كثيرون هم الذين كتبوا عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)… والمتأملون في شخصه(عليه السلام) أكثر. والكل حيرى إذ يُقرون بعجزهم عن إيفاء الرجل حقه بعد إذ انقسم الناس فيه إلى ملل ونحِل… لكن خزين معارفهم يدفع بصرٍ شتى من نسيج فكرهم للظهور على سطح الحدث الذي تمتلئ فيه الدنيا في كل زمان ومكان.
إنهم بين أمرين، بين طيِّ أوراقهم والركون إلى زوايا الصمت والانصراف نحو تناول شخوص آخرين هم أقرب إلى قدراتهم منالاً بعد أن يبتعدوا عن شخص الإمام والإمامة والتفاعل مع كنهها وبين إطلاق الصفات لكوامن قدراتهم واسترسال أقلامهم مستميحين الإمام عذراً فيما هم به مقصرون، ولا عجب بعد أن عجز الجميع عن نيل المراد قبلهم. ولعل عذرهم حبهم لذلك الإمام العظيم أو إعجابهم به على أقل تقدير عند بعض الفرق والشخوص حيث الذات المنصفة تجبر صاحبها على الإقرار بالحق في نهاية الطريق… الحقيقة التي فرضت نفسها حتى على ألَّد أعدائه(عليه السلام)… ذلك عمرو بن العاص وحتى معاوية بن أبي سفيان نفسه برغم طلاقهم للحق.
وفي زحام ذلك السفر الخالد والملاحم العظيمة التي سطرها أصحاب الفكر والقلم العظام تأتي محاولتنا المتواضعة لتطرق باباً ربما نحن بحاجة إليه وحقيقة لابد من تناولها تختص بإبراز ـ المزايا الفريدة ـ التي اختص بها الإمام(عليه السلام) دون غيره من الناس طبعت شخصيته المميزة عبر كل تلك القرون. صحيح أن مزاياه(عليه السلام) مشهورة للجميع لكن فرزها وإبرازها ككل مترابط يرسم صورة شخصية الإمام المتكاملة فيما هو ظاهر منها على الأقل، سوف يعين الأكثرية على الإلمام بالحد الأدنى الواجب استيعابه في هذه الشخصية الفريدة من نوعها بين الجنس البشري.
كان(عليه السلام) قد اجتمعت فيه المزايا حتى ازدحمت وتكثفت فيه الخواص حتى استحال على الناس إدراك حقيقتها… فتفرقوا فيه ثلاث شيع. منها:
(الغال) ممن ثُلمت عنده بصيرة الإيمان
و(القال) الذي أعمته روح الحسد والجهل… وقد هلكا بنص قول النبي(صلى الله عليه وآله)
و(المنصفون) ممن كانوا أمة وسطاً بين الثلاث. أولئك الذي عرفوا طريقهم إلى ربهم فآمنوا بنبيه والإمام. وإن كان سبحانه قد اختار نبيه ودل على نبوته بإعجاز القرآن فقد دلّ على من اختاره إماماً بالنص والحجة والبيان فكان عليٌ من اختير دون سواه من ذرية إبراهيم(عليه السلام) ممن توفر فيه حصراً شرط العدالة المتكاملة بين خلق الله عزت أسماؤه بموجب عهد إلهي سابق وإنفاذاً لوعده(1) تعالى فكان(عليه السلام) مصداق الآية الكريمة:
(…قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2). إذ كانت تلك محورية (المزايا الفريدة) التي اختص بها علي(عليه السلام) دون سواه من السابقين واللاحقين. فحق للناس مثلما حق عليهم أن يأخذوا بتلك المزايا تفكراً وبحثاً وحواراً ولئن لم يبلغ القلم مداه فذاك أمر قد سهله علينا ابن عباس إذ قال:
(إن علمي بالنسبة لعلم ابن عمي علي(عليه السلام) كنسبة قطرة في بحر…)
ومن أجل خدمة الحق والحقيقة سنتناول باقتضاب مُجهِد ذلك السفر الخالد الذي تركه لنا(عليه السلام) فأحارنا به والله المستعان. حيث:
0 كانت الولادة في بيت الله العتيق. حدثت مرة واحدة في التاريخ لم تتكرر.
