ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، كأنك أردتنا ؟
فقال : نعم .
فقال : فلعلك قد خرجت على أمر قد أمرت بغيره ؟
قال : نعم .
قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؛ إنا قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت .
إلى أن قال : والله ، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ، ولعل الله يريك ما تقر به عينك ؛ فسر بنا على بركة الله .
فسر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأمرهم بالمسير ، وأخبرهم بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين ، ولن يخلف الله وعده ، ثم قال : والله ، لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة الخ . .
وسار حتى نزل بدراً .
ويظهر من بعض النصوص : أن الصحابة كانوا ـ في أكثرهم ـ يميلون إلى طلب العير ، وترك النفير 6 .
وقد ذكر الله تعالى ذلك في قرآنه المجيد ، فهو يقول : ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ 7.
وقبل أن نمضي في الحديث نشير إلى الأمور التالية :
1 ـ إستشارة النبي صلى الله عليه وآله أصحابه
لقد تحدثنا فيما سبق حينما تكلمنا عن سر إرسال المهاجرين في الغزوات ، ولسوف نتحدث فيما يأتي في غزوة أحد في فصل : قبل نشوب الحرب إن شاء الله تعالى ، عن موضوع استشارة النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه بما فيه الكفاية .
ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنه قد كان من الضروري أن يستشير «صلى الله عليه وآله» أصحابه في حرب بدر التي كانت حرباً مصيرية ، سوف يتقرر على أساس نتائجها مصير الإيمان والشرك في المنطقة في المستقبل المنظور على الأقل ، بل ومطلقاً كما أشار إليه «صلى الله عليه وآله» في دعائه : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» .
وواضح : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى رأيهم ، وإنما هو يستشيرهم لأنهم هم الذين سوف يتحملون أعباء الحرب ، ويعانون من نتائجها ، على مختلف الأصعدة .
ثم إنه يستخرج بذلك دخائل نفوسهم ، ويتميز المنافق من المؤمن ، والجبان من الشجاع ، والذي يفكر في مصلحة نفسه من الذي يفكر من منطلق التكليف الشرعي ، ويعرف أيضاً الذكي من الغبي ، والعدو من الولي ، والضعيف من القوي إلى غير ذلك مما هو ظاهر لا يخفى .
ويدل على ما نقول : أن سعد بن معاذ يسأل النبي «صلى الله عليه وآله» : لعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره ؟
فقال «صلى الله عليه وآله» : نعم .
فهذا يدل على أن أمر الحرب مقضي ومأمور به من قبل الله تعالى ؛ فليست استشارته «صلى الله عليه وآله» لهم إلا لما قلناه هنا ، وقدمناه ، وسيأتي في غزوة أحد .
2 ـ حرب قريش هي الرأي
ومن الواضح : أن الرأي الحق هو حرب قريش ، كما أراد الله ورسوله ؛ وذلك لأن الأمر يدور بين :
أن يرجع المسلمون دون أن يتعرضوا للعير ، ولا لقريش ، وفي ذلك هزيمة روحية ونفسية واضحة للمسلمين ، وإطماع لغيرهم بهم ؛ من المشركين ، واليهود والمنافقين .
أو أن يطلبوا العير فيدركوها ، فيأخذوها ، بعد قتل أو أسر رجالها . ولن تسكت قريش على هذا الأمر ، بل هي سوف تتعرض لحربهم على أوسع نطاق . وقد تتمكن من مهاجمة المدينة قبل رجوع المسلمين إليها ، وتقوم بإنزال الضربة القاصمة بالمسلمين ، فإن قريشاً وهي بهذه العدة والعدد لن تسكت عن أمر كهذا ، بل سوف تحاول رد هيبتها ، والثأر لكرامتها .
فلم يبق إلا خيار واحد ، وهو أن يقفوا في وجه قريش بعد أن يعرضوا عليها عروضاً مقبولة ، وعادلة ، ومعقولة .
