نص الشبهة:
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في الروايات: أن علياً (عليه السلام) عندما أرسل ابن عباس إلى الخوارج ليحاججهم أمره بأن لا يحتج عليهم بالقرآن لأنه حمال ذو أوجه وإنما يحتج عليهم بالسنة الشريفة. وهذا الوصف للقرآن منه (عليه السلام) نجد حقانيته تتجسد فيما نراه من ذهاب المسلمين وتفرقهم إلى مذاهب شتى في تفسير القرآن. ونجد في الروايات أيضاً: أنه لا بد لمن يريد تفسير القرآن أو تأويله من أن يعلم ناسخه من منسوخه وعمومه من خصوصه وأن له بطوناً وغير ذلك من أوصاف. ونجد أيضاً: الروايات التي تتحدث عن أن أهل البيت (عليهم السلام) هم الأعلم بكتاب الله والأعلم بتأويله، وحسبنا ما جاء في خطبة الزهراء (عليها السلام): «أم تدّعون أنكم أعلم بكتاب الله من أبي وابن عمي…». وفي مقابل ذلك كله نجد أن الروايات تدعو إلى عرض ما جاء عنهم (عليه السلام) على كتاب الله والأخذ بما وافقه والإعراض عما خالفه، أو بحسب نص الروايات «فاضربوا به عرض الحائط» وفي بعضها «فهو زخرف». ومن هنا يظهر لنا السؤال التالي: كيف يمكن عرض الحديث على كتاب الله الذي هو حمال ذو أوجه؟ وكيف نعرض ما نقل عنهم (عليه السلام) على كتاب الله وهم الأعلم بتأويله؟ علماً بأننا إنما نعرض بالحقيقة على ما فهمناه من معاني القران وقد يكون هذا الفهم صحيحاً وقد يكون غير ذلك!!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإن الأدلة قد دلت على حجية ظواهر القرآن الكريم، ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الإخباريين [(رحمهم الله)..
ومما يدل على حجية ظواهره حديث الثقلين.
والأحاديث الآمرة بعرض الحديث على القرآن..
والأخبار الدالة على رد كل شرط خالف كتاب الله في أبواب العقود.
وسأل زرارة الإمام (عليه السلام): من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟!
فقال: لمكان الباء..
وفي حديث المسح على الجبيرة قال (عليه السلام): إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله: ما جعل عليكم في الدين من حرج.. ثم قال: امسح عليه.
وحديث: أن المصلي في السفر أربعاً: إذا قرئت عليه آية القصر، وجبت عليه الإعادة، وإلا فلا..
وحديث: الإمام علي (عليه السلام) في الذي ادعى أنه لا يعرف أن الخمر حرام، أنه إذا كانت قد قرأت عليه آية الخمر، فإنه يجلد.
والحديث: في من أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء، معتذراً بأنه لم يكن شيئاً أتاه برجله، فقال (عليه السلام): أما سمعت الله عز وجل: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. وغير ذلك كثير جداً لا مجال لتتبعه..
وأما بعض الإخباريين (رحمهم الله)، فقد استدلوا على عدم حجية هذه الظواهر، بروايات المنع عن تفسير القرآن بالرأي.
وبما روي عنهم (عليهم السلام)، من أنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن: إن الآية يكون أولها في شيء، وآخرها في شيء، وهو كلام متصل، ينصرف إلى وجوه..
وبما روي من أن الإمام الصادق (عليه السلام)، قد قال لأبي حنيفة حين ادعى: أنه يعرف كتاب الله حق معرفته، ويعرف الناسخ من المنسوخ: لقد ادعيت علماً! ويلك، ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب، الذين أنزل عليهم، وما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا (صلى الله عليه وآله)، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): إنما يعرف القرآن من خوطب به.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)، لابن عباس: لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه. أو قال له: إن خاصموك بالقرآن فخاصمهم بالسنة.
ونقول:
إن من الواضح: أن هذا كله لا يصح التمسك به للمنع من الأخذ بظواهر القرآن، ونوضح مرادنا في ضمن النقاط التالية:
1 ـ إن روايات المنع عن تفسير القرآن، إنما منعت من تفسيره بآراء الرجال، ومحاولة حرف ظاهره ليحمل على تلك المعاني الباطلة، التي هي مجرد استحسانات..