0 وكان(عليه السلام) كذلك الوحيد الذي بدأت حياته وانتهت في بيوت الله بعد أن تلقى ضربة الكفر والغدر وهو يصلي في المحراب على يد ابن ملجم.
0 علي(عليه السلام) كان أول من حمل هذا الاسم وكان النبي(صلى الله عليه وآله) هو من سماه دون والديه فكان الحمد به (صلى الله عليه وآله) والعلو به وبعلي (عليه السلام). علو على العبودية والجهل والقيم البالية. حمل(عليه السلام) أسماء كثيرة لكن هذا الاسم هو الذي علا كل الأسماء فوسم به.
0 وباستثناء النبوة فقد كان الوحيد عند ولادته وما قبلها من ولد على الفطرة… فكان الذي كرم الله وجهه إذ لم يسجد لصنم قط ولم يشرك بربه أحداً وخلت كل حياته من لحظة شك واحدة. كان اليقين مولوداً مع علي مع ضميره وقلبه وعقله وكل حاسة فيه. لم يكن له قرين بعد النبوة… فكان علّية القوم ابتداءً… إذ كان الأول بعد النبي(صلى الله عليه وآله) من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
0 وكان أول من صلى خلف النبي وحيداً لم يشاركه بهذا أحد. قبل التبشير.
0 وكان أول من رأى النبي(صلى الله عليه وآله) يتعبد في غار حراء والوحيد الذي سمع مع النبي(صلى الله عليه وآله) صوت الوحي. وأول من قرأ كتاباً ينزل من السماء.
0 وحيداً بات في فراش النبي(صلى الله عليه وآله) والوحيد الذي أدى هذه المسؤولية على مد التاريخ والوحيد الذي ألقى النبي(صلى الله عليه وآله) عليه رداءه حتى ظنت قريش أنه هو (محمد) ذلك المستلقي. لكن الإمام نجا مع كل ذلك إذ لم تنتبه قريش لقتله لتثكل عدوها (محمداً) ابن عمه أو تشفياً من ذلك الفدائي البطل المتحدي لجبروتهم.
0 وحمل الأمانات في اليوم التالي ليسلمها لأهلها… وليس هناك من يفي أو يؤدي أو يبلغ عن النبي(صلى الله عليه وآله) غيره، كما سيأتي بيان ذلك بعد سطور.
وهذا أمر يستحق منا وقفة تأمل. فالصادق الأمين لابد أن يأمن على أمانة من ائتمنه… فماذا لو قُتل علي(عليه السلام) ليلتها؟!
هل كان(صلى الله عليه وآله) واثقاً من نجاة علي(عليه السلام)؟
أمر لا يُستبعد أن قد بُلِّغ به الرسول(صلى الله عليه وآله) وعندها ستكون الأمانة مصونة وإيصالها مضمون.
هذا أمر لا يحتاج إلى عناء بحث. لكن ما يستوقفنا هو موقف علي(عليه السلام) نفسه.
فالمؤكد أن النبي(صلى الله عليه وآله) سوف لن يُنبأ علياً بشيء. وسنرى: قال له(صلى الله عليه وآله): ألا تخشى القتل يا علي… قال(عليه السلام): أَوَ تنجو أنت يا رسول الله ؟. قال(صلى الله عليه وآله): نعم. قال(عليه السلام): إذن فلا أبالي. علي لا يبالي بالموت وهو مستعد له تماماً.
لكن من يؤدي الأمانات بعدك يا أمير المؤمنين؟.
