نور العترة

علي والخلافة…

نص الشبهة: 

لقد أجمع أهل السنة والجماعة، والشيعة بجميع فرقهم على أن علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” شجاع لا يشق له غبار، وأنه لا يخاف في الله لومة لائم. وهذه الشجاعة لم تنقطع لحظة واحدة من بداية حياته حتى قتل على يد ابن ملجم. والشيعة كما هو معلوم يعلنون أن علي بن أبي طالب هو الوصي بعد النبي (صلى الله علیه و آله) بلا فصل. فهل توقفت شجاعة علي “رضي الله عنه” بعد وفاة النبي (صلى الله علیه و آله) حتى بايع أبا بكر الصديق “رضي الله عنه”؟! ثم بايع بعده مباشرة الفاروق عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”؟! ثم بايع بعده مباشرة ذا النورين عثمان بن عفان “رضي الله عنه”؟! فهل عجز “رضي الله عنه” ـ وحاشاه من ذلك ـ أن يصعد منبر رسول الله (صلى الله علیه و آله) ولو مرة واحدة في خلافة أحد الثلاثة ويعلنها مدوية بأن الخلافة قد اغتصبت منه؟! وأنه هو الأحق بها لأنه الوصي؟! لماذا لم يفعل هذا ويطالب بحقه وهو من هو شجاعة وإقداماً؟! ومعه كثير من الناصرين المحبين؟!

الجواب: 

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:

الشجاعة لا تعني التهور

إن شجاعة علي “عليه السلام” لا تعني أن يكون متهوراً، وأن يبطش بالناس غير مبال بالعواقب، كما أنه لم يكن ليستفيد من شجاعته إلا وفق الضوابط الشرعية، لا لينتقم لنفسه، أو ليشفي غليل صدره.. إنه شجاع بالله، ولله، وفي سبيل الله..

كيف اعترض على المستولين على الخلافة

إن أبلغ اعتراض يمكن أن يسجل على الذين استولوا على الخلافة هو ما سجله علي “عليه السلام” بصبره الذي أحرجهم فأخرج هم عن حالة التوازن، فقد رأى الناس بأم أعينهم كيف هاجم بيته الذين استولوا على حقه، واقتحموه، وضربوا زوجته، وأسقطوا جنينها..
ولا بد أن يسأل الناس كلهم عن سبب هذا الهجوم عليه، وعن سبب ضرب أشرف وأفضل وخير نساء العالمين من الأولين والآخرين، وعن سبب محاولة إحراق ذلك البيت الطاهر بمن فيه؟! ولماذا لم يصنعوا مع غير علي والزهراء “عليهما السلام” مثل ما فعلوه معهما..
وسيرى الناس: أنه “عليه السلام” لم يعتد عليهما، وأنهم قد صنعوا ذلك كله قبل أن يروه ويكلموه بأية كلمة..
وهذا عجيب حقاً.. وأي عجب!!
وحيث إن الناس كلهم قد رأوا ذلك كله، وعاشوه، ولا يمكن أن نتوقع أنهم كانوا راضين به، فلا بد أن نعرف أنهم كانوا واقفين على حقيقة دوافع الفاعلين لذلك كله، وعلى أن الأمور كانت واضحة لهم وضوح الشمس.
ولا نرى سبباً لهذا الوضوح إلا أن كلهم أو أكثريتهم الساحقة كانوا قد حضروا في حجة الوداع، وعاينوا ما جرى يوم عرفة، ثم حضروا يوم الغدير، وشايعوا وبايعوا علياً “عليه السلام”.. ولم يمض على ذلك الحدث العظيم سوى سبعين يوماً كانت زاخرة بالأحداث الجليلة التي أظهرت مدى تصميمهم على نقض ما أبرمه الله ورسوله..
مثل إقدامهم على منع النبي “صلى الله عليه وآله” من كتابة الكتاب، واتهامه “صلى الله عليه وآله” بالهذيان، وبأنه يهجر ـ والعياذ بالله ـ.
والتمنع عن المسير في جيش أسامة، رغم الإصرار النبوي المتواصل والشديد عليهم في ذلك.
ومثل محاولة الإستيلاء على مقام الصلاة بالناس حتى في حياة رسول الله “صلى الله عليه وآله”..
وقد أدرك الناس كلهم: أن هذا الأمر محسوم، وأنه لا فائدة من الكلام والجدال فيه، بل سيكون الكلام فيه ـ في أي مستوى كان ـ بمثابة صب الزيت على النار..

