” إن للقلب أذنين ، فإذا هم العبد بذنب قال له روح الإيمان لا تفعل ، و قال له الشيطان أفعل “.
الإمام صادق ( عليه السلام )
يتألف الإنسان من جزئين متباينين ، بهما يتم تركيبه ومنهما تتكون قواه وعناصره ، وعنهما تصدر أفعاله وأفكاره وبمجموعها يدرك قسطه من الحياة وينال حظه من الرقي والكمال وهذان الجزءان هما النفس والجسد .
جزءان متباعدان ائتلفا فكانا مزيجاً عجيباً يحمل خواص الطبيعة وآثار ما وراء الطبيعة ، وأصبحا بعد إئتلافهما شيئاً واحداً يدرك بإدراك واحد .
والذي يهمنا أن نجد الاتصال قد أفاد هذين الجزئين قدرة كاملة لا يتمتعان بنظيرها لو كانا منفردين .
للنفس أهداف لا تصل إليها إذا لم تتصل بالجسد ، وللجسد غايات لا يبلغها إِلا بمعونة النفس ، ويقول علماء أخلاق : إن الأهداف التي يتوجه إليها في سلوكه ومعاملاته قد تكون من مختصات الجسد ، ويمثلون لذلك باللذات الزائفة التي تحصل من الشهوات البهيمية ، وقد تكون من مختصات النفس ويمثلون لها بالكمالات النفسية التي تحصل للإنسان من اكتساب العلوم واللذات العقلية التي تنشأ من اكتشاف الخفيات من الأشياء وقد تكون مما يشترك فيه كل واحد من النفس والجسد على السواء أو على التفاضل ولكل واحد من هذه الأقسام أمثلة يذكرونها في كتبهم ، وقياس الألم في ذلك قياس اللذة .
والإنسان إنسان بنفسه لا بجسده لأن جميع أفراد الحيوان تشاركه في هذه الناحية ، ومحافظته على إنسانيته بمقدار محافظته على معنويات نفسه ، وسموه في إنسانيته بمقدار حرصه على إنما مداركه واستثمار مواهبه .
خلق الجسد ليكون آلة مسلوبة الإرادة بيد النفس ، توجهه حيث تشاء وتصرفه كيف تريد ، واستقامة الإنسان في شيمه وأخلاقه ، ورقيه في درجات الإنسانية لا يحصل إلا بذلك فإن عدالة العقل الحاكم على النفس والمدبر لسلوكها تمتع النفس عن الاستئثار بحقوق الجسد أو إعطائه أكثر مما يستحق .
أما إذا انعكس الأمر وأصبحت النفس آلة مسخرة للجسد يستعبدها لتحقيق ميوله ونيل أوطاره ، فهنالك الشقاء الدائم والخسران العظيم لأن العقل أصبح معزول الحكومة مردود الرأي .
والفلاسفة المتقدمون يقولون في صفة النفس حين يريدون تعريفها : ” هي جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته ” ويقولون : إن هذا الجوهر الملكوتي الواحد يظهر بمجالي متعدد متفاوتة ، وبالنظر إلى كل واحد من هذه المجالي يطلقون عليه اسماً خاصاً فيسمونه عقلاً من حيث أنه يدرك الأمور الكلية المعقولة ، ويسمونه روحاً لأن به حياة الجسد ونموه ، ويسمونه قلباً لأنه يتقلب بما يخطر فيه من الخواطر . والإمام الصادق عليه السلام قد يجري مع هذا الإصلاح إلى حد قريب فيقول : ” اجعل قلبك قرينا برا أو ولدا واصلا ” فيسمي النفس قلباً لما فيه من الخواطر ثم يجعله قرينا برا يجب اتباع نصحه في الخواطر الحسنة وولدا باراً يجب إرشاده . عند الخواطر السيئة . وقد يجري مع الإصطلاح إلى حد أبعد من ذلك فيقول : ” من لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوه من عنقه ” .
أما هذه الخاطرات التي تحدث في النفس والتي باعتبارها سماها الخلقيون قلباً فهي أفكار تعترض النفس إذا توجهت إلى عمل من الأعمال تحثها على إيجاده أو تحذرها من فعله فإذا كانت هذه الخاطرة تدعو إلى الخير أو تحذر عن الشر سميت “إلهاماً” وان كانت على العكس من ذلك سميت “وسوسة” .