لابد أن بصيرة الأعيان عنده(عليه السلام) قد طمأنته بأن الله مُنجيه كي يكمل المهمة.
ولكن يحق لنا أن نتساءل عن كنه ذلك القلب الصابر المطمئن في مواجهة سيوف الجبابرة دون وجل أو خوف بل وعن تلك الثقة الغالبة في نفسه وفي قدرته على منازلة أولئك العتاة المتجمعين من كل القبائل. قلب عامر بالإيمان مطمئن لقضاء الرحمن: وتلك صفة كذلك لم تتوفر لغيره…
فهو لم يسأل عن مصيره بل قال(عليه السلام): إذن فلا أبالي… ولم يقل أريد ما يطمئن به قلبي. تلك منحة الله لا يحق لأحد مناقشتها… فذلك هو علي وهكذا كان إيمانه.
0 وحانت بعد ذاك لحظة الهجرة للحاق بالنبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه وكان فيها وحيداً أيضاً يقود حرم النبي(صلى الله عليه وآله) والأصحاب… قطع عباب الصحراء جاهداً حتى أطلّ الحبيب على حبيبه.
0 وفي ساعة عقد مؤتم الإنذار (وأنذر عشيرتك الأقربين…) كان قد حطم بصوته ذلك السكون المخيم على جو الحضور حين صمت الجميع عن إجابة نداء النبي(صلى الله عليه وآله)… قد سبقه صوت نشاز صوت الباطل عدو التوحيد ـ أبي لهب ـ فجاء الصوت العاتب على لسان من سيكون وحده (الأخ والوصي والوزير والخليفة) لنبي الرحمة(صلى الله عليه وآله)… (أنا يا رسول الله أؤوزارك على أمرك… ولا يحزنك عنت القوم. أنا حرب على من حاربك منهم وسلم على من سالمك…) فمرحى لصوت الإيمان المجلجل في يوم الفصل، يوم الإنذار… الفيصل… بين الأيام.
0 علي(عليه السلام)… أخو رسول الله(صلى الله عليه وآله) فآية أخوة تلك التي أرادها النبي(صلى الله عليه وآله)… فالجميع أخوة النبي… لا جدال… لكن كينونة أخوة علي للنبي(صلى الله عليه وآله) تبدو من النوع الخاص. هي أخوة العقيدة والمهمة المصممة أصلا في السماء. وما حصل على الأرض فلم يكن إجراءً تقليدياً بكل المقاييس.
النبي(صلى الله عليه وآله) طلب أخاً دون شرط المعمر من بين شخوص كان بينهم الشيخ والفتى والكهل في مؤتمر (الإنذار) والذي توِّج أخاً للنبي(صلى الله عليه وآله) كان أصغرهم سناً!! وفي لحظة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار اختار كل صاحبه (أخاً).
أما علي الحاضر فلم يطلبه أحد!! ظل وحيداً في حالة تدعو للعجب بعد إذ اكتمل عدد الأنصار بعدد المهاجرين وفَضُل علي(عليه السلام) كي يدعوه أخوه الرسول(صلى الله عليه وآله) ليؤاخيه… إنه سر من أسرار الرسالة وددنا التأمل فيه قليلاً…
0 قال سعد بن أبي وقاص في مجلس معاوية: (ثلاث كن لعلي لو حظيت بواحدة لكانت عندي خير الدنيا وما فيها…). قال: ما هي يا سعد؟ قال: (زوج البتول وأبو الحسنين وفارس يوم الأحزاب). لكن الأمر في غاية الوضوح لا يقبل الأمنيات يا سعد!
فزاوج علي من فاطمة كان زواج الكفيء للكفيء… وكأنهما خلقا لبعضهما حصراً. ومنهما ستثمر (الشجرة الطيبة) وستولد (ذرية بعضها من بعض). طاهرة مطهرة من نسل إبراهيم(عليه السلام) لتتوالى فيما بعد سلسلة الإمامة والعهد… ألم نر جميعاً أن الإمامة لم تعقد في أولاد علي(عليه السلام) من غير البتول فاطمة(عليها السلام).