هل احتج علي عليه السلام لإثبات حقه؟!

قال السائل: إن علياً “عليه السلام” لم يحتج على مناوئيه بأن الحق له.. وهذا غير دقيق، فقد احتج عليهم بأنواع من الإحتجاجات، ونقض أيضاً حججهم، وبين بطلانها، واحتج ببيعتهم له، وبما جرى يوم الغدير، وبأمور كثيرة أخرى..
ولكن من يبادر قبل أي شيء إلى إحراق البيت بمن فيه، وإلى ضرب سيدة نساء العالمين، إلى حد إسقاط جنينها.. وإلى غير ذلك من أمور.. هل سيسمح لعلي “عليه السلام” بصعود المنبر، وخطبة الناس والإحتجاج عليهم، وإبطال ما جاؤوا به؟! أم أنه سيثيرها حرباً شعواء تأكل الأخضر واليابس ضد علي “عليه السلام” لو حاول أن يفعل ذلك؟!
وهل سيقف المتربصون بالإسلام وأهله في هذه الحالة موقف المتفرج؟! أم أنهم سيوردون ضربتهم القاصمة التي لا تبقي ولا تذر..
وبعد، فإن علينا أن نتذكر دائماً قوله “عليه السلام”:
“وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً”1.
ومنها قوله “عليه السلام”: “اللهم إني أستعديك على قريش [ومن أعانهم] ؛ فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري (أو هو لي)” 2.
والنصوص الإحتجاجية له “عليه السلام” كثيرة، وفي كتاب الصحيح من سيرة الإمام علي “عليه السلام” بعض من ذلك 3.

الشك في بيعة علي عليه السلام للخلفاء

ذكر السائل: أن علياً “عليه السلام” قد بايع أبا بكر وعمر، وعثمان.. وذلك موضع ريب وشك، فإن بيعته لعمر مشكوك فيها، لأن الظاهر أن خلافة عمر استندت إلى وصية أبي بكر، واكتفى الناس بها، فلم تجر بيعة ليقال: هل بايع علي، أو لم يبايع؟!
ومراجعة كتب التاريخ لا تجدي في تحديد ما جرى، لأنها تجري الكلام في سياق عام، وتتجاهل التفاصيل.
أما بالنسبة لبيعة علي “عليه السلام” لعثمان، فهي دائرة بين احتمالين:
أحدهما: أن يكون قد بايع تحت وطأة التهديد بالسيف 4.. ومن الواضح: أنه لا بيعة لمكره 5.
الثاني: ما ذكره الشيخ المفيد، الذي قال عن علي “عليه السلام”: “وانصرف مظهراً النكير على عبد الرحمان. واعتزل بيعة عثمان. فلم يبايعه، حتى كان من أمره مع المسلمين ما كان” 6.
أما بالنسبة لبيعة علي “عليه السلام” لأبي بكر، فهي مشكوكة أيضاً، فإن كان قد بايع مكرهاً، فلا فائدة في بيعة كهذه، إذ لا بيعة لمكره كما قلنا في السؤال رقم (19)..
وإن لم يكن قد بايع، فقد سقط احتجاج السائل على الشيعة..
وقد روي: أنه “عليه السلام” أقسم على عدم البيعة، فقال لعمر: إذاً ـ والله ـ لا أقبل قولك، ولا أحفل بمقامك، ولا أبايع 7. ولم يكن علي “عليه السلام” بالذي يحنث بقسمه..
ويمكن أن يقال أيضاً: إن حديث احتجاج طائفة من الصحابة على أبي بكر يدلُّ على أن علياً “عليه السلام” لم يبايع أبا بكر، فبعد أن امتنع “عليه السلام” عن بيعة أبي بكر في اليوم الأول صعد أبو بكر المنبر في اليوم التالي، فتشاور قوم فيما بينهم.
فقال بعضهم: والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله “صلى الله عليه وآله”.
وقال آخرون منهم: والله، لئن فعلتم أعنتم على أنفسكم.. ثم اتفقوا على استشارة علي “عليه السلام” في ذلك، فلما أخبروه بالأمر قال: وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين بأسيافكم، ومستعدين للحرب والقتال، وإذن لأتوني. وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك. فلا بد لي من أن أدفع القوم عن نفسي 8.
فدلَّ هذا الخبر على أن تصرفهم هذا سوف يؤدي إلى حرب.. ولا يؤدي إلى حرب إلا إذا خيَّر بين البيعة وبين القتل، فإذا اختار عدم البيعة وقعت الحرب، التي تفرض أن يأتي الناس إليه متأهبين للقتال. حيث سيضطر إلى دفع القوم عن نفسه بهذه الطريقة.