بل تجد أنهم حتى حين يكون هناك احتمالات متعددة في معنى آية منه تجدهم يعمدون إلى ترجيح احتمال منها من دون شاهد أو قرينة، سوى استحساناتهم، وآراءهم، وما تميل إليه نفوسهم.
فالروايات المذكورة لم تمنع من حمل ظواهر القرآن على معانيها اللغوية والعرفية الظاهرة منها. بل صرحت تلك الروايات بأن المنهي عنه فيها هو التفسير بالرأي دون سواه.. فما معنى الاستدلال بها على نفي حجية ظواهر القرآن من الأساس؟
2 ـ إن آيات القرآن على نوعين:
الأول: الآيات التي لها معان لغوية وعرفية معروفة وظاهرة، فهي لا تحتاج إلى تفسير وبيان، لأنها من الواضح والمبين.. والروايات المتقدمة لا تتحدث عن هذا القسم..
الثاني: هناك آيات ليست ظاهرة المعنى بل تحتاج إلى تفسير وبيان. وتفسيرها يكون بنحوين:
أحدهما: أن يكون للمعنى الذي يراد حملها عليه شاهد وقرينة، ودليل ومستند من كلام العرب، واستعمالاتهم.
والآخر: أن تحمل على معاني اقتراحية، ليس لها شاهد ولا دليل، وإنما تسوق إليها الأهواء، وتنتجها الآراء، ومدارها الاستحسان والرغبة والهوى..
فالمنهي عنه هو خصوص هذا القسم الأخير. وذلك ظاهر..
3 ـ إن الأخذ بالظاهر قد يكون بعد إحراز عدم وجود ناسخ، أو مخصص له، أو قرينة عرفية على المراد منه، وإحراز عدم وجود تفسير مأثور له، في الآيات والروايات.. وإحراز كون المعنى منسجماً مع الأحكام العقلية والفطرية، وغيرها من الأدلة الصالحة للتقييد والبيان..
وقد يؤخذ بالظاهر بمجرد الوقوف عليه أو سماعه أو إلقاء الكلام من دون ملاحظة ما ذُكر، ومن دون نظر وتتبع للموارد التي يحتمل وجود المخصص، والمقيد، والناسخ، والمبين فيها..
فالقسم الأول: هو المعقول والمقبول، والقسم الثاني هو المنهي عنه، والمرفوض في قسم من الأخبار التي ذكرنا أنهم قد استدلوا بها..
4 ـ أما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فنقول فيه:
أ ـ إنه (عليه السلام) لا يقصد الحديث عن جميع آيات القرآن، بل المقصود هو خصوص الآيات المتشابهة التي تعنيهم، والتي قد يتمسكون بها لخداع الناس بضلالاتهم، لأن السماح لهم بالاحتجاج بالقرآن سوف يهيء لهم الفرصة لإثارة الحديث حول تلك الآيات بطريقة ينخدع بها السذج والبسطاء.
وقد قال تعالى:﴿ … مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … ﴾ 1والخوارج من أجلى مصاديق أهل الزيغ المشار إليهم في هذه الآية المباركة.. ولا يريد الإمام علي (عليه السلام)، نفي حجية ظواهر جميع آيات القرآن، حتى المحكمات، التي لا مجال للمماراة فيها لظهور دلالاتها.. بل إن تلك الآيات تبقى هي الميزان، والمعيار، والحجة القاطعة للعذر، وهي التي تعرض عليها الأخبار، ويحتج بها أهل الحق، فيحقون بها الحق، ويبطلون الباطل..
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «وإنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء (عليهم السلام)، فيعرّفونهم»
ب ـ إن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أعرف من كل أحد بالخوارج، الذين أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عنهم بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأنهم يقرؤونه ويحسبون أنه لهم، وهو عليهم..
وقد كانوا في أعلى درجات السّفه، وفي منتهى الجهل بحقائق القرآن ودقائقه. وهم كما قال (عليه السلام): أخفاء الهام سفهاء الأحلام.. وتجد الكثير الكثير من النصوص الدالة على بداوتهم وعظيم جهلهم، في كتابنا: «علي (عليه السلام) والخوارج».
