“ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ “[1].
على فراش الاستشهاد
أطلع الله نبيّه على مؤامرة قريش الهادفة لاغتياله، وهو نائم على الفراش، وأنّه (ص) قد وضع تحت المراقبة إلى حين تنفيذ عملية القتل.
هذا هو مكرهم،أمّا مكرُ الله، فقد أمر النبي (ص) علي بن أبي طالب أن يبيت على فراش النبي (ص) كي يوهم قريش أثناء المراقبة أنّ النبي (ص) ما زال نائماً، في حين يكون (ص) مغادرًا.
وبات علي (ع) على فراش العملية الاستشهاديّة الأول في تاريخ الإسلام.
ولأهميّة هذا الحدث ورد عن طرق الشيعة وأهل السنّة أنّه في تلك اللحظات التي كان علي (ع) ينام على فراش الاستشهاد “أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل “أنّي قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كل منهما الحياة فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عبدي علي، آخيت بينه وبين نبيه محمد (ص)، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إليه، فاحفظاه من عدوّه، فنزلا، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه فقال جبرئيل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله به ملائكة السماء، فأنزل الله على رسوله وهو متوجه إلى المدينة” (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ)[2]“[3].
بدر الموت الأحمر
وفي بدر صال علي (ع) صولة من لا يخاف موتاً، بل صولة المقتحم أبواب الآخرة فقتل نصف المشركين، واشترك في النصف الآخر، حتى سمِّي فيها: “الموت الأحمر”.
وعقيبها جاء إلى رسول الله قائلاً: “بأبي وأمي، كيف حرمت الشهادة”؟ فأجاب رسول الله (ص): “أبشر فإنّ الشهادة من ورائك”[4].
وفي معارك تكرّر سؤال علي (ع) وجواب النبي (ص).
علي (ع) والليلة المرتقبة
وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان خرج أمير المؤمنين (ع) إلى المسجد مستبشراً: إنّها ليلة الوعد النبوي في لقاء الله.
لذا فإنّه حينما شعر بضربة السيف على رأسه قال: “فزت وربّ الكعبة” ثم قال بعدها:
“والله ما فاجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالعٌ أنكرته، وما كنت إلا كقاربٍ وَردَ، وطالبٍ وَجدَ [وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ][5]“[6].
والقارب هو طالب الماء[7]، فهو (ع) يصوِّر حالته بالنسبة إلى الموت الذي هو، عنده، لقاء الله، فهو يطلبه كطالب الماء، وبضربة ابن ملجم ورد ذلك الماء، ووجد ما يأمل وهو ما عند الله الذي هو خير للأبرار.
سرُّ علي (ع) مع الموت
في مقاربة نظرة علي (ع) للموت يمكن التعرّض لأمرين يختلف فيهما أمير المؤمنين (ع) عن كثير من الناس وهما:
1- اليقين بالموت وما بعده
كلنا متيقّن أنّ الموت قادم لا محالة، وأنّه لا مفرَّ منه لكلّ إنسان مهما طال عمره، إلا أنّ التعامل مع الموت عند أكثر الناس ليس تعاملاً على أساس أنّه يقين مقبل، بل إنّ أعمال أكثر الناس توحي أنّهم لا يعتقدون بالموت، مع أنّهم يعتقدون به، لكنّهم لا يتفاعلون مع هذا الاعتقاد، وقد عبّر الإمام علي (ع) عن هذه الحقيقة بقوله: “لم أر يقينًا لا شك فيه صار كشكٍّ لا يقين فيه كالموت”[8].
وسبب ذلك هو أنّ اليقين بالموت عند الناس هو في دائرة المعرفة العقلية النظريّة التي قد لا يتفاعل الإنسان معها على مستوى التسليم العملي والسير والسلوك.
وحتى تترجم هذه المعرفة في السلوك لا بدّ بتعبير الإمام الخميني (قده) أن يكتبها قلم العقل على لوح القلب لتتحوّل إلى “معرفة قلبية”.
