الفكر العربي في عصر النهضة
أصدر حوراني هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 1962م، وصدر في طبعة أخرى بعد إجراء بعض التصحيحات عليه سنة 1967م، وفي طبعة جديدة سنة 1970م، ثم في طبعة منقحة سنة 1983م، ترجمه إلى العربية كريم عزقول، وراجعه أديب القنطار، وصدر في بيروت عن دار النهار سنة 1972م.
بعض مواد هذا الكتاب هي محاضرات ألقاها حوراني في عدد من الجامعات العربية والبريطانية، منها: الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1956-1957م، وكلية الفنون والعلوم في بغداد سنة 1957م، ومعهد الدروس العالية في تونس سنة 1959م، وجامعة أكسفورد البريطانية سنة 1958-1959م.
يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً، حملت العناوين الآتية: (الدولة الإسلامية، الإمبراطورية العثمانية، الانطباع الأول عن أوروبا، الجيل الأول: الطهطاوي، خير الدين البستاني، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، تلامذة عبده في مصر: الإسلام والمدنية الحديثة، القومية المصرية، رشيد رضا، طلائع العثمانية: شميل وفرح أنطون، القومية العربية، طه حسين خاتمة: الماضي والمستقبل).
والغاية من تأليف هذا الكتاب حسب قول حوراني، ليست تدوين تاريخ عام، أو الحديث عن أفكار عبَّر عنها العرب، أو كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين، وإنما العناية بالفكر السياسي والاجتماعي في سياق معين، ذلك الذي أوجده التطور الأوروبي تأثيراً أو سلطةً في المنطقة العربية، في ظل النظام العالمي الحديث المنبثق من الثورة الصناعية والتقنية، ومع انتشار أفكار جديدة تتناول كيفية حياة الناس في المجتمع.
ومع تعاقب الأزمنة، غدا من الصعوبة -في نظر حوراني- تجاهل تطورات التغيير الحاصل، وعدم التحرك تجاهه بطريقة أو بأخرى، ومن دون أن تكون هناك ردات فعل متعددة، وهذا الكتاب يعالج واحدة من هذه الردات، التي تتحدد في مجابهة التحدي الذي يفرضه من جهة، قبول هذه المجتمعات بعض الأفكار وبعض مؤسسات أوروبا الحديثة، ومن جهة أخرى حاجة هذه المجتمعات للتكيف مع معتقداتها وقيمها التي تمثل أساس مشروعيتها.
ومن المؤكد في نظر حوراني أن هذا الأمر سوف يثير مشاكل من أنواع متعددة، فماذا على هؤلاء الناس أن يقبلوا؟ وإذا قبلوا هذه التحولات هل سيبقون أمناء على ما ورثوه من عقائد وقيم؟ وهل يسعهم أن يبقوا مسلمين أو عرباً؟
هذه المسائل أثيرت حولها مناقشات متواصلة وممتدة ما بين القاهرة وبيروت، وكان الهم الأساس عند حوراني، معرفة ما قيل وما كتب في هذا الشأن، ومحاولة التأريخ له.
وفي نطاق هذه المهمة، حاول حوراني أن يؤرخ لسيرة أربعة أجيال من الكتَّاب، وذلك حسب المراحل التاريخية الآتية:
المرحلة الأولى: تمتد ما بين (1830-1870م)، وفيها ظهر فريق صغير من الكتَّاب توجَّه بوعيه نحو أوروبا الحديثة، ناظراً وملتفتاً إلى الصناعة هناك والاتصالات السريعة والمؤسسات السياسية، كونها تمثل طريقة حياة ينبغي اتِّباعها، وليست نوعاً من التهديد، وبقصد تبني بعض القوانين والمؤسسات لكسب المزيد من القوة، منطلقين من خلفية أن بالإمكان تبني مثل هذه القوانين والمؤسسات من الخارج، والبقاء صادقين مع أنفسهم.
