نحو علم نفس اسلامي
يعتبر المجال الموضوعي، احد أهم خصائص العلوم، ومنذ انفصال العلوم، عن الفلسفة، أصبح للعلم مجالاته الخاصة وبالتالي: افتقدت «الفلسفة» أبناءها الشرعيين، لتتحول فيما بعد، من «أم العلوم» الى مجال، يختص بالمجردات، والمطلقات و.. و..
واذا كان موضوع علم الاجتماع هو الظاهرة الاجتماعية، ومجال الاقتصاد هو الثروة وعلاقات الانتاج و.. فان لعلم النفس، مجالا موضوعيا، هو «الظاهرة النفسية» وقد كان في البداية موضوع النفس الإنسانية، موضوعا غامضا لكن ذلك لا يعني ان «النفس الانسانية» كانت مجهولة لدى الناس، فالديانات كانت دائما مصدرا اساسيا لتقييم وتقويم نفوس البشر، وكان الاغلبية يعتمدون في معرفة نفسية الاخرين عن طريق «الاستبطان» وهو نوع من المراقبة، يمارسها الانسان على نفسه ومن ثم يستخلص حقائق حول نفسه، ثم اسقاطها بالتالي وتعميمها على الناس. كل هذا يعني ان النفس الانسانية، لم تكن مجهولة تماما فيما مضى. ولكن تبلور هذه المعرفة على شكل تكوين معرفي، ومدرسة متكاملة الأبعاد، هذا لم يحدث الا في القرن التاسع عشر الميلادي.
وتعتبر الظاهرة النفسية من اعقد الظواهر التي اهتمت بها العلوم الإنسانية، ذلك لان مجالها يتميز بالعمق والتجدد، والعلاقة التي تربطه بعلوم أخرى، كعلم الاجتماع. لا بل الانتروبولوجيا والاقتصاد والقانون أيضا. والعلوم كلها، تعاني مشكلة التجدد الذي يطرأ على الظواهر مما يفتح آفاقا أوسع امام مسيرة العلوم، وكلما تقدمت العلوم خطوة، واجهتها عواصف من الإشكاليات، وظهور «علم النفس» كنسق معرفي، يتبنى الإجابة على كل المشاكل التي تتعلق بالنفس الإنسانية، ادخله في مشكلات من نوع آخر، هي مشكلة الاختلاف ـ والتناقض أحيانا. في وجهات النظر بين المفكرين. وبالتالي بعض المدارس والاتجاهات.
و«التحليل النفسي» يعتبر اهم تلك الاتجاهات حيث كان اول من أتى بنظرية «اللاشعور» المنطقة الأساسية والجوهرية في الإنسان، ويعتمد أسلوب التحليل، في شكله الذري للنفس الإنسانية، ويراقب المظاهر السطحية والرمزية «فلتان لسان، أحلام.. ألخ». ليمسك من خلالها بحقيقة النفس، التي ليست سوى ما يروج داخل منطقة «الهوى النفسية» حسب هذه المدرسة.
جون واطسون «1913»، يؤسس علما جديدا في حقل الدراسات النفسية، هو «علم السلوك» الذي كان بديلا عن «علم الشعور» وكانت كلمته التي ألقاها بمناسبة افتتاحية الجمعية الأمريكية للدراسات النفسية هي المنطلق الأول لهذا الاتجاه.
هذا الاتجاه، يعتبر السلوك هو المجال الأفضل، والحقيقي للدراسة النفسية، فهي تنطلق من الخارج، لتصل الى الداخل، وقد ارتكزت نظريته كثيرا على نظرية العالم الروسي «بافلوف» رد الفعل الشرطي.
ماكدوجل «1905» كان ملهما سابقا بهذا الاتجاه، قال في كتاب «علم النفس الفيزيولوجي» «ان أفضل وأشمل تعريف لعلم النفس، هو علم تصرفات الكائنات الحية».
كان هناك اتجاه آخر، بدأ يتكون في ألمانيا بزعامة «فريتهير»، «كوفكا»، «كهلر»، ذلك هو الاتجاه الجشطالتي «جشطال» Gestslt بالألمانية يعني «الشكل» «البنية».. وهي كلمة استخدمها في بداية الأمر «اهرنغلز» «1859ـ1932»، بخصوص البنية «الموسيقية»، ومفاد هذه النظرية، ان «النغمة الموسيقية» تتكون من اجزاء، ولكنها ليست مجموع الأجزاء. وفي حقل الدراسة النفسية، تكون المدرسة «جشطالتية»، نقيضا للاتجاه الذري، الذي يحلل الشخصية الى جزئيات فهو يتناول النفس الإنسانية ككل لا يتجزأ.
كل هذا ـ طبعا ـ تبخر، مع ظهور الاتجاه الماركسي. ففي هذا الاتجاه تكون «النفس» مضغوطة في علبة «الحتمية» التاريخية، تكون انعكاسا، لنمط الانتاج، للصراع الطبقي، للشروط التاريخية لطبيعة المجتمع ـ التاريخي ـ وفي النهاية تكون دراسة المجتمع والتاريخ والاقتصاد و.. ضرورة لمعرفة النفس، او بتعبير آخر. تكون دراسة البنية التحتية للمجتمع، أفضل طريقة لمعرفة النفس الإنسانية.
في زحمة هذه التناقضات، والى جانب هذه السجلات.. يضاف مشكل «منهجي» هو عملية «الترحيل» الميكانيكي، لمعطيات الدراسات النفسية «الغربية»، الى العوالم الاخرى، فالانسان الغربي الذي عاصر «رحلة» التحولات والقفزات الكبرى في أوروبا إبان القرون: من الخامس عشر الى التاسع عشر الميلادي، كان هو «نموذج» ومحور الدراسات النفسية في الغرب، الإنسان الغربي، بما يتميز به من خصائص هو إنسان هارب من قبضة الاقطاع، قلق من الدين، يتملكه جشع الى المادة، يستقطبه تطلع نحو الحرية اي حرية وكل حرية.. هذا الإنسان في هكذا أوضاع، هو القالب النموذجي، الذي يشكل الحقل الأساسي للدراسات النفسية في الغرب، وتلك المعطيات وتلك النتائج كانت هي النموذج الكوني، ـ الأساس ـ للطب والعلوم النفسية العالمية.
من هنا كانت الحاجة الى بلورة جديدة، لعلم نفس جديد لا يرفض سيكولوجيا ـ الغرب لانها غربية، ولكن يرفض اسقاط معطياتها بكل حذافيرها على الانسان في بلادنا الإسلامية. يجب البحث عن مكونات أخرى للنفس الإنسانية في بلادنا، المجتمع، البيئة، التاريخ.. المنطلق، الأهداف التطلعات.. الهموم المؤثرات المعاناة.. كل هذا يختلف ويميز الإنسان في بلادنا. فالدين عامل رئيس ومحوري في بلادنا الإسلامية لذلك يجب اذن ان يكون ارضية لهذا «الجهاد» جهاد العلم والمعرفة.. ارضية يقوم عليها انتاج نسق معرفي متميز، حول النفس: والإسلام كدين كوحي، له نظرية حول النفس الإنسانية، كما له نظرية في باقي المجالات، وهنا تكمن الحاجة الى بلورة «علم نفس إسلامي» يتولى دراسة النفس الإنسانية عموما، والنفس الإنسانية في ارض الإسلام. على وجه الخصوص، ويتبنى أدوات العلم الموضوعية1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله)، نقلا عن صحيفة اليوم 19 / 3 / 2003م – 1:00م.