إذن ، فحرب وقتال قريش هي الخيار الأفضل والأمثل في ظروف كهذه ، ولا سيما إذا طلبوا العير ، وربما يوجب ذلك أن يزيد الأمر تعقيداً وإشكالاً بالنسبة إلى المسلمين بما لا قبل لهم به .
وتكون النتيجة هي أنه إذا أراد المسلمون العيش في عزة ومنعة ، وأن لا يطمع بهم من حولهم ، والمشركون ، واليهود ، والمنافقون ، فلا بد من المبادرة للقتال ، وليس ثمة خيار آخر أمامهم .
3 ـ التربية النفسية
وفي مجال آخر نشير إلى :
ألف ـ لقد كان هدف المسلمين أولاً هو الحصول على المال ؛ فأراد الله ورسوله أن يرتفع بهم عن هذا الهدف الدنيوي إلى ما هو أغلى ، وأعلى ، وأسمى . وإلا فإن قريشاً أيضاً قد كانت تهدف من وراء جمعها الجموع ، وإثارة الحرب إلى أهداف دنيوية ، إقتصادية ، وإجتماعية ، وسياسية أيضاً .
ب ـ لقد كان لحرب بدر أثرها في بث روح الاعتماد على النفس ، ومواجهة المسؤوليات بصلابة وشجاعة ، حيث لا بد من قتل فراعنة قريش ، وإفناء صناديدها وأسرهم ﴿ … لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا … ﴾ 8، ثم التهيؤ لحرب العرب والعجم بعد ذلك .
4 ـ نظرة في الآراء حول الحرب
ويلاحظ : أن أكثر المؤرخين قد حذفوا كلام عمر وأبي بكر هنا ، واكتفوا بقولهم : قام أبو بكر فأحسن ، ثم قام عمر فأحسن ، ثم قال المقداد كذا وكذا 9 .
وربما ينسبون إلى بعضهم كلاماً آخر لا ربط له بسؤال النبي «صلى الله عليه وآله» أصلاً .
وأما الفقرات التي نقلناها عنهما فلم تعجب الكثيرين من المؤرخين ، فأضربوا عنها صفحاً بالطريقة المشار إليها آنفاً .
ولكن من الواضح : أن سرور النبي «صلى الله عليه وآله» بكلام المقداد ، ودعاءه له يدل على أن كليهما (أعني أبا بكر وعمر) لم يكن منسجماً مع ما كان يهدف إليه النبي «صلى الله عليه وآله» من مشاورته لهم ، بل كان مضاداً لما كان يرمي إليه «صلى الله عليه وآله» ، ولو كان كلامهما لائقاً لذكره محبوهم من المؤرخين والرواة وما أكثرهم .
وأما مشورة المقداد ، فكانت هي السليمة والمنسجمة مع المنطق ، ومع الأهداف السامية التي كان يرمي إليها الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» . وذلك هو ما كان يتوقعه «صلى الله عليه وآله» ويرمي إلى الوصول إليه ، والحصول عليه . ولذلك فقد استحق المقداد مدح النبي «صلى الله عليه وآله» ودعاءه له .
بل لقد ورد : أنه حين بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» إقبال أبي سفيان شاور أصحابه ، فتكلم أبو بكر ، فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه 10 .
فإعراضه «صلى الله عليه وآله» عنهما ليس إلا لتخذيلهما عن النفير إلى حرب قريش ، ومدحهم لها بأنها : ما ذلت منذ عزت ، وما آمنت منذ كفرت الخ . . لا لأنه كان يريد من الأنصار أن يجيبوا وحسب . وإلا فلماذا سر من كلام المقداد ، ودعا له ، وهو من المهاجرين ؟!
حتى لقد قال ابن مسعود عن موقف المقداد هذا : لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به 11 .
وعن أبي أيوب ، قال ـ في ضمن حديث له ـ : «فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من مال عظيم» فأنزل الله عز وجل على رسوله : ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ 1213 .