فمن كانت هذه حاله، فإنه لا يمكن مخاطبته بالكلام الدقيق، ذي المضامين العالية، والمعاني الراقية، لأنه لن يكون بسبب جهله وسفاهته قادراً على فهمها، وإدراك حقائقها ودقائقها، ولسوف يتيه عنها، وتتلاعب به الأهواء، وتتقاذفه الشبهات التي يثيرها من أضلهم الشيطان، وزين لهم أعمالهم.. فكان خطابهم بالسنة، وخصوصاً بالأمور التي تصل إلى درجة البداهة في دلالاتها هو الأنسب والأقرب إلى الرأفة بهم، والإحسان لهم. وتسهيل اكتشاف الحق على من دخلت عليه الشبهة منهم، ولم تكتنفها بعد ظلمات الأعمال الإجرامية، التي يقودهم إليها الجهل والهوى..
5 ـ في نص آخر عنه (عليه السلام): أنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاص، وهم يظنون (أو يقدّرون) أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السنة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام، وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلوا وأضلوا..
فهذا النص يتضمن اللوم والإدانة للمخالفين لأهل البيت (عليهم السلام)، الذين يستغنون بآرائهم عن الرجوع إلى أئمة الهدى، بل هم يخطئون الأئمة، ولم يثقفوا أنفسهم بدرجة تؤهلهم لنيل معاني القرآن بالطريقة الصحيحة.
وذلك لأن الناسخ والمنسوخ، إنما يؤخذ من الذين نزل القرآن في بيوتهم.. وهم أهل البيت (عليهم السلام).. الذين هم أدرى بما نزل فيه. فإن كلامهم يوضح أموراً كثيرة يحتاج من يريد الأخذ بظواهر القرآن إلى الوقوف عليها، فإن وجد فيها ما يوضح، أو يخصص أو يقيد، أخذ به، وإن لم يجد فيه شيئاً من ذلك، فإنه يمكنه في هذه الحال الأخذ بظاهر القرآن، وليس عليه في ذلك جناح..
وبعدما تقدم نقول: إن هناك إشكالات ومناقشات عديدة أخرى لما استدلوا به، ولكننا نكتفي هنا بهذا القدر، لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك، ولكننا نعود ونذكر بما يلي:
أولاً: إنه قد اتضح مما تقدم: أن روايات العرض على الكتاب، لا تعارض روايات تفسير القرآن بالرأي.. بل تكون قرينة على تخصيصها بما يحتاج إلى تفسير، أو تخصيصها بالمتشابه.. أو تخصيصها بالتفسير قبل الفحص عن المخصص والناسخ، وعن القرائن في الآيات، وعن البيانات الواردة في الروايات، وعن القرائن العرفية، وعن القرائن العقلية..
ثانياً: قد اتضح أيضاً: أن حديث: القرآن حمال ذو وجوه، لا يراد به جميع القرآن. بل خصوص الآيات التي لا تكون من المحكمات، أي لا تكون نصاً أو ظاهراً في المراد ظهوراً قاطعاً للعذر.. فليلاحظ ذلك..
ثالثاً: وهناك أدلة أخرى استدل بها بعض الإخباريين هنا، بيّن العلماء أنها لا تصلح للاستدلال بها، فراجع كتب علم أصول الفقه، فإنها قد بينت ذلك بصورة وافية.
رابعاً: قد أشرتم إلى التأويل في الآيات، ونحب أن نذكّركم بأن المراد بالتأويل ليس دائماً هو صرف اللفظ عن ظاهره، بل المراد به أحياناً معرفة ما يؤول وينتهي إليه الأمر.. كما في قوله تعالى:﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ … ﴾ 2.
وحسبنا ما ذكرناه، فإن الحر تكفيه الإشارة..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. 3.
- 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 7، الصفحة: 50.
- 2. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 53، الصفحة: 157.
- 3. مختصر مفيد (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، السيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثالثة»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423 ـ 2002، السؤال (155).