كل إمام في عنقه بيعة

واذا كان “عليه السلام” لم يبايع، فكيف نفسّر ما ورد في بعض النصوص:
“..ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم..” 9.
ونجيب:
بأنه لا شك في أن المقصود هو البيعة التي تكون بالإكراه. أو ما صورته صورة البيعة بنظر الناس من عهد وعقد. إذ لا شك في بطلان إمامة كل من ادعى الإمامة خارج النص الإلهي..
فلا قيمة للبيعة المبنية على باطل، فإن كان قد جيء بعلي “عليه السلام” ملبباً، ثم مسح أبو بكر على يده، وصاحوا: بايع أبو الحسن.. ولم يعد بالإمكان إنكار هذا الأمر ولا مجال لاقتلاعه من أذهان الناس، كفى ذلك في صدق الأحاديث المشار إليها، على أساس أن المراد: في عنقه بيعة بنظر الناس بصورة عامة..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله.. 10.

  • 1. نهج البلاغة (بشرح عبده) ج 1 ص 31.
  • 2. راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج 2 ص 85 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج 4 ص 175 والغارات للثقفي ج 1 ص 308 وج 2 ص 570 و 767 والمسترشد ص 416 وكتاب الأربعين للشيرازي ص 172 و 186 وبحار الأنوار ج 29 ص 605 وج 33 ص 569 (ط قديم) ج 8 ص 621 والمراجعات ص 390 والنص والإج تهاد ص 444 ونهج السعادة ج 6 ص 327 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 4 ص 103 وج 6 ص 96 وج 9 ص 305 والإمامة والسياسة ج 1 ص 155 و (تحقيق الزيني) ج 1 ص 134 و (تحقيق الشيري) ج 1 ص 176 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج 2 ص 74 فما بعدها.
  • 3. المناقب للخوارزمي ص 313 ح314 وفرائد السمطين ج 1 ص 19ـ 322 وكنز العمال ج 5 ص 716 ـ 726 وكفاية الطالب ص 386 و387، عن كتاب الطير للحاكم النيسابوري، ولسان الميزان ج 2 ص 156 و157 وميزان الإعتدال ج 1 ص 441 و442 وتاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 431 ـ 436 والخصال ج 2 ص 553 وبحار الأنوار ج 31 ص 315 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 6 ص 167 و 168 والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج 3 ص 35 واللآلي المصنوعة ج 1 ص 361 ـ 363 وغاية المرام ص 564 والصواعق المحرقة ص 126 و156 والأمالي للطوسي ص 7 و212 و (ط أخرى) ص 322 ح667 و 554 ح1169 وفي (ط أخرى) ج 1 ص 343 وج 1 ص 159 و 166 والضعفاء الكبير للعقيلي ج 1 ص 211 ح258 والتاريخ الكبير للبخاري ج 2 ص 382 والغدير لابن جرير الطبري، ورواه الذهبي عنه، ورواه الطبراني، والدارقطني والأمالي للحسين بن هارون الضبي (مخطوط) الورق 140 في المجموع 22 في المكتبة الظاهرية.. وعن ابن مردويه، والأمالي لعلي بن عمر القزويني (مخطوط) في مجاميع المكتبة الظاهرية، ومناقب