أضف إلى ذلك كله : أن كلام رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان عاماً للجميع : للأنصار والمهاجرين على حد سواء ، كما أن المهاجرين كانوا كالأنصار من حيث إنهم لم يبايعوه على الحرب .
5 ـ سر سروره صلى الله عليه وآله بكلام سعد والمقداد
وإن التأمل في كلام سعد بن معاذ والمقداد يفيد : أنهما لم يشيرا عليه لا بالحرب ، ولا بالسلام ؛ بل ما زادا على أن أظهرا التسليم والانقياد لأوامر النبي «صلى الله عليه وآله» ونواهيه ، وما يقضيه في الأمور . إنهما لم يبديا رأياً ، ولا قدما بين يديه أمراً . وهذا هو منتهى الإيمان ، وغاية الإخلاص والتسليم ، وقمة الوعي لموقعهما ، ووظائفهما ، وما ينبغي لهما .
فهما ما كانا يريان لنفسيهما قيمة في مقابل قضاء الله ورسوله على حد قوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … ﴾ 14.
وقوله تعالى : ﴿ … يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ 15. ولهذا الإيمان العميق ، والتسليم المطلق ، كان سرور رسول الله واستبشاره « سلام الله عليه وعلى آله الطاهرين» .
6 ـ أين رأي علي عليه السلام ؟!
ويلاحظ هنا : أننا لا نجد علياً في هذا المقام يبدي رأياً ، ولا يبادر إلى موقف ، أو مشورة ، مع أنه رجل الحكمة ، ومعدن العلم ؛ فما هو السر في ذلك يا ترى ؟!
ونقول في الجواب : إن موقف علي «عليه السلام» هو موقف نفس النبي «صلى الله عليه وآله» . وقد وصفه الله سبحانه وتعالى في آية المباهلة بأنه نفس النبي ، فقال : ﴿ … فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ … ﴾ 16.
أضف إلى ذلك : أن علياً «عليه السلام» لم يكن ليتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء وقد كان يرى أن من واجبه السكوت ، والتسليم ، والرضا بما قضاه الله ورسوله ، ولا يجد في نفسه أي حرج من ذلك 17 .
- 1. راجع : مغازي الواقدي ج1 ص48 ، والسيرة الحلبية ج2 ص150 ، والدر المنثور ج3 ص166 عن دلائل النبوة للبيهقي ، والبحار ج19 ص247 ، وتفسير القمي ج1 ص258 .
- 2. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 24، الصفحة: 112.
- 3. برك الغماد : يعني مدينة الحبشة كما في تاريخ الخميس ج1 ص373 وموضع من وراء مكة بخمس ليالٍ من وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليالٍ من مكة إلى اليمن . راجع مغازي الواقدي ج1 ص48 .
- 4. تاريخ الخميس ج1 ص373 ، والسيرة الحلبية ج2 ص150 عن الكشاف ومغازي الواقدي ج1 ص48 .
- 5. السيرة الحلبية ج2 ص150 .
- 6. الدر المنثور ج3 ص163 و169 عن ابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والكشاف ، والبيهقي ، وعبد بن حميد والبداية والنهاية ج3 ص263 .
- 7. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 7، الصفحة: 177.
- 8. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 42، الصفحة: 182.
- 9. راجع على سبيل المثال : البداية والنهاية ج3 ص262 ، والثقات ج1 ص157 .
- 10. صحيح مسلم باب غزوة بدر ج5 ص170 ، ومسند أحمد ج3 ص219 بطريقين ، وعن الجمع بين الصحيحين ، والبداية والنهاية ج3 ص263 ، والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص394 .
- 11. صحيح البخاري باب تستغيثون ربكم ج3 ص3 ط الميمنية ، والبداية والنهاية ج3 ص262 و263 ، وسنن النسائي .
- 12. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 5، الصفحة: 177.
- 13. البداية والنهاية ج3 ص263 و264 عن أبي حاتم وابن مردويه .
- 14. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 36، الصفحة: 423.
- 15. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 515.
- 16. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57.
- 17. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء الخامس .