نص الشبهة:
روى عالم الشيعة الحر العاملي، عن أبي جعفر في تفسير قوله تعالى: ﴿ … وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ … ﴾ قال: «من كانت عنده امرأة كافرة يعني على غير ملة الإسلام، وهو على ملة الإسلام، فليعرض عليها الإسلام، فإن قبلت فهي امرأته، وإلا فهي بريئة منه، فنهى الله أن يستمسك بعصمتها» (وسائل الشيعة ج 20 ص 542) . فأم المؤمنين عائشة «رضي الله عنها» لو كانت كما يقول الشيعة كافرة مرتدة ـ والعياذ بالله ـ لكان الواجب تطليقها بكتاب الله. إلا إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يعلم نفاقها ورِدّتها، وعلم الشيعة ذلك!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
أولاً: إن الشيعة لم يحكموا على عائشة بالكفر، ولا يرضون بنسبة الكفر إلى أحد من صحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله».. إلا إذا كان قد أعلن ارتداده كطليحة بن خويلد، ونظرائه.. فلا معنى لهذا السؤال من الأساس..
ثانياً: سيأتي في الإجابة على السؤال رقم 139: أن ما ورد من تعابير قرآنية ونبوية حول الإرتداد على الأعقاب يراد به عدم الاستمرار على خط الطاعة، والتخلف عن تنفيذ الأوامر، والرجوع إلى عادة الاهمال، وعدم تحمل المسؤوليات، والامتناع عن القيام بالأعمال المنوطة بهم.. فهو كالكفر في قوله تعالى: ﴿ … وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ 1.
فإن المراد بالكفر هنا ليس الخروج من الدين، بل المراد به مجرد عدم القيام بالواجب، لأنه يشبه الكافر في هذه الجهة فقط..
ثالثاً: قد يقوم الإنسان ببعض الأعمال التي لها لوازم غير مرضية دون أن يلتفت إلى لوازمها تلك. فإذا نبهه أحد إلى ذلك، استغفر الله وتراجع.
فمثلاً نجد أن عبيدة بن الحارث الذي استشهد في حرب بدر، حين جيئ به إلى النبي «صلى الله عليه وآله» جريحاً مشرفاً على الموت، قال لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: أما لو كان عمك لعلم أني أولى بما قال منه.
قال: وأي أعمامي تعني؟!
قال أبو طالب حيث يقول:
كـذبتم وبيت الله نبزي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونـسلمه حتى نصرع دونه *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله؟! وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة؟!
فقال: يا رسول الله أسخطت علي في هذه الحالة؟.
فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك 2.
كما أن من يدعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، قد لا يلتفت إلى أن ذلك يؤدي به إلى التكذيب بيوم الدين. فإذا نبهه أحد إلى ذلك ارتدع وتراجع.
كما أن لبعض الإعتقادات التي يصر عليها بعض الناس لوزام سلبية لو التفتوا إليها لتخلوا عنها..
ومن أمثلة ذلك:
ما ذكره الله تعالى في سورة التحريم عن إفشاء بعض النساء سر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وما ظهر منهن من مواقف أوجبت أن يقول الله تعالى لنبيه: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ 3.
فدلّنا بذلك: على أن في سائر النساء من هن أفضل من تينك المرأتين.
وبيَّن لهما: أن الأمور قد تنتهي بهما إلى هذه الأحوال الصعبة، التي ربما لم تكن تخطر لهما على بال..
وفي مثال قرآني آخر، نلاحظ: أن من يترك الحج وهو مستطيع قد لا يلتفت إلى أن الأمر قد يؤدي به إلى أن يصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ … وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ 1.
وبعدما تقدم نقول:
إذا قال الشيعة وأهل السنة: إن آيات سورة التحريم قد نزلت في عائشة وحفصة، فلا يعني ذلك: أن يكونوا قد حكموا بكفرهما، لأن مفاد آيات سورة التحريم: أنهما قد آذتا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومن يؤذي رسول الله «صلى الله عليه وآله» فحكمه كذا، وتنطبق عليه آية كذا.. لأن الكفر مشروط بأن تكونا ملتفتتين إلى لوازم فعلهما، ولا شيء يدلُّ على أنهما كانتا ملتفتتين إلى لوازم ما صدر عنهما.
إلا ان يقال: إنهما لو لم تكونا ملتفتتين، لم يخاطبهما الله بهذه الشدة والحدة، ونقول:
إن هذا يبقى مجرد استظهار ظني، لأن التشديد في الخطاب قد يكون لمزيد من التحذير من الوقوع في هذا الأمر الخطير والحساس، فلا بد من تتبع سيرة حياتهما، ليمكن الحكم عليهما بأنهما كانتا مصرتين على مواقفهما تجاه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أم أن نزول هذه السورة قد قلب الأمور وأحدث تغييراً جذرياً فيها؟!
وهكذا الحال بالنسبة لقوله تعالى في النهي عن الدخول إلى بيت رسول الله، وإطالة الجلوس عنده: ﴿ … وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ … ﴾ 4. فإن من كان يفعل ذلك قد لا يكون ملتفتاً إلى أن ذلك كان يؤذي النبي «صلى الله عليه وآله»، وأن الله قد لعن من يؤذي النبي في الدنيا والآخرة. وأن له عذاباً أليماً..
ثالثاً: إن المشكلة هي: أن إخواننا من أهل السنة يروون لنا روايات في أصح كتبهم، فإذا طالبناهم بمضامينها، وألزمناهم بما يلزمون به أنفسهم، اتهمونا بأننا نكفِّر هذا، أو نسبُّ ذاك، أو نتجنى على هذا أو ذاك..