وأما يوم الخندق فالحق كان في مراد من أراد. لم يرد أي منكم سوى (علي) الذي انفرد للتصدي فاستحق ما قال النبي(صلى الله عليه وآله) فيه من أقوال وأدعية:
(اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين…). (اللهم قد برز الإيمان كله إلى الشرك كله…). (ضربه علي لعمرو بن ود يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين…). نالها علي(عليه السلام) إذن بجدارة واستحقاق وعلى لسان من لا ينطق عن الهوى.
0 كان علي(عليه السلام) من خلف النبي(صلى الله عليه وآله) على المدينة عند خروج النبي في غزوة تبوك فتلك كانت الغزوة الوحيدة التي غاب عنها الإمام(عليه السلام) بأمر النبي(صلى الله عليه وآله). وعندما استفزه القوم إذ قالوا… ويا عجباً لما قالوا… فكأنهم لم يشهدوا علياً(عليه السلام) يتقدم الصفوف كل مرة بل وكان المتصدي الوحيد في معظمها… في أحد والخندق وحنين…
قالوا: أن النبي(صلى الله عليه وآله) قد خشي على زوج ابنته إذ تركه على المدينة. سمع علي(عليه السلام) فشد الرحال تاركاً المدينة حتى لحق بالنبي(صلى الله عليه وآله) فأخبره بالأمر… قال(صلى الله عليه وآله) عندها (أما رضيت يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي…)
قال(عليه السلام): بلى يا رسول الله. فأرجعه من حيث أتى… عاد علي بعد أن أضاف للناس علماً جديداً. فترك النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام) في المدينة إذن كترك موسى لهارون في قومه… وكذا كانت المنزلة بينهما فيما خلا النبوة. ولعمري كأني بالقوم قد ندموا على ما هزُل من قولهم قبل أن يبهتوا بالمزيد من البيان بحق علي(عليه السلام). وفي كل مرة يعود علي(عليه السلام) وحده بالجائزة التي يستحق.
0 وعند نزول سورة (براءة) كان النبي(صلى الله عليه وآله) قد دعا علياً(عليه السلام) للحاق بأبي بكر، أمير الحج عامها وأمره أن يبلغ الناس بما أنزل عليه(صلى الله عليه وآله)… لكن الحاسدين كعادتهم لم يتركوا الأمر دون استفهام واعتراض… ولكن لِمَ لا يكون أبو بكر هو المبلِّغ يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): (لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي…). تلك من أهم المزايا التي تُحفظ لعلي، حرية بالفهم.
0 وفي (أحد) ولّى الناس الأدبار إلا علي(عليه السلام). وإذ كاد سيف الشرك أن يطيح برقبة النبي(صلى الله عليه وآله). غضب(صلى الله عليه وآله) حيث وجد علياً(عليه السلام) بمفرده أمامه. قال(صلى الله عليه وآله): (ما لك لم تلتحق ببني أبيك!!) ويبدو واضحاً أن الهزيمة شملت الجميع دون استثناء… أجاب علي(عليه السلام) بما يشفي الغليل: (أكفر بعد إيمان يا رسول الله؟) إجابة فريدة… لعلي(عليه السلام)… قال النبي(صلى الله عليه وآله) إذن فكُفَّ عني هذه العصابة… (لا سيف إلا ذو الفقار… ولا فتى إلا علي). شهادة خصت علياً على لسان النبي(صلى الله عليه وآله). وموفق كأنه صنع خصيصاً لعلي(عليه السلام).