الإمام علي بن أبي طالب “عليه السلام” لابن المغازلي ص 112 ح155 وجمع الجوامع ج 2 ص 165 و166 عن أبي ذر، وج 2 ص 166 و167 والتفسير الكبير للرازي ج 12 ص 28 والدر النظيم ج 1 ص 116ومختصر تاريخ دمشق ج 16 ص 157 و 158 وإرشاد القلوب للديلمي ج 2 ص 51 والطرائف لابن طاووس ج 2 ص 411 وبناء المقالة الفاطمية ص 410 وغاية المـرام ج 5 ص 77 وج 6 ص 5 وسفينـة النجاة للتنكابني ص 361 وشرح إحقاق الحق (الأصل) ج 5 ص 31 وج 15 ص 684 ونهج السعادة ج 1 ص 127 وينابيع المودة ج 2 ص 344 وكتاب الولاية لابن عقدة ص 176 وبشارة المصطفى ص 243.
  • 4. أنساب الأشراف ج 5 ص 22 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 12 ص 265 والغدير ج 5 ص 374 و 375 وج 9 ص 197 و 379 وج 10 ص 26 والوضاعون وأحاديثهم ص 498 و 499 وتقريب المعارف ص 351 وغاية المرام ج 6 ص 8 وتاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 238 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج 3 ص 302 وتاريخ الإسلام للذهبي ج 3 ص 305 و 304 والإمامة (تحقيق الزيني) ج 1 ص 31 و (تحقيق الشيري) ج 1 ص 45.
    وراجع: صحيح البخاري ج 6 ص 2635 ح6781 و (ط دار الفكر) ج 8 ص 123والسنن الكبرى للبيهقي ج 8 ص 147 وعمدة القاري ج 24 ص 272 والمصنف للصنعاني ج 5 ص 477 وتاريخ مدينة دمشق ج 39 ص 193.
  • 5. راجع: البداية والنهاية ج 10 ص 90 ومقاتل الطالبيين ص 190 وتاريخ الأمم والملوك (ط أورپا) ج 3 ص 200 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج 6 ص 190 والكامل في التاريخ ج 5 ص 532.
  • 6. الجمل للمفيد ص 123 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص 61.
  • 7. الإحتجاج للطبرسي ج 1 ص 181 ـ 185 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج 1 ص 94 ـ 97 وبحار الأنوار ج 28 ص 185.
  • 8. الإحتجاج ج 1 ص 181 ـ 185 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ) ج 1 ص 94 ـ 97 وبحار الأنوار ج 28 ص 191 وقد ذكرنا هذه الحادثة ومصادرها في فصل: “إحتجاجات ومناشدات”.
  • 9. كمال الدين ص 316 وكفاية الأثر ص 225 والإحتجاج ج 2 ص 9 وبحار الأنوار ج 14 ص 349 وج 44 ص 19 وج 51 ص 132 وج 52 ص 279 وكشف الغمة للإربلي ج 3 ص 328 والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 302 وغاية المرام ج 2 ص 285 وإلزام الناصب ج 1 ص 194 ومكيال المكارم ج 1 ص 113 وموسوعة أحاديث أهل البيت “عليه السلام” للنجفي ج 8 ص 233.
  • 10. ميزان الحق (شبهات.. و ردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، سنة 1431 هـ ـ 2010 م، الجزء الأول، السؤال رقم (32).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى