ان ارتباط الأئمة الأطهار بعالم الغيب لا يعني انّهم يحيطون ذاتيا بهذا العالم اللامتناهي من المغيبات انّهم و في کلّ الأحوال يستمدون علمهم من الذات الأحدية، و المحدود کما يقال لا يحيط بالمطلق، و مادام الامام محتاجا ً في وجودة فهو في علمه محتاج.
وميزتهم الوحيدة في هذا المضمار انّهم يستطيعون الاستفادة من طاقة باطنية فتنفتح لهم نافذة علی عالم الغيب، و کل هذا فيض من عالم الغيب و الشهادة الله رب العالمين. فقد يحدّث ان يقذف في قلوبهم أو ينقر في أسماعهم أو هو علم ورثوه عن جدّهم رسول الله (صلی الله عليه و آله و سلم) وهذه أحاديث تؤيد ذلک:
عن عمار الساباطي قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الامام يعلم الغيب؟ فقال: لا ولکن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلک1.
عن آبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ان الامام اذا شاء أن يعلم أعلم2.
وعن المدائنيي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا أراد الامام أن يعلم شيئا ً أعلمه الله ذلک3.
وعن معمربن خلاد قال: سأل رجل من أهل فارس أباالحسن (عليه السلام) فقال: أتعلمون الغيب؟فقال: قال أبوجعفر (عليه السلام): يبسط لنا العلم فنعلم و يقبض عنّا فلا نعلم، قال: سرالله عزوجل اسره الي جبرئيل و أسره جبرئيل الي محمّد (صلی الله عليه و آله وسلم) الي من شاء الله4.
وسأل أحدهم أميرالمؤمنين (عليه السلام): لقد أعطيت ياأميرالمؤمنين علم الغيب؟ فضحک و قال للرجل و کان کلبياً: يا أخا کلب ليس هو بعلم غيب و انّما تعلم من ذي علم و اما الغيب علم الساعة و ما عدّد الله بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ … ﴾ 5 فيعلم سبحانه مافي الأرحام من ذکر و انثي و قبيح أو جميل و سخي أوبخيل و شقي أو سعيد، و من يکون في النارحطبا ً أو في الجنان للنبيين مرافقا ً فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله و ماسوي ذلک فعلم علّمه الله نبيه فعلّمنيه و دعالي بأن يعيه صدري و تضطم عليه جوانحي6.
و عن سدير الصيرفي قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ … ﴾ 7 قال أبوجعفر(عليه السلام) ان الله عزوجل ابتدع الأشياء کلها بعلمه علی غيرمثال کان قبله، فابتدع السماوات والأرضين و لم يکن قبلهن سماوات و لاأرضون. أماتسمع لقوله تعالي: ﴿ … وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ … ﴾ 8 فقال له حمران: أرأيت قوله جل ذکره ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾ 9 فقال أبوجعفر (عليه السلام): ﴿ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ … ﴾ 10 وکان و الله محمّد (صلی الله عليه و آله وسلم) ممن ارتضاه، و اما قوله عالم الغيب فإن الله عزوجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدّر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلفه و قبل أن يفضيه إلي الملائکة فذلک يا حمران علم موقوف عندالله فيه المشيئة إذا أراد و يبدوله فيه فلا يمضيه. فاما العلم الذي يقدّره الله فيقضيه و يمضيه فهو العلم الذي انتهي الي رسول الله ثم الينا11.
وهناک طائفة اخري من الأحاديث التي تؤکدان الأئمة لايعلمون الغيب بالذات مستقلين ولکن نوافذ تنفتح عليهم بفيض إلهي.
الأئمة ينفون علمهم بالغيب
وتأتي هذه الأحاديث کقرائن علی ان ما يخبرون به انما هو مغيبات کشفت لهم لا أنّهم يعلمون الغيب بشکل مطلق و هذه أمثلة:
عن ابن المغيرة قال: کنت عند آبي الحسن (عليه السلام) أنا ويحيي بن عبدالله بن الحسين فقال يحيي: جعلّة فداک انّهم يزعمون انّک تعليم الغيب، فقال: سبحان الله ضع يدک علی رأسي فوالله ما بقيت في جسدي شعرة و لا في رأسي إلّا قامت، ثم قال لا والله ما هي إلّا رواية عن رسول الله12.
عن أبي بصيرقال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) انهم يقولون؛قال:
وما يقولون؟ قلت: يقولون: يعلم قطرالمطر و عدد النجوم و ورق الشجر و وزن ما في البحر و عدد التراب فرفع يديه الي السماء وقال: سبحان الله سبحان الله لا و الله ما يعلم هذا إلّا الله13.
عن عنبسة بن مصعب قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام): أي شيء سمعت من أبي الخطاب؟ قال: سمعته يقول: انک وضعت يدک علی صدره و قلت له: عه و لاتنس ! وانک تعلم الغيب و انّک قلت له عيبة علمنا وموضع سرّنا أمين علی أحيائنا و أمواتنا.