0 وجاء يوم (الخندق) وما أدراك ما يوم الخندق وما جرى فيه. معركة كانت قريش مزهوة بغار النصر (النسبي) الذي حققته في أحد وكان الزهو مشفوعاً بغطرسة القبائل التي تحالفت مع قريش هذه المرة يقابله شعور المسلمين بالإحباط يزيد من عمق أثره ذلك الحصار الرهيب الذي أحاط بالمدينة. خرق الخندق من أحد أعتى جبابرة قريش إن لم يكن أعتاهم على لسان النبي(صلى الله عليه وآله). ويقف عمرو بن ود مرتجزاً بعد أن كرر النداء لمبارزته:
وقفــــت إذ جبــن المشــجع موقــف البطل المنـــــاجز
إنـــي كذلــك… لــــــم أزل متسرعــــاً نحو الهزائــــز
إن السماحة والشجاعة في الفـــــتى حيــــز الغرائـــز
ويتقدم علي(عليه السلام) بخطى المؤمن الواثق وبكبرياء تُشوش بصر الناظر. ويتحدى البطل الهمام جباراً متغطرساً رهيباً. إنه (عمرو) وعلي(عليه السلام) يقول وأنا علي بن أبي طالب. كان قلب النبي معلقاً بعلي(عليه السلام)… ودعواه تخشع قلب كل مؤمن (اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين). ذلك كان دعاء أبيه إبراهيم(عليه السلام).
النبي(صلى الله عليه وآله) سيبقى فرداً إذن بعد علي(عليه السلام) دون الآخرين… إذ ليس فيهم كعلي(عليه السلام)… ثم (وأنت خير الوارثين). أي إرث يا رسول الله؟!! ليس الخوف إذن على حياة علي(عليه السلام) فـ(إنك ميت وإنهم ميتون)… إنه إعلام للناس: إن علياً(عليه السلام) هو وارث النبي(صلى الله عليه وآله)… وهو إرث الرسالة حيث لا مال ولا ضِياع… هو استمرار النبوة بصيغة الإمامة… وعلي(عليه السلام) هو المتوج لها وحامل لواءها منذ يوم (الإنذار) ولذا فقد (برز الأيمان كله إلى الشرك كله) قال النبي(صلى الله عليه وآله). قطع علي(عليه السلام) على عمرو نشوة غروره إذ أجابه:
لا تعجـــلن فقد أتــــــــــاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيـــــة… وبصــــــــيرة والصــدق مُنجي كل فائز
إنــي لأرجــــو أن أقيـــــم علـــــيك نائحة الجنــــائز
من ضـربة نجــــلاء يبـقى ذكــرهـــا عنــد الهزائـــز
قُتل الشرك كله… وانتصر الإيمان كله وحُسم الأمر… والحمد لله على إنجازه وعده.
0 وفي (خيبر) حصلت المعجزة التي لم يُطِق استيعابها البعض ممن اهتزت عقيدتهم فأخرجتهم عن جادة الصواب. بدأت عندها ولادة الفريق (الغال) ورحم الله العمري القائل:
يا قالع الباب التي عن هزه عجزت أكـفٌ أربعون وأربع
وتضفي السماء كرامة جديدة على علي(عليه السلام). لتضيف لسفره الخالد كذلك صورة لا تنسى. وعلني أشارك أولئك الذي فاضت مشاعرهم من أهل الإيمان بحب علي(عليه السلام)… لا قول بعد أن أرانا(عليه السلام) في كل منازلة ملحمة جديدة لها مذاق خاص ومتعة فريدة:
في كل نازلـة يزف لنا هـول الزلازل فيحـار عقل القائلين لأيهـم كبرى المنازل
أخــوان (إنّ) كأنهـــن لنفــس قــائـل والفاعل المقدام من لا تزدريه فعال فاعل
فعقيـدة التـوحيد غايته ورضـا خلـيل وبنــاء حــق ضــاع يحكــم فيـــه عـــادل
سلام عليك يا أمير المؤمنين حيث أجدت… وحمداً لك يا رب على ما هديت…
علي(عليه السلام)… والحق
كُثرٌ هم أهل الحق ورجاله… لكن الحق الذي بين يدي علي(عليه السلام) يبدو من طراز فريد يُعرفنا به رسول الله(صلى الله عليه وآله) (علي مع الحق… والحق مع علي… لن يفترقا حتى يردا على الحوض). وتبدو العلة هنا. في… لن يفترقا… تلك إيماءة واضحة كي لا نظن أن علياً قد جانب الحق مرة وفي أي أمر. فهل من مزيد نحتاج إليه بعد هذا؟
بلّغ بها النبي(صلى الله عليه وآله) وأشهد الله على ذلك.