ومصدر هذه الإلهام قوة خفية في النفس يشعر بها الإنسان جليا عند مباشرة عمل يرضي به عاطفته أو عقله أو عمل يغضبهما ، والمتأخرون من علماء الأخلاق يسمون هذه القوة ” بالوجدان ” و” الضمير” ويصفها بعض أرباب الفلسفة الحديثة ” بصوت الله في الإنسان ” ويسميها الإمام الصادق عليه السلام روح الإيمان بقوله : ” ان للقلب أذنين روح الإيمان يساره بالخير ، والشيطان يساره بالشر ، فأيهما ظهر على صاحبه غلبه ” وسأله بعض أصحابه عن روح الأيمان هذا فقال : ” أما رأيت الإنسان يهم بالشيء فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه قال نعم ، قال : هو ذاك ” .
الضمير واعظ القلب كما سماه في حديثه السابق ، وروح الإيمان كما يسميه في قوله هذا وهو إحدى الغرائز التي نشأت مع الإنسان منذ يومه الأول وتدرجت معه في عصوره ، وتطورت معه في تطور أحواله وغرائزه .
ويدلنا على هذا أنا نجد الضمير لا يختص بأمة دون أمة أخرى ، فالضمير يوجد عند الأمم المتوحشة التي لم تخضع لقانون ولم تعترف بنظام كما يوجد بين الأمم الراقية التي تشرع القوانين وتعترف بالأنظمة ، وبذرة الضمير توجد عند الصبي الناشئ وعند الطفل الدارج ولعل جرثومة الضمير توجد في قسم من الحيوانات العجماء على ما يقوله بعض علماء الحيوان .
وللضمير قوتان متقابلتان يشعر الإنسان بوجود هما قبل العمل وبعده .
قد يتوجه الإنسان إلى عمل يرضى به عاطفته مثلاً ولكنه يغضب عقله فيرى نفسه حينذاك بين قوتين متقابلتين تحثه إحداهما على العمل وتحذره الأخرى منه ، وتتفاضل هاتان القوتان بمقدار ما في الإنسان من ميل إلى الخير أو إلى الشر ، وبمقدار ماله من التمسك بالصفات الحسنة أو القبيحة ، وقد تكون القوتان متكافئتين إذا تساوت ميوله .
فإذا ابتدأ في إنجاز العمل استمرت القوة الموافقة على الحث والتشجيع ، وخفت صوت القوة المعارضة ولكن سكوتها يكون إلى حين ، وإذا أتم العمل شعر بتأنيب شديد من الناحية المكبوتة وخفت صوت الناحية المنتصرة .
وأما إذا ترك ذلك العمل إرضاء لعقله وإجابة لوجدانه فأنه يشعر بتأنيب قليل من ناحية العاطفة المكبوتة وبارتياح عظيم من الناحية الثانية ولذلك فلا يمكننا أن نصدق ان الضمير هو العقل العملي كما يراه الفيلسوف الألماني كانت لان العقل العملي خاضع لحكومة العقل النظري ، وظيفته ترتيب الأعمال على درجاتها ، وإعطاء كل عمل منها مكانه الذي يليق به وإذن فالعقل العملي يدعوا إلى الخير فقط ، فلا يسعنا أن نجعله تفسيراً للضمير .
والنظرات المتقدمة توضح لنا أن ( للضمير ) شؤوننا وآثارا . فأثره قبل العمل حث أو تحذير ، وبعد حصول العمل ارتياح أو تأنيب ومعنى هذا ان صوت هذه القوة لا يختص في حال حصول الرغبة أو في حالة انقماعها ، ويقول بعضهم : الوجدان والوسواس صوت رغبات مقموعة ، ولم يظهر لنا سر هذه الصفة التي يذكرها ، على أنا تعترف بأن صوت الوجدان يكون أشد ظهوراً عند انقماع الرغبة التي يدعو إليها .