إنّ أكثر الناس مع علمهم بالموت إلا أنّ معرفتهم لم تكتب على لوح القلب، وهذا ما ينتج عنه أمران:
الأول:أنّ مسلكهم الحياتي لا ينسجم مع اليقين التام بالموت وما بعده، بل قد يعاكسون ذلك، وهذا ما حذّر منه أمير المؤمنين (ع) بقوله: “لا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت من أجله… يخشى الموت، ولا يبادر الفوت“[9].
الثاني:أنّ مصيرهم في الآخرة في ظلِّ عدم الوصول إلى ذروة اليقين لن يخلو من ضمة وضغطة قبر، وهذا ما عبّر عنه النبي (ص) بقوله الوارد عنه: “إنّه ليس من مؤمن إلا وله ضمة”[10].
ويفسّر البعض ضغطة القبر وضمّته بصدمة المفاجأة عند مشاهدة عالم البرزخ، فكلما كانت المعرفة أقوى كلّما خفّت ضمة القبر. أمّا صاحب المعرفة القلبيّة التامّة، فلا مفاجأة أمامه، وبالتالي لا ضغطة له.
2- الأنس بالموت
لم يقتصر الإمام علي (ع) على الحديث عن معرفته وعقيدته ويقينه بالموت وطلبه له، بل تحدّث عن أنسه به فعنه (ع): “والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه”[11].
تُرى ما هو سبب أنس الإمام عليّ (ع) بالموت؟
الجواب يكمن في أنّ الموت في نظر أمير المؤمنين (ع) هو مدخل لقاء الحبيب ورد عنه (ع): “لما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (ع) أهبط الله ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم، قال:وعليك السلام يا ملك الموت أداع أنت أم ناع؟ قال: بل داع يا إبراهيم، فأجب، قال إبراهيم (ع):فهل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جلّ جلاله فقال: إلهي سمعت ما قال خليلك إبراهيم، قال الله جلّ جلاله: يا ملك الموت إذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيبًا يكره لقاء حبيبه، إنّ الحبيب يحبّ لقاء حبيبه“[12].
والإمام عليّ (ع) كان حبيب الله، روي أنّه وقّع نصل في رجله، فلم يمكِّن أحدًا من إخراجه، فقالت فاطمة (ع): أخرجوه في حال صلاته، فإنّه لا يحسّ حينئذٍ بما يجري عليه.
لذا كان الإمام عليّ (ع) يستأنس بالموت، ولذا حينما شكا لرسول الله (ص) عدم شهادته قائلاً: “يا رسول الله، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك”.
فأجابه رسول الله: إنّ ذلك لكذلك، فيكف صبرك إذًا”؟
فقال (ع): “يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر”[13].
لذا كانت أول كلمة له بعد ضربة السيف فزت ورب الكعبة.
[1]سورة البقرة، الآية 207.
[2]سورة البقرة، الآية 207.
[3]الحر العاملي، محمّد حسن، الجواهر السنيّة، ص308.
[4]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج40، ص114.
[5]سورة آل عمران، الآية 198.
[6]الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، ج3، ص21.
[7]البحرانيّ، ابن ميثم، شرح نهج البلاغة، ج4، ص 403.
[8]ابن طاووس، فلاح السائل، ص62.
[9]محمد، أويس، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، ط1، مشهد، مؤسسة البحوث الإسلامية، 1408هـ، ص 127.
[10]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج6، ص217.
[11]ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، ط1، قم، دار الذخائر، 1412هـ، ج1، ص 41.
[12]الراوندي، قطب الدين، قصص الأنبياء، تحقيق غلام رضا عرفانيان، ط1، (لا،م)، مؤسسة الهادي، 1418هـ، ص 118.
[13]ابن أبي طالب،الإمام عليّ، نهج البلاغة، ج2، ص 50.
المصدر:موقع سراج القائم (عج)