علي(عليه السلام) والحق متلازمان وهما بنص الحديث دائمان حتى يردا الحوض. ورب همسة نحتاجها: (هل سنحتاج إلى الحق أكثر مما نحتاج إليه في حكم الأمة…؟!).
علي(عليه السلام)… والقتال
موضوعة لطالما أثارت فضول المفكرين والباحثين عبر التاريخ. والحق أن تلك علاقة لم نجد لها مثيلاً عند سواه. رواية وردتنا ستفكك اللغز المحير. بعد نزول الآية الكريمة: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين(3).
قال علي(عليه السلام) من بين الحاضرين (والله لن ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت…). هذا قول يقال عنه الكثير إذ يحمل بين طياته أمراً كثيرة. القَسَم فيه واضح الدلالة بما يعكس الإصرار والثبات على المنهج والمبدأ.
أما ( لن ننقلب…) فربما يكون(عليه السلام) قد تحدث عن الجماعة التي يعرف ثباتها جيداً فهو لن يكون الوحيد الذي لن ينقلب أو ربما قصد(عليه السلام) أنه ينبغي الا ننقلب إن كنا مهتدين. أما عن القتال فنراه(عليه السلام) يتحدث عن نفسه فقط (لأقاتلن…) في إشارة ربما توحي لنا بأن قرار القتال ومسؤوليته ستكون مرهونة بالمقاتل وتقع ضمن إرادته إذ لا يمكن في العقيدة الإسلامية الحقة أن تملى عليه دون رضى من نفسه.
ولا أميل كثيراً إلى أن المقصود هو قتاله(عليه السلام) على تأويله كما قاتل النبي(صلى الله عليه وآله) على تنزيله. والثبات على حمده بمن اختياره، لكنه لن يكون كافياً عند الله من المؤمنين حيث اشترى منهم أنفسهم بالجنة… الجزاء الوافر. الثبات درجة في الإيمان لكن القتال عندما يتعرض الحق لخطر الزوال سيكون أعلى درجاته. وعلى هذا يقول عز وجل: (وسيجزي الله الشاكرين).
وفي معرض هذا الحديث يتحدث خالد محمد خالد فيقول: (وأي كلمة تعبر عن طبيعة المقاتل سوى (سأقاتل!) وهي كلم مشرِّفة في نظر البعض لقائلها باعتبارها جزءً من طبيعة المقاتل في إنسان أي أنها الإصرار على إنفاذ العقيدة وهذا الطبع جزء من ذات البطل).
والحق ـ كما أرى ـ إن علياً(عليه السلام) عندما يتمتع بذاتية البطل العقائدي الثابت بذاته أو كينونته الربانية فيكون الفعل ـ أي فصل ـ ليس تشريفاً له إنما هو تعبير عن شرف تلك الذات تظهر للوجود من خلال الحركة (القتال هنا) تماماً كالعطر الأصيل الذي يفوح ليعبر عن شرف تلك الذات الكامنة فيه والظاهرة ـ بعد إزالة المانع من إظهارها ـ من أصل طبيعة أو صيرورة العطر. على العكس من تلك الذات المعطَّرة (المشرَّفة بالعطر) حيث العطر ليس جزءاً من كينونتها إنما أضفت عليه جديداً طارئاً شرفته به. فرائحة العطر بجوهرها إذن هي اثر الذات التي نشأت منها.