المرحلة الثانية: تمتد ما بين (1870-1900م)، أن المهمة الأساسية لكتَّاب هذا الجيل، كانت إعادة تفسير الإسلام حتى يكون متوافقاً مع الحياة في العالم الحديث، ومن أجل أن يستمد منه القوة، وأبرز من مثَّل هذه المرحلة هو الشيخ محمد عبده.
المرحلة الثالثة: تمتد ما بين (1900-1939م)، وفيها حصل الافتراق والابتعاد بين التيارين الفكريين اللذين حاول محمد عبده وغيره مصالحتهما، وهما التيار الذي يعتقد بشدة بركائز الإسلام في المجتمع، والتيار الذي يرى قبول الإسلام بوصفه مجموعة مبادئ أو على الأقل مجموعة مشاعر، لكنه يعتبر أن الحياة في المجتمع ينبغي أن تكون منظمة على أساس نظم العلمانية، واستصلح هذا الطريق جيل سابق من المسيحيين اللبنانيين، ومشى فيه بعدهم شوطاً أبعد مصريون مسلمون، ووصل إلى نهايته المنطقية في أعمال طه حسين.
المرحلة الرابعة: تبتدئ مع الحرب العالمية الثانية، التي أنهت مرحلة الصعود الأوروبي، وفتحت الطريق أمام الولايات المتحدة وروسيا، ومع انتشار التعليم، ونمو المدن، وتطور الصناعة، واستعمال طرق إعلامية جديدة، كل ذلك أدى إلى تغيير في طريقة الحياة السياسية، وأضحى الحقل السياسي أكثر اتساعاً، وبات الشعب أكثر تقبلاً للأفكار السياسية.
وحينما رجع حوراني ناظراً وفاحصاً كتابه بعد عشرين سنة، وجد أن أي كتاب لا يعبر عن موضوعه فقط، وإنما يعبر عن مرحلة كتابته أيضاً، ولاحظ أن كتابه يعبر عن وجهة نظر معينة له، ولو كان له أن يضع آنذاك كتاباً في الموضوع نفسه، لتكلم عن المفكرين أنفسهم، ومن الممكن عن آخرين أيضاً، وبالطريقة نفسها التي اتَّبعها في الكتاب، مع إضافة بعد آخر في البحث، يتعلق بكيفية وأسباب تأثير أفكار هؤلاء فيه الآخرين.
وفي إدراك حوراني، أن بالإمكان دراسة هؤلاء الكتاب بطريقة مختلفة، انطلاقاً من أن أفكارهم لا تعبر عما يعتقدون فعلاً، ولكنها تظهر وتخفي معاً مصالحهم الحقيقية، هذه النظرية عبر عنها بشدة وأناقة حسب وصف حوراني، أيلي خدوري، فعندما تكلم عن الأفغاني وعبده وآخرين، وصفهم بأنهم رجال متورطون في تسويات معقدة وغامضة، وتساءل إذا لم يكن من الأفضل افتراض ما يعمل ليس بالضرورة شبيهاً بما يقال، وما يقال علناً يمكن أن يختلف جدًّا عما هو في القناعة الشخصية.
هذه النظرية بهذه الحجة لم تقنع حوراني، وفي اعتقاده أن غموضاً كان يدور حول الأفغاني، أما فيما يتعلق بالمفكرين الآخرين ابتداء من عبده، فلا يرى عندهم أي غموض، إذا كانوا يقولون ما يفكرون به مع أخذهم الحيطة، وما كان بالإمكان نشره لا سيما في مصر وسوريا في آخر العهد العثماني كان مجاله واسعاً، وإن لم يكونوا مخلصين فإنهم كانوا يظهرون نوعاً من التوافق، مما يجعل التمييز بين تفكيرهم والبناء المنطقي عندهم ممكناً.
يضاف إلى ذاك، أن هؤلاء الكتَّاب -في نظر حوراني- كان لهم تأثير في قراء عصرهم، والأجيال اللاحقة، ولم يكن ذلك بسبب تسوياتهم الغامضة كما ظن خدوري، وإنما بسبب أفكارهم وتأثيرها.
