والباحث في موقفها اتجاه أبي الحسن (عليه السلام) يجد أمرا غريبا عجيبا ، ولا يجد له تفسيرا إلا الغيرة والعداء لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، وقد سجل لها التاريخ كرها وبغضا للإمام علي لم يعرف له مثيل وصل بها إلى حد أنها لا تطيق ذكر اسمه ( 9 ) ، ولا تطيق رؤيته ، وعندما تسمع بأن الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان ، تقول : وددت لو أن السماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب ، وتعمل كل جهودها للإطاحة به وتقود ضده عسكرا جرارا لمحاربته ، وعندما يأتيها خبر موته تسجد شكرا لله . عجبا ، مع أنه قد روي في الصحاح بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ( يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ) ( 10 ) ، ثم يروى في الصحاح والمسانيد والتواريخ بأن عائشة تبغض الإمام علي ولا تطيق ذكر اسمه ، أليس ذلك شهادة منهم على ماهية هذه المرأة ؟ .
كما يروي البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ( فاطمة بضعة مني ، من أغضبها أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ) ( 11 ) .
ثم يروي البخاري نفسه بأن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر فلم تكلمه حتى ماتت ( 12 ) ، إن الحق لا بد أن يظهر مهما ستره المبطلون ومهما حاول أنصار الباطل التمويه والتلفيق ، فإن حجة الله قائمة على عباده من يوم نزول القرآن إلى قيام الساعة .
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن أمر الله سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وآله بالاستقرار في بيوتهن وأن لا يخرجن متبرجات ، وأمرهن بقراءة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله .
وعملت نساء النبي صلى الله عليه وآله ، فكلهن امتثلن أمر الله وأمر رسوله – الذي نهاهن هو الآخر صلى الله عليه وآله قبل وفاته وحذرهن بقوله : أيتكن تركب الجمل وتنبحها كلاب الحوأب ، – ما عدا عائشة ، فقد اخترقت كل الأوامر وسخرت من كل التحذيرات .
ويذكر المؤرخون أن حفصة بنت عمر أرادت الخروج معها ، ولكن أخاها عبد الله حذرها وقرأ عليها الآية فرجعت عن عزمها ، أما عائشة فقد ركبت الجمل ونبحتها كلاب الحوأب .
يقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى : مرت عائشة في طريقها بماء فنبحتها كلابه ، وسألت عن هذا الماء فقيل لها أنه الحوأب ، فجزعت جزعا شديدا ، وقالت : ردوني ردوني ، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وعنده نساؤه : أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ؟ فجاء عبد الله بن الزبير فتكلف تهدئتها ، وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها كذبا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب .
اعتقد بأن هذه الرواية وضعت في زمن بني أمية ليخففوا بها عن أم المؤمنين ثقل معصيتها ظنا منهم بأن أم المؤمنين أصبحت معذورة بعد أن خدعها ابن أختها عبد الله بن الزبير وجاءها بخمسين رجلا يحلفون بالله ويشهدون شهادة زورا بأن الماء ليس هو ماء الحوأب .
إنها سخافة هزيلة يريدون أن يموهوا بمثل هذه الروايات على بسطاء العقول ويقنعوهم بأن عائشة خدعت لأنها عندما مرت بالماء وسمعت نباح الكلاب فسألت عن هذا الماء فقيل لها أنه الحوأب جزعت وقالت : ردوني ردوني .
فهل لهؤلاء الحمقى الذين وضعوا الرواية أن يلتمسوا لعائشة عذرا في معصيتها لأمر الله وما نزل من القرآن بوجوب الاستقرار في بيتها ، أو يلتمسوا لها عذرا في معصيتها لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بوجوب لزوم الحصير وعدم ركوب الجمل ، قبل الوصول إلى نباح الكلاب في ماء الحوأب ، وهل يجدون لأم المؤمنين عذرا بعدما رفضت نصيحة أم المؤمنين أم سلمة التي ذكرها المؤرخون إذ قالت لها : أتذكرين يوم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتيني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت : ما شأنك ، فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ، فأقبل رسول الله علي وهو محمر الوجه غضبا فقال : ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحد من الناس إلا وهو خارج من الإيمان ، فرجعت نادمة ساخطة ، فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك . قالت وأذكر أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله ، فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الأدب ، تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك وقال : إياك أن تكونيها يا حميراء . قالت عائشة : أذكر ذلك ، فقالت أم سلمة : أتذكرين يوم جاء أبوك ومعه عمر ، وقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدثان فيما أرادا إلى أن قالا : يا رسول الله إنا لا ندري أمد ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا ، فقال لهما : ( أما أني قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون ) . فسكتا ثم خرجا ، فلما خرجا خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت له أنت ، وكنت أجرئ عليه منا : يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم ؟
فقال : خاصف النعل ، فنزلنا فرأيناه عليا ، فقلت : يا رسول الله ما أرى إلا عليا ، فقال : هو ذاك . قالت عائشة : نعم أذكر ذلك ، فقالت لها أم سلمة : فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة ، فقالت : إنما أخرج للإصلاح بين الناس ( 13 ) .
فنهتها أم سلمة عن الخروج بكلام شديد ، وقالت لها : إن عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن صدع ، حماديات النساء غض الأطراف ، وخقر الأعراض ، ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضك في بعض هذه الفلوات ، ناصة قلوصا من منهل إلى آخر ؟ والله لو سرت سيرك هذا ثم قيل لي ادخلني الفردوس ، لاستحيت أن ألقى محمدا هاتكة حجابا ضربه علي . . ( 14 ) كما لم تقبل أم المؤمنين عائشة نصائح كثيرة من الصحابة المخلصين .
