بقلم الباحث: محمد حمزة الخفاجي
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(اِبْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَمَوَاتٍ، وَسَاكِنٍ وَذِي حَرَكَاتٍ، وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ اَلْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمَسَلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ)[1].
لو نظر الإنسان الى هذا الخلق وتفكر جيداً في عظيم القدرة، من سماوات وأرضين وما فيها من سهول وجبال وتلال ووديان وطيور وحشرات وغيرها من المخلوقات الأخرى، لدلته الدلائل على أن لهذا الخلق صانعاً عظيماً قد اتقن خلقه، فهذا الإبداع في الخلق انما يكون من عظيم قدير له الأسماء الحسنا.
فكل شيء في هذا الكون مدهش وعجيب يبهر العقول، قال تعالى :{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[2].
عن سدير الصيرفي قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام): عن قول الله عز وجل: {بديع السماوات والارض }، قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن الله عز وجل ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والارضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى: {وكان عرشه على الماء}([3]))([4]).
وقوله (عليه السلام): (مِنْ حَيَوَانٍ وَمَوَاتٍ)، يعني بـ (الحيوان) المخلوقات التي فيها روح وتشمل الطيور والبهائم والسباع والحشرات؛ وغيرها من الموجودات التي فيها روح, قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5].
أما التي ليس فيها روح فعبر عنها بـ (الموات) كالجبال والصخور.
وقوله (عليه السلام): (وَسَاكِنٍ وَذِي حَرَكَاتٍ).
فبعض المخلوقات تكون ساكنة وبعضها متحركة، وأكد ذلك ما ورد من قول عن الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضل في الحكمة من خلق الشجر وأصناف النبات (تَأَمَّلِ الحِكمَةَ في خَلقِ الشَّجَرِ وأَصنافِ النَّباتِ؛ فَإِنَّها لَمّا كانَت تَحتاجُ إِلَى الغِذاءِ الدَّائِمِ كَحاجَةِ الحَيَوانِ، ولَم يَكُن لَها أَفواهٌ كَأَفواهِ الحَيَوانِ، ولا حَرَكَةٌ تَنبَعِثُ بِها لِتَناوُلِ الغِذاءِ، جُعِلَت أُصولُها مَركوزَةً فِي الأَرضِ لِتَنزِعَ مِنهَا الغِذاءَ فَتُؤَدِّيَهُ إِلَى الأَغصان وما عَلَيها مِنَ الوَرَقِ وَالثَّمَرِ، فَصارَتِ الأَرضُ كَالأُمِّ المُرَبِّيَةِ لَها، وصارَت أُصولُها الَّتي هِيَ كَالأَفواهِ مُلتَقِمَةِ لِلأَرضِ لِتَنزَعَ مِنهَا الغِذاءَ كَما يُرضِعُ أَصنافَ الحَيَوانِ أُمَّهاتُها ألم تر إلى عمد الفساطيط والخيم كيف تمد بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه، ولولا ذلك كيف يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف ؟. فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط والخيم ، متقدمة في خلق الشجر، لأن خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم . . . ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر، فالصناعة مأخوذة من الخلقة)[6].
وحتى النجوم جعل الله منها ثابتة ومنها سيارة، ومن كلام الامام الصادق (عليه السلام) للمفضل ايضاً قال فيه: (فكّر في النجوم واختلاف مسيرها، فبعض لا يفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلاّ مجتمعة، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج، ويفترق في مسيرها، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عامّ مع الفلك نحو المغرب والآخر خاصّ لنفسه نحو المشرق؛ كالنملة التي تدور على الرحى، فالرحى تدور ذات اليمين والنّملة تدور ذات الشمال، والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين احداهما بنفسه فتتوجّه أمامها والاخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها، فاسأل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد، ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلّها راتبة أو تكون كلّها منتقلة فان الإهمال معنى واحد، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير، ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير ، وليس بإهمال كما يزعم المعطّلة .
فان قال قائل : ولم صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا ؟ قلنا : إنّها لو كانت كلّها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقل المنتقلة ومسيرها في كلّ برج من البروج، كما يستدلّ بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس والنجوم في منازلها، ولو كانت كلّها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه، لأنّه إنّما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة ، كما يستدلّ على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها .ولو كان تنقلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها ، ولساغ لقائل أن يقول : إنّ كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا، ففي اختلاف سيرها وتصرّفها وما في ذلك من المآرب، والمصالح أبين دليل على العمد والتدبير فيها)[7].
وقال الإمام علي (عليه السلام): (وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ اَلْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمَسَلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ).
فهذا الخلق وما فيه من مخلوقات هي أوضح الدلائل على وجوده تعالى، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا سئل عن إثبات الصانع، قال: (البعرة تدلّ على البعير، والروثة تدلّ على الحمير، وآثار القدم تدلّ على المسير، فهيكل علويّ بهذه اللطافة، ومركز سفليّ بهذه الكثافة، كيف لا يدلاّن على اللطيف الخبير)[8].
فبهذا الخلق يستدل العقل على أن هنالك خالقاً عظيماً خلقه وخلق جميع الموجودات؛ فبهذا الإبداع وهذه الادلة الواضحة، خضعت لله جميع العقول واعترفت به سبحانه.
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيراً ما يقول إذا فرغ من صلاة الليل : (أشهد أنّ السماوات والأرض وما بينهما آيات تدلّ عليك، وشواهد تشهد بما إليه دعوتَ، كلّ ما يؤدّي عنك الحجّة، ويشهد لك بالربوبيّة، موسوم بآثار نعمتك ومعالم تدبيرك، علوتَ بها عن خلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما آنسها من وحشة الفكر، وكفاها رجْم الاحتجاج؛ فهي مع معرفتها بك، وولهها إليك ؛ شاهدة بأنّك لا تأخذك الأوهام، ولا تدركك العقول ولا الأبصار)[9].
وجاء في الكافي عن هشام بن الحكم قال: ( قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): (… يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال:{وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون}[10].
يا هشام قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال:{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}[11].
وقال: { هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون}[12]، وقال : {إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيى به الارض بعد موتها وتصريف الرياح وقال: ” إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون }.
يا هشام إن العقل مع العلم فقال: {وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}[13]…) [14].
الهوامش:
[1]- نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح ، الخطبة : 165، ص293- 294.
[2]- الأنعام : 101 .
[3]- هود : 9 .
[4]- الكافي ، ج1 ، ص256 ، ح2 .
[5] – النور : 45.
[6]- التوحيد ، ص101 .
[7]- التوحيد ، المفضل بن عمر الجعفي ، ص82 – 83 .
[8]- موسوعة الإمام علي (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، ج10 ، ص76 .
[9]- المصدر نفسه، ص77 .
[10]- البقرة : 163 – 164 .
[11]- النحل : 12 .
[12]- غافر : 67 .
[13]- العنكبوت : 43 .
[14]- الكافي ، ج1 ، ص13 – 14.
المصدر: http://inahj.org