وفي حوار معه نشر سنة 1981م، ذكر حوراني أنه لو قدر له أن يعيد النظر في كتابه آنذاك، لغيَّر فيه الكثير، ولكتب عن الفكر العربي الإسلامي في استمراريته، وليس عن الفكر الغربي الذي أثر في العرب، وما يدعوه إلى ذلك، أن أشياء عديدة قد تغيَّرت منذ أن وضع كتابه، إذ أصبح الوضع حسب قوله أشد تعقيداً، ودخلت الجماهير في العملية السياسية، مع عودة الفكر الإسلامي والمشاعر الإسلامية، وعودة الفكر الإصلاحي والاشتراكي، كل هذه المسائل كانت تجعله أن يعيد النظر فيما كتبه منذ عشرين سنة.
إلى جانب ذلك، يضيف حوراني، هناك ما كتبه ويكتبه عرب وأتراك وإيرانيون، جعله أكثر اطلاعاً على الفكر العربي الإسلامي، إذ إنه لم يقرأ –كما يقول- حين ألف كتابه، سوى دراسة واحدة لرئيف خوري حول الثورة الفرنسية1.
ولعل أكثر ما أثار الالتباس في كتاب حوراني، هو عنوانه المتغير ما بين طبعتيه الإنجليزية والعربية، ففي طبعته الإنجليزية حمل الكتاب عنوان (الفكر العربي في عهد الليبرالية)، أو (الفكر العربي في العصر الليبرالي)، وفي طبعته العربية حمل عنوان (الفكر العربي في عصر النهضة).
والالتباس في العنوان ناشئ من كلمة الليبرالي في الطبعة الإنجليزية، وكلمة النهضة في الطبعة العربية، فهل كلمة الليبرالي عائدة إلى الفكر العربي وصفاً وتوصيفاً له، وهكذا كلمة النهضة! أم أن هاتين الكلمتين راجعتان إلى الفكر الأوروبي وصفاً وتوصيفاً!
في الانطباع العربي العام، أن كلمتي الليبرالي والنهضة عائدتين إلى الفكر العربي، وناظرتين له، وأن الكتاب أساساً جاء بقصد تسليط الضوء على المرحلة الليبرالية في الفكر العربي، أو على عصر النهضة في الفكر العربي، ومحاولة التعرف والتعريف بهذه المرحلة التاريخية، والإشادة بها، وضرورة التنبه لها، والوقوف عليها، وذلك لمزاياها الفكرية والثقافية.
وكل من تعرف إلى الكتاب ونظر فيه، تشكل عنده مثل هذا الانطباع، فحين توقف عنده الدكتور عبدالله العروي ناظراً إلى طبعته الإنجليزية ومترجماً لها بعنوان (الفكر العربي في عهد الليبرالية)، اعتبر أن حوراني يعني المرحلة الليبرالية من الفكر العربي، وليس الفكر العربي عامة أثناء العهد الليبرالي2.
وتقصدت الإشارة هنا إلى الدكتور العروي، باعتباره الشخص الذي خصه حوراني بالذكر، وميزه عن غيره من المؤرخين والمفكرين العرب، وحسب اعتقاده أن هناك مؤرخين عرب ممتازين من حيث جمعهم لدقائق الأحداث وروايتهم لتفاصيلها، لكنه لا يرى مؤرخين مفكرين عرب، عدا القليل كعبدالله العروي في المغرب3.
أمام هذا الانطباع السائد ولزمن طويل، والذي يكاد يحضى بدرجة الاتفاق في المجال العربي، وعلى خلافه تماماً جاء التفسير المغاير له، وليس من أي أحد، وإنما من صاحب العمل نفسه، الذي توقف عند هذه الملاحظة مرتين حسبما وجدت، مرة في مقدمة كتابه حين رجع إليه بعد عشرين سنة، ومرة ثانية في الحوار الفكري المنشور معه في مجلة المجلة سنة 1981م.