روى الطبري في تاريخه أن جارية بن قدامة السعدي قال لها : يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروج من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح ، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك ، إنه من يرى قتالك فإنه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس ( 15 ) .
الله ورسوله أمرا نساء النبي صلى الله عليه وآله بلزوم البيت أما أمر الله تبارك وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وآله بلزوم البيت فذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) إلى أن قال : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) .
وأما أمر النبي صلى الله عليه وآله نساءه بلزوم البيت فالأخبار في ذلك كثيرة وهذه جملة مما ظفرت به على العجالة : ابن سعد في طبقاته ( ج 8 / ص 150 ) : عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأزواجه أيتكن اتقت الله ولم تأت بفاحشة بينة ولزمت ظهر حصيرها فهي زوجتي في الآخرة .
أيضا ابن سعد في طبقاته ( ج 8 / ص 150 ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لنسائه في حجة الوداع : هذه ثم ظهور الحصر ، قال : وكن يحجبن كلهن إلا سودة بنت زمعة وزينب بنت جحش ، قالتا : لا تحركنا دابة بعد إذ سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله .
ورواه ابن الأثير أيضا في أسد الغابة : ( ج 5 / ص 464 ) في ترجمة زينب بنت جحش .
– ابن سعد أيضا في طبقاته ( ج 8 / ص 150 ) ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنسائه في حجة الوداع هذه الحجة ثم ظهور الحصر .
– وروى الخطيب في تاريخ بغداد ( ج 7 / ص 110 ) عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنسائه في حجته : هذه ثم ظهور الحصر .
وقيل في الشرح : أي أنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن ، وتلزمن الحصر ( جمع حصير الذي يبسط في البيوت ) . ثم إن الحديث هذا قد ذكره العسقلاني أيضا في تهذيب التهذيب ( ج 11 / ص 107 ) ، وكذلك الهيثمي في مجمعه ( ج 3 / ص 214 ) .
في نهي النبي صلى الله عليه وآله عائشة عن قتال علي وقد أخبرها أنها تنبحها كلاب الحوأب : في مستدرك الصحيحين : ( ج 3 / ص 119 ) روى بسنده عن أم سلمة قالت : ذكر النبي صلى الله عليه وآله خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت .
وفي كنز العمال ( ج 6 / ص 84 ) قال : عن طاووس أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنسائه أيتكن تنبحها كلاب كذا وكذا ، إياك يا حميراء . ( قال ) أخرجه نعيم بن حماد في الفتن ، ( وقال ) : وسنده صحيح .
وفي تاريخ الطبري لابن جرير ( ج 3 / ص 485 ) روى بسنده عن الزهري قال : بلغني أنه لما بلغ طلحة والزبير منزل علي (عليه السلام) بذي قار انصرفوا إلى البصرة ، فأخذوا على المنكدر فسمعت عائشة نباح الكلاب فقالت أي ماء هذا ، فقالوا : الحوأب ، فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إنها لهي ، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وعنده نساءه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب . فأرادت الرجوع ، فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال : كذب من قال أن هذه الحوأب ، ولم يزل حتى مضت فقدموا البصرة .
وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة في توجه عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة ( ص 55 ) قال : فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة نبحتها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمد بن طلحة : أي ماء هذا ؟ قال : هذا ماء الحوأب ، فقالت : ما أراني إلا راجعة ، قال : ولم ؟ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لنسائه : كأني بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء . فقال لها محمد بن طلحة : تقدمي رحمك الله ودعي هذا القول ، وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أول الليل ، فأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك ، فزعموا أنها أول شهادة زور بالإسلام . وفي نور الأبصار لمؤلفه الشبلنجي ( ص 81 ) في قصة أهل الجمل قال : ونقل غير واحد أنهم مروا بمكان اسمه الحوأب فنبحتهم كلابه ، فقالت عائشة : أي ماء هذا ؟ قيل لها : هذا ماء الحوأب . فصرخت وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وعنده نساءه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب . .
وفي رواية الإستيعاب لابن عبد البر ( ج 2 / ص 745 ) أيتكن صاحبة الجمل الأدب ، يقتل حولها قتلى كثير وتنجو ما كادت ، قال ابن عبد البر : وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله ، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت : ردوني ، فأناخوا يوما وليلة وقال لها عبد الله بن الزبير أنه كذب – يعني ليس هذا ماء الحوأب – ولم يزل بها وهي تمتنع فقال النجا النجا ، فقد أدرككم علي بن أبي طالب ، فارتحلوا ونزلوا على البصرة .
********************************
( 9 ) صحيح بخاري : ج 1 / ص 162 ، ج 3 / ص 135 ، ج 5 / ص 140 .
( 10 ) مستدرك الحاكم ، صحيح الترمذي : ج 5 / ص 306 ، سنن النسائي : ج 8 / ص 116 .
( 11 ) البخاري : ج 4 / ص 210 .
( 12 ) صحيح البخاري : ج 5 / ص 82 و ج 8 / ص 3 .
( 13 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 2 / ص 77 .
( 14 ) ابن قتيبة في كتابه : المصنف في غريب الحديث ، كذلك الإمامة والسياسة .
( 15 ) تاريخ الطبري : ج 6 / ص 482 .