ونخلص من هذا إلى القول أن القتال لم يكن غريزة الإمام الموسومة بالهوى… المطالِبة بالإشباع ـ حاشاه(عليه السلام) ـ إنما هي أداته العقلية وأسلوبه (اختياره) العقائدي الذي قد يلجأ إليه مضطراً كخيار لابد منه. وهو سر الربط الدقيق بين نوع القتال ونوع التحدي الذي يواجه الإمام ويستدعي منه(عليه السلام) الوزن بالميزان الحق الذي لا يقبل الخلل عنده مطلقاً فهو الإمام المعهود إليه بـ(العهد) نصاً.
ولعل في هذا إجابة كافية لمن يسأل عن سبب عدم انتصار الإمام في صفين!! حيث لا يمكن للإمام ـ كما كان لغيره ممكناً ـ مواجهة الوقائع إلا بما تسمح به مبادئ العدل الذي جُبِل عليه(عليه السلام)… فلا خداع ولا تضليل ولا إكراه على قتال ولا خروج عن رأي الجماعة حتى لو آلت التداعيات التالية إلى حقيقة (الآمِرِ الذي لا يطاع…) بنص قوله(عليه السلام).
هذه فعلاً صورة فريدة أخرى عن طبيعة الإمام ومسيرة حياته. وكانت إلى جانب ما يماثلها فيه قد خصّته دون غيره وامتُحن بها دون سواه من الآخرين.
علي(عليه السلام)… وإدارة الحرب والدولة
هذا موضوع يتداخل مع ما قبله لكنه جدير بالفرز. فللإمام أسلوبه الخاص كما بينا… وخصوصية رؤى الغمام دائماً تنبع من مبادئه، ومبادؤه تنطلق من فهمه لكُنْه الرسالة المحمدية وثوابت الحق الإلهي المطلوب الذي كثر ما يرى في النتائج بعين لا يراها العامة من القادة مهما بلغت كفاءاتهم.
كانت حوارات الكتب والرسائل تسبق كل فعل عسكري وفكر الحوار ساد في ساحة الواجهة سواء في ميدان المعارك أو ما قبلها وحتى أثناءها وما بعدها دائماً. ذلك لسان الإيمان وهو بالضد من لسان الكفر لسان الغدر والنكاية والانتقام بأي داع كان. لسان لطالما كان خطراً قبل أن يتقلد أصحابه مناصب الحكم فناهيك عندما صاروا هم أولي الأمر لا ينافسهم أحد إلا قتلوه.
وفي أمور الدولة وقواعد الحكم كان عقلاً متميزاً ففي وقت يحفظ فيه ثوابت الإسلام المطلوبة فإنه يوجه ويربي ويبني قواعد متطورة في مسار الدولة المطلوب بناؤها مع الزمن. إن وثيقة الحكم للأشتر كانت إعلاناً ناطقاً عبر كل العصور شهد به السابقون والمعاصرون حتى غدت وثيقة خالدة ينهل منها الفكر الإنساني في كل زمان ومكان. فكر سنحتاجه ونحن نستنبط النموذج الأمثل لبناء دولتنا الحديثة.
استطراد سريع
باقتضاب ودون تفصيل نحاول أن نتطرق لمزايا أمير المؤمنين(عليه السلام) التي لا تستوعبها كل الصفحات وباسترسال لا تجمعه إلا صيغة عنوان مشروعنا (علي والمزايا الفريدة…):
1ـ حاجج(عليه السلام) الزبير فأرضاه وطلحة فأقنعه لولا الغدر بهما وعامل أم المؤمنين بما تقرّ به إلا بعد حين وقد طالها الندم فمنع جيشه من سبي نساء أهل الجمل عندما قال بعد إصرارهم تعال أقترع لكم على عائشة فمن منكم يرغب أن تكون (أمه) حصته حتى بهتوا فولوا الأدبار.