قال: لا والله مامسّ شيء من جسدي إلّا يده، و اما قوله: اني قلت: أعلم الغيب فوالله الذي لاإله إلا هو ما أعلم فلا آجرني الله في أمواتي و لا بارک لي في أحيائي إن کنت قلت له14.
عن سديرقال: کنت أنا و أبوبصير و يحيي البزاز و داودبن کثير في مجلس أبي عبدالله (عليه السلام) إذا خرج الينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال: يا عجبا ً لأقوام يزعمون انّا نعلم الغيب، مايعلم الغيب إلاالله عزوجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني فما عملت في أي بيوت الدار هي. قال سدير: فلما ان قام من مجلسه و صارفي منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له: جعلنا فداک سمعناک و أنت تقول کذا وکذا في أمر جاريتک و نحن نعلم انّک تعلم علما ً کثيراً و لاننسبک الي علم الغيب، قال: فقال: ياسدير: ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلي، قال: فهل وجدت فيما قرآت من کتاب الله عزوجل: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ … ﴾ 15 قال: قلت:
جعلّة فداک قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما کان عنده من علم الکتاب؟ قال: قلت: أخبرني به؟ قال: قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يکون ذلک علم الکتاب؟! قال: قلت جعلّة فداک ما أقلّ هذا فقال: ياسدير: ما أکثر هذا، ان ينسته الله عزوجل الي العلم الذي أخبرک به يا سدير، فهل و جدت فيها قرأت من کتاب الله عزوجل ﴿ … قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ 16 قال: قلت: قد قرأته جعلّة فداک قال: أفمن عنده علم الکتاب کله ألهم أم من عنده علم الکتاب بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الکتاب کله، قال: فأومأ بيده الي صدره، و قال: علم الکتاب و الله کلّه عندنا، علم الکتاب والله کلّه عندنا1.
ومن مجموع هذه الأحاديث يتأکّد لنا ان الأئمة لا يعلمون الغيب مطلقاً و هم في کل الأحوال انعکاس للفيض الإلهي إذا شاء واعلموا، و في کلّ الأحوال فإن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ربما کانوا يخبرون عن ضمائر الناس، أو يخبرون عن حوادث قبل وقوعها ولا يعد ذلک علما ً بالغيب بل هو لطف من الله عزوجل کما لا يعدّ شرطا ً من شروط الإمامة والإمام.
لأن العلم بالغيب يتطلب اطلاعا ً کاملا و مطلقا ً علی عالم الغيب دون الحاجة الي أحدوهذا ماتبرأ منه الأئمة (عليهم السلام).
إشکال
لقد کان سيّدنا محمّد (صلی الله عليه و آله و سلم) والأئمة من بعده يعيشون حياة طبيعية وعادية کسائر الناس في اسلوب معيشتهم و معاشرتهم مع غيرهم ويتعاملون مع ما حولهم بناء علی الظواهر، و يستشيرون أهل الخبرة في بعض شؤونهم الاجتماعية و براجعون الاطباء وقت المرض، و لهذا نجد عند مطالعتنا سيرتهم انهم يعيشون حياة عادية مثل سائر الناس و لس هناک بعد غيبي خارق للعادة يتدخل في شؤونهم الاجتماعية. وهذا تاريخ الإسلام شاهد علی ما ألم بهم من کوارث و مصائب. فهناک معرکة أحد وقد جرح النبي بشدّة، و اغتيل الامام علی في المحراب، و مذبحة کربلاء حيث لقي الحسين وأهل بيته مصارعهم. ناهيک عن التصفيات التي تعرض لها الأئمة عن طريق دس السمّ التي شملت أغلبهم (سلام الله عليهم)، أليس في هذا ما يتنافي مع عليهم الغيب. فلو کانوا يعلمون الغيب حقا ً فکيف يلقون بأنفسهم في التهلکة.
الجواب
ان أحدلم يدع أبدا ً ان سيّدنا محمّدا و الأئمة من أهل بيته لم يکونوا بشرا ً عاديين، فهم من الجانب التکويني بشر کسائر الناس يتصلون بالعالم من حولهم بذات الحواس الخمس التي يتمتع بها غيرهم، و ما داموا يعيشون حياتهم بشکل عادي فما هوالداعي لأن يستفيدوا من عالم الغيب. غيران الحياة بما تزخربه من أشياء متناقضة حيث الحرام يتربّص بالإنسان في کل خطوة، و قد برتکب المرء فعلا ً قبيحا ً عن جهل، و أمر کهذا سيوجّه ضربة لمقام الامامة مهما کانت الظروف، و من هنا يأتي التسديد الإلهي ليعصم الامام من الوقوع في الخطاء.
وهناک من المواقف ما يستدعي لاثبات إمامة الإمام لمن يشک فيه کما نري ذلک في حياة الأنبياء (عليهم السلام).