فمثلاً يروي لنا أهل السنة: أن من يخرج على إمام زمانه، أو من نكث بيعته فقد كفر، أو مات ميتة جاهلية 5، فحكمه كذا، فإذا قلنا لهم: إن عائشة، وطلحة والزبير، قد خرجوا على إمام زمانهم، ونكثوا بيعته، كما أن معاوية قد بغى على الإمام، فلا بد من حلّ هذا الإشكال.
قالوا لنا: أنتم تكفِّرون الصحابة، أو تكفِّرون زوجات الرسول، أو تسبونهم..
وإذا قلنا لهم: إن الذين قتلهم خالد ـ فيما يزعم أنه حروب الردَّة ـ لم يزيدوا على أن طلبوا أن يوزعوا زكاة أموالهم على فقرائهم، أو لأنهم أرادوا أن يبايعوا علياً «عليه السلام»، وهذا لا يكفي للحكم عليهم بالردَّة والكفر، ثم قتلهم صبراً.
بل يقال: إن خالداً قتل مالك بن نويرة بسبب جمال زوجة مالك، واعتدى عليها في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها..
فكيف نحل هذا الإشكال، وكيف نتعامل مع خالد وبماذا نحكم عليه؟!
والحال، أن صريح القرآن يقول: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ 6.
نعم.. إننا إذا قلنا لهم ذلك..
قالوا لنا أيضاً: أنت تطعن بالصحابة، وتنتقص من قدرهم..
فهل تحل هذه الأجوبة أمثال هذه الإشكالات؟!
وإذا قلنا لهم: إذا كان الطعن في الصحابة حراماً، فماذا تقولون في معاوية الذي سن لعن أمير المؤمنين «عليه السلام» على منابر المسلمين التي تعد بالألوف، واستمر ذلك ألف شهر؟!
قالوا لنا: أنتم تسبون معاوية وتكفرونه وهو صحابي. وأقاموا علينا الدنيا ولم يقعدوها..
رابعاً: روى البخاري في صحيحه عن نافع، عن عبد الله: أنه قال: قام النبي خطيباً، فأشار إلى مسكن عائشة، وقال: «ها هنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع الشيطان» 7.
وروى أحمد عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله»، من بيت عائشة فقال: «رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان» 8.
فهل كفر النبي «صلى الله عليه وآله» زوجته، أو أنه اعتبرها ـ والعياذ بالله ـ شيطاناً؟!
وما هو الموقف من هذا الحديث وذاك، وأمثالهما، هل نكذبهما ونقول: ليس كل ما في البخاري صحيحاً؟! أو نصدقهما ونأخذ بمضمونهما؟! أو نأولها تأويلاً مقبولاً لدى العلماء والعقلاء؟! وما هو هذا التأويل؟! ولو بأن نحكم على عائشة بأنها أخطأت في بعض تصرفاتها، ولم تكن معصومة.
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله.. 9.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 97، الصفحة: 62.
- 2. تفسير القمي ج 1 ص 265 وبحار الأنوار ج 19 ص 255 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 14 ص 80 ونسب قريش لمصعب الزبيري ص 94 والغدير ج 7 ص 316 وتفسير نور الثقلين ج 2 ص 132.
- 3. القران الكريم: سورة التحريم (66)، الآية: 4 و 5، الصفحة: 560.
- 4. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 53، الصفحة: 425.
- 5. راجع: صحيح مسلم ج 6 ص 21 و 22 و ج 4 ص 127 والسنن الكبرى للبيهقي ج 8 ص 156 و 157 و 168 و 169 و ج 10 ص 234 ومسند أحمد ج 2 ص 296 و 488 وسنن النسائي ج 7 ص 123 والمستدرك للحاكم ج 1 ص 117 و ج 2 ص 152 وتيسير الوصول ج 2 ص 47 عن الشيخين. وراجع: مسند الشاميين ج 3 ص 260 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج 1 ص 207 و ج 6 ص 64 و 65 والمصنف للصنعاني ج 11 ص 330 ومجمع الزوائد ج 5 ص 219 وتحفة الأحوذي ج 6 ص 320.
- 6. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 93، الصفحة: 93.
- 7. راجع: صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج 4 ص 46 وراجع ص 92 و 174 وج 5 ص 20 و ج 8 ص 95 وصحيح مسلم ج 8 ص 172 وسنن الترمذي ج 2 ص 257 ومسند أحمد ج 2 ص 1 وعمدة القاري ج 15 ص 30 والعمدة لابن البطريق ص 456 والطرائف لابن طاووس ص 297 والصراط المستقيم ج 3 ص 142 و ج 3 ص 164 وج 3 ص 237 وكتاب الأربعين للشيرازي ص 624 وبحار الأنوار ج 31 ص 639 وج 32 ص 287 وح 57 ص 234 والمراجعات ص 333 وفتح الباري ج 6 ص 147 وقاموس الرجال للتستري ج 12 ص 303 والصراط المستقيم ج 3 ص 237 ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار ص 83 والجمل لابن شدقم ص 47 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص 471.
- 8. مسند أحمد ج 2 ص 23 و 26 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج 8 ص 181 والمصنف لابن أبي شيبة ج 7 ص 552 ودفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي ص 82 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج 11 ص 119 ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار ص 83 وإلزام النواصب لابن راشد ص 200 و 201.
- 9. ميزان الحق.. (شبهات.. وردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، الجزء الثالث، 1431 هـ. ـ 2010 م، السؤال رقم (115).