وأنكر جماعة من الخلقيين كون الضمير غريزة من الغرائز ، وقالوا هو قوة يكتسبها الإنسان اكتسابا ، وللتجربة والاختبار والتقاليد والعادات أثر كبير في تكونه ، ويدلون على مذهبهم هذا بوجوه أهمها ما يأتي :
1 ـ إن القوانين والأنظمة الوضعية هي الحافظة للضمير من التداعي والإنهيار ، ودليل هذا أنا لو رفعنا سلطان القوانين الخلقية والإجتماعية والدينية عن آية أمة من الأمم لوجدنا اُن الحال فيها ينقلب رأساً على عقب وأن أُسس الضمائر الخلقية فيها تتداعى وتنهار ، وهذا يدلنا على أن الضمير تابع لهذه الأنظمة يوجد بوجودها ويفنى بفنائها .
وجوابه أن الضمير قوة بسيطة تتقوى بالتمرين ، والمحافظة على الواجبات وأتباع الأنظمة ، حتى تسيطر على جميع القوى : وتحكم على الغرائز ، وتضعف بالمخالفة والإهمال حتى يخفت الصوت ويموت الضمير ، ونعني بموت الضمير إنعدام أثر هذه القوة لا إنعدام وجودها فإن الضمير إذا تتابعت عليه الصدمات والمخالفات يخفت صوته ، فلا يبعث إلى فعل خير, ولا يحذر من عمل شر ، وهذا ما نسميه بموت الضمير أما جرثومة هذه القوة فلا تزال باقية في الإنسان مادام باقياً في الحياة ، ويمكن أن تعود إلى حين العمل يوماً ما إذا ما تعاهدها صاحبها بالتمرين والتقوية مرة أخرى .
2 ـ نجد الناس مختلفين في ضمائرهم ، فالشيء الواحد يكون حسناً عند أمة من الأمم وهو بنفسه يعد قبيحاً عند أمة أخرى . وهذا يدلنا على أن السبب هو الاختلاف في العادات والتقاليد والأزمنة وما أشبهها .
وجوابه ان الضمير قوة تحث على الخير وتحذر عن الشر ، أما تمييز الخير من الشر ، والمقياس الذي يقاس به العمل ليعلم أنه خير أو شر فهو شيء آخر وراء الضمير ، وليس الضمير معصوماً في حكمه فهو يحث الإنسان على ما يعتقد أنه خير ويحذره عما يعتقد أنه شر ، ثم لا يحاسبه عن مصدر هذا الاعتقاد فقد يكون مصدره مادة سخيفة أو تقليداً باطلاً .
وحكم الوجدان يتعدى أعمال الشخص نفسه إلى أعمال الغير فهو يكبر كل عمل يعتقد أنه خير ، ويحتقر كل عمل يعتقد أنه شر ، وان كان من أعمال الغير . وترحيب الضمير بذلك العمل أو تحذيره عنه يتفاوت بحسب ما يعتقد فيه من جهات الخير أو الشر ، وبحسب شدة ذلك الاعتقاد وضعفه وبمقدار تمسك الشخص بالمثل الأعلى في أخلاقه ، ولذلك نرى التفاوت العظيم بين الناس في ضمائرهم .
وإذا كان الإنسان الكامل هو الذي يستمد رشده من العقل ، وإذا كانت قوة الوجدان بمقدار محافظة الإنسان على عمل الخير في سلوكه ومعاملاته كانت نتيجة هذا ان الوجدان الكامل والضمير عند هذه الطبقة من الناس قوة واحدة وليس لها إلا صوت واحد فهو لا يعرف إلا الحق وهو لا يأمر إلا بالخير فإن الصوت الآخر من هذه الغريزة قد أماته كبت الميول وتحديد الشهوات .
والوجدان هو المبدأ الأول للتوبة والتكفير عن الخطايا لأن الضمير إذا شعر بالخطيئة ، وتبين عظم الذنب وجّه إلى النفس لوازع من التأنيب وقوارص من العتاب والتوبيخ ، وقد يتأثر الإنسان من ذلك فيندم وهذا الندم هو التوبة في مرحلتها الأولى . وكم للضمير الفاضل من يد بيضاء على الإنسان في تهذيب نفسه ، والأخذ بيده إلى سبيل النجاح وتسديده في ما يعمل وما يقول ، ويعلق الخلقيون المتأخرون