2ـ كان(عليه السلام) سعيداً بإيمانه عالماً باختياره (داهية) في تقدير عمره الذي امتد عبر القرون.
3ـ وكان الوحيد الذي زحزح عن حقه في الخلافة ثم إلزامه بها بعد حين إذ كان وارث علم النبوة والوصي والخليفة بنص.
4ـ كانت عنده (ألا تزر وازرة وزر أخرى) ولا مجال لغاية تبرر الوسيلة كما كانت عند سواه.
5ـ وكانت حقوق المسلمين وأموالهم مصانة وهو صاحب الشمعة التي اكتوت بها أصابع أخيه (عقيل).
6ـ كان يحرم على جيشه شرب ماء قوم لا يبيحونه لهم وإن عطشوا.
7ـ العقود والعهود كانت عنده محترمة لم يخرق يوماً ميثاقاً ولم يخن عهداً قطعه.
8ـ كان علي هو المبدأ بذاته لم يساوم أو يهاون أحداً دونه مهما كان الثمن المدفوع منه(عليه السلام).
9ـ سمو وتألق في كل المواقف وكانت شريعة الماء في صفين خير شاهد على ذلك.
10ـ خلق وعفة معدن شجاعته(عليه السلام) وما ترفعه عن مواجهة أولئك الجبناء الذين أخزوا العرب والتاريخ بفعلهم الدنيء في صفين غير مرة حتى أثارت مشاعر الحارث السهمي إذ قال:
أني كل يوم فــــــــــارسٌ تندبونه لـه عـورة وسـط العجـاجـة باديــة
يكف لــــه عنه علـــيٌ سنــــــانه ويضـحك منها في الخــلاء معاوية
بدت أمـــس من عمرو فقـــنّع رأ سه وعورة بسرٍ مثلها حُذْوَ حــاثية
11ـ ورغم الوعد والعهد له بالإمامة ورغم علم أصحابه وفهمهم لحقه عليهم لكنه(عليه السلام) لم يأخذ عهداً من أحد لولده الحسن(عليه السلام)… ترك الناس يبايعونه بمحض إرادتهم.
12ـ كان أصحاب علي مرآة صاحبهم كما يكون الآخرون عادة ومجرد استعراض بعض أسمائهم سيدلك المشهد على أبطال العقيدة والخلق الرفيع… كان سلمان وأبو ذر والمقداد وحذيفة وخزيمة وعمار ومالك وميثم وسعيد ورُشيد وأبو أيوب وجابر وقيس ومحمد بن أبي بكر وآخرون هم أصحاب إمامنا… فوالله لو كان(عليه السلام) الأمير وهؤلاء الوزراء لتخيلنا أية مدينة فاضلة سنؤسس!!. ودعني أصفح عن ذكر شخوص المعسكر الآخر كي أحافظ على متعة الجمل والصور.
تلك شذرات يسيرة على طريق الهدى الذي رسمه لنا أمير المؤمنين(عليه السلام) ذلك الرجل الذي أبت السماء إلا رفعه فوق كل إقرانه لتلحقه بأولئك الذي اختارهم الله واختار لهم المنازل العليا من الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين. وأبت كذلك العقول إلا أن تحجز له مكاناً في وجدان أصحابها من كل الألوان والأديان. فكان بحق خير وصي لخير نبي. وحسبنا أن تكون الوصاية مختومة بعلي(عليه السلام) بعد إذ ختمت النبوة بمحمد(صلى الله عليه وآله) نبي الرحمة والهدى.
إننا لندعو… تعالى أن يزيننا بصورة الإيمان الحقة وبعمق البصيرة وجلاء البصر لنبلغ بذلك الصراط. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه الغر الميامين ومن والاهم إلى يوم الدين.
نشرت في العدد 8
——————————————————–