في مقدمة الكتاب، قال حوراني كلاماً ليس واضحاً تماماً، لا أعلم هل هو بسبب المؤلف أم هو من المترجم، ونص كلامه «إنني أعود في كتابي، إلى هذه الأفكار مستعملاً مع شيء من التساهل، كلمة –Liberal- ليبرالي تحرري، فأذكرها في المعنى الإنجليزي، وليس ذلك هو العنوان الأول لهذا الكتاب، ولست راضياً عن ذلك تماماً، لأن الأفكار التي لها تأثير لا تتعلق بالمؤسسات الديمقراطية، أو حقوق الإنسان فقط، وإنما بالوحدة الوطنية، وبقوتها وبسلطة الحكومات»4.
لكنه في المرة الثانية، قال حوراني كلاماً واضحاً جدًّا، أظهر فيه اعتراضه، وعدم موافقته على عنوان كتابه بالعربية، ونص كلامه «أود أولاً أن أسجل اعتراضي على عنوان كتابي كما ورد في العربية، ففي الأصل، أي الإنجليزية عنوانه: -The Arabic Thought in the liberal Age- والتعبير العربي –النهضة- يعطي انطباعاً مختلفاً لم أقصده، وكأن المسألة مع النهضة تبدو جديدة كليًّا، ودون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة نهضة أن تعبر عنه، وقد وضعها المترجم مقابل كلمة Liberal والفرق شاسع»5.
وقبل أن ينهي حوراني كلامه، توقف مرة ثانية أمام عنوان كتابه، رفعاً للالتباس الذي حصل قائلا: «مرة أخرى لا أوافق على عنوان كتابي بالعربية، وهذا خطأ من المترجم، أما ما قصدته تحديداً بالعنوان الإنجليزي فهو الفكر العربي في العصر الليبرالي في أوروبا».
ليس هذا فحسب، فقد أظهر حوراني ندمه حتى على اختيار عنوانه الإنجليزي، وحسب قوله: «عندما كتبت كتابي المذكور، واستخدمت عنوان: The Arabic Thought in the liberal Age لم أقصد مطلقاً أن كل الأفكار كانت ليبرالية، ولكنني قصدت الفكر العربي في عصر الهيمنة الليبرالية الغربية، على كل فقد ندمت فيما بعد لأنني وضعت هذا العنوان»6.
مع ذلك، فإن هذا الكتاب هو الذي عرَّف بحوراني في المجال العربي، وظل يعرف به باستمرار، وذلك لشهرته الواسعة التي ما زالت ممتدة إلى اليوم، لكونه من المؤلفات القليلة والجادة التي أرَّخت لمرحلة فاصلة في تاريخ تطور العالم العربي الحديث.
والمفارقة التي وجدتها في هذا الشأن، أن كتاب (الفكر العربي) يعتبر في المجال العربي أهم وأشهر أعمال حوراني، في حين يعتبر كتابه (تاريخ الشعوب العربية)، الصادر سنة 1991م، أهم وأشهر أعمال حوراني في المجال الغربي7.
- 1. حوار مع ألبرت حوراني، أجرى الحوار: مصطفى الزين، مجلة المجلة، لندن، العدد 64، 1981م، ص67.
دراسة رئيف خوري التي قصدها حوراني هي كتاب (الفكر العربي الحديث.. أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي)، الصادر في بيروت سنة 1943م. - 2. مجموعة كتاب، عصر النهضة.. مقدمات ليبرالية للحداثة، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص282.
- 3. حوار مع ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص67.
- 4. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة: كريم عزقول، بيروت: دار نوفل، 1997م، ص3.
- 5. حوار مع ألبرت حوراني، ص66.
- 6. حوار مع ألبرت حوراني، ص67.
- 7. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الكلمة، مجلة فصلية، السنة الحادية والعشرون، العدد 84، صيف 2014م / 1435هـ.