ثم ان علم الغيب و الأطّلاع علی بعض المغيبات لن يغير من سير الحوادث.
انه مجرد نافذة علی جزء من عالم لامنتاهي، و تبقي إرادة الإنسان هي الفاعلّة في صنع الحوادث، کما ان الإخبار بالمعيبات لا ينطوي علی أي جانب تشريعي سواء في الأمر والنهي.
نعم ربما يطلع الامام علی محاولة لاغتياله بالسم عم طريق دسّه في الطعام فيمتنع مثلاً ًعن تناوله ليأخذ موقفه هذا شکل الاعجاز الخارق للعادة ويکون بالتالي دالة علی مصداقية الامام لا أکثر.
الامام و سائر العلوم
لقد بحثنا فيما مضي ان الامام يجب أن يکون عالما ً بأمورالدين و بکلّ ما يلزم من شؤون القيادة و الريادة و زعامة الاُمّة، و نبحث هنا مدي اطّلاع الامام علی سائرالعلوم الاخري، و هل من الضرورة أن يکون الامام القمة فيها؟
يقول فريق ان الامام ينبغي أن يکون عالما ً بکلّ شيء سواء في الطب أو علم الأحياء والجيولوجيا والهندسة و الرياضيات و الفلک و الفيزياء والکيمياء وسائرحقول العلم الاخري بل و أن يکون متقنا ً لسائراللغات. فيما يقول فريق آخر انّه ليس من الضروري أن يکون الامام کذلک.
ان من الثابت فقط هو ان الأئمة خزّان علم الله و حملة علوم الرسالة و هو أمرضروري في استمرار الدين و مسؤولية إقامة حکم الله، فکل ما يتصل بإرشاد الناس و هدايتهم الي جادّة الحق متوفر لدي الامام و إلّا انتقت طاعته و بالتالي انتقاء الحجّة الله علی الناس؛ وما عدا هذا فلم يثبت؛ إذ ليس من الضروري أن يکون الامام طبيبا ً أومهندسا ً أورياضياً ًأو غير ذلک.
نعم لوتوقف اثبات إمامة الامام علی أحدها أوجميعها فستفتح علی قلبه نافذة من الغيب ما يجعل الناس يسلّمون بإمامته و مصداعقيته.
ومن هنا نجدفي التاريخ أخباراً عن الأئمة حول صفات بعض النباتات و ظواهر في السماء، لأن الامام في کل الأحوال علی ارتباط بعالم الغيب و هو انعکاس للفيض الإلهي، و في مقابل هذا نجد الأئمة يراجعون الأطباء في بعض الأحيان، کما نري ذلک جليا ً في حادثة اغتيال الامام علي (ع) حيث أشارالطيب علی الامام بعد اجراء الفحوصات بأن يوصي لأن الضربة بلغت مقتلا ً1718.
- 1. اصول الکافي: ج1ص257.
- 2. المصدر السابق: ص258.
- 3. المصدر السابق.
- 4. المصدر السابق: ص256.
- 5. القران الكريم: سورة لقمان (31)، الآية: 34، الصفحة: 414.
- 6. نهج البلاغة، الخطبة124.
- 7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 117، الصفحة: 18.
- 8. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 7، الصفحة: 222.
- 9. القران الكريم: سورة الجن (72)، الآية: 26، الصفحة: 573.
- 10. القران الكريم: سورة الجن (72)، الآية: 27، الصفحة: 573.
- 11. اصول الکافي: ج1ص256.
- 12. بحار الأنوار: ج25ص293.
- 13. المصدر السابق: ص94.
- 14. المصدر السابق: ص321.
- 15. القران الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 40، الصفحة: 380.
- 16. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 43، الصفحة: 255.
- 17. هناک من الحوادث مايؤيد ان حياة النبي و الأئمة تسير في ضوء المعطيات الظاهرية فتأتي مواقفهم بناء علی بعض المحاسبات العامة، و من يتأمل في الحوادث التاريخية يجد أدّلة قاطعة علی ذلک إلي جانب حشد من الأحاديث أيضا ً؛ منذحادثة الافک مرورا ً ببعض الحروب الهامة الي عزل و نصب بعض القادة و لعل ما نجم عن اسناد قيادة جيش الامام الحسن الي عبيد الله بن العباس الذي تسلل مع ثمانية لآف من الجنود ليلا ً الي معسکر معاوية ! مايؤيد ذلک بقوة. وخلاصة القول ان النبي (صلی الله عليه و آله و سلم) والأئمة عليهم السلام يعيشون حياتهم بشکل طبيعي و لکنهم يتصلون بالغيب وقت الضرورات القصوي، و ان علمهم بالغيب ليس ذاتيا و لا مستقلّاً و لا مطلقا ً بل هو فيض إلهي من الله رب العالمين.
- 18. المقالة في الموقع الرسمي لسماحة آيت الله ابراهيم الأميني.