نور العترة

عاشوراء وامكانيات التربح الرسالي …

هل عاشوراء إشكاليّة شيعيّة أم إشكالية في الشيعة؟ هل هي إشكالية في التراث والتاريخ أم إشكالية في الفكر والمعرفة؟ هل هي إشكالية في الميثولوجيا أم في الإيديولوجيا؟ هل هي إشكالية الخلاف والخلافة أم إشكالية الوعي والوعي الثوري والوجدان الإنساني؟
ضمن هذا السياق يمكن للمرء أن يطرح ويستعرض إشكاليات متتالية تتوافق أو تتغاير مع هذه التحديدات سلباً و إيجاباً، وأن يمضي بعيداً في الحفر الإجتماعي السياسي والتاريخي والديني لأن الأمر لا يتعلق بما يصطنعه سمت المفكرين حصراً، بل تجيء الروافد من هنا وهناك لتوسّع من تصدير التساؤلات في صلب المجرى الأساسي لثورة الإمام الحسين (ع) وعلى هامشها وبعيداً عنها بكثير.
ولو بحثنا في الأسباب والبواعث التي استولدت مثل هذا النوع من المجادلات والاستفهامات، فلأن ثورة الإمام الحسين (ع) هي من جهة فيضٌ رسالي وقيمي وإيماني ظل في تدفق مستمر. وهي تفجرٌ إنساني ووجداني لم يعرف الانقطاع والتوقف. وهي جريانٌ فكري اتصل بالسماء وانعكس على مرايا الوعي وآليات الإحياء والتعبئة والنهوض في سبيل استنبات واقع يقوم على العدل والحق.
ومن جهة أخرى، لأن هذه الثورة لم يكتمل إطارها المعرفي بعد عند المسلمين جميعهم. فما زلنا في مرحلة الألف باء. وما زال معظم المسلمين الذين يعيبون الشيعة على إحيائهم هذه المناسبة، يمضون أوقاتهم في تقاعد قسري عن مروادة التراث والنبش فيه.
وهذا الكلام لا صلة له البتة بجداليات المذاهب والفرق الكلامية، بل له مسيس الصلة بالحاضر والمستقبل. وبإمكانيات التربح بتحقيق التواصل القيمي والثوري بين تجربة خالدة تحمل كل معاني الخلاص والفلاح للإنسان، وبين واقع رهين الظلم، وأجيال تفتش عمّن يخلق لها عالماً يسكن فيه السلام والأمن والإيمان. إذاً، الخوف من القيامة، الخوف من تساقط الهامات، الخوف من قادم يفتح أفقاً في جدار الظلام، تعميم الرقابة على التراث، إسباغ هالة مفتعلة ومضخمة على التاريخ، هو الذي يغلق باب العلم والمعرفة ويخنق أحلام الأمة وتطلعاتها.
وقبل أن يطرح البعض إشكالية عاشوراء عند الشيعة بما يوحي بسلبية أو نقيصة أو نشوز، عليه أن يطرح عاشوراء كأزمة في الإسلام، أزمة ترتبط بالقراءة والمقاربة والفهم ومسار السلطة وحركات الاعتراض، التي خلّفت جميعها فجوة فكرية ونفسية وما حصده المسلمون حتى الآن من تخلف وجهل وعصبية، أزمة في شرعية الحكم و صلاحية الحاكم ومنهجه والتي تظل من أشق الأزمات في وقتنا الراهن وأحوجها إلى المعالجة.
بالاتفاق، عاشوراء الحسين تمثل أنصع وجه من وجوه المواجهة مع الاستغلال البشع، مع الظلم الرهيب، مع الطغيان المستشري، مع الاستعباد المذل، مع الحكم الشمولي الذي يجعل المجتمع أسير أهواء الحاكم وغرائزه.ولكن كم هو عدد المسلمين خاصة القادرين على العودة إلى الحق في التاريخ، وإلى الحقيقة في التراث وإلى التعقل في المعرفة وإلى الموضوعية في الخلاف إذا كان الوهن يدب في كل جوارح الذات وجوانحها؟!
فإذا كانت ثورة الإمام الحسين(ع) والتي لم يحفل التاريخ على امتداده بمثيل لها، ولم تشهد البشرية منذ نشوئها على ظاهرة مجتمعية ودينية تنمو بهذا الاضطراد، لا تلقى من لدن علماء المسلمين اهتماماً ودراسة للوقوف على ما كان وما يجب أن يكون، فكيف للأمة أن تنهض وأن تصبح عزيزة ومهابة، وكيف للإنسان أن يصبح حراً كريماً. بل كيف إذا كان معظم علماء المسلمين هم في اتجاه طمس هذه القيم التي من أجلها خرج الإمام الحسين (ع). الغريب في الأمر، أن هذا العمل لا يؤدي إلى قطيعة مع التاريخ والتجارب التاريخية وما تحمل من تجارب إنسانية عظيمة، بل مع المستقبل، لأن تغييب الحسين عن البصيرة والعقل والوجدان هو تغييب للحق اليوم وغدا، وهو تثبيت للباطل في شتى وجوهه حتى لو تلبس بعباءة الدين، وهو جمود للفكر وقتل لعافية الأمة وحيويتها.
عاشوراء اليوم، تحتاج إلى موصلات لا إلى معوقات، إلى فهم ما يريده منا الحسين في وقتنا هذا، التي تصارع فيها الأمة من أجل الوجود والحضور والتقدم. أما من يطوق عاشوراء التماس السلامة، فإنه يهدد سعي الأمة في سعيها للكمال، ويغفل عن قيمة تضيع في أغلب الأحيان في نفق العصبيات.
لو كان للعلم أن يحكم لحكم أن ثورة الحسين هي أنجح دواء لهذه الأمة، لكن من يجرأ على الخروج من عالم الاعتباريات والموروثات ويتجرع دواء يحفز هذه الأمة على النهوض من هذا المستنقع الآسن. إذاً، هذه دعوة مفتوحة لقراءة عاشوراء وثورة الحسين (ع) بروح جديدة، وعقل هادىء وفهمٍ يتجه نحو معالجةٍ بنائيةٍ موضوعية لا معالجة تقريرية جامدة1.

  • 1. المصدر: جريدة السفير العدد: 11479 السنة السادسة والثلاثون، سماحة الشيخ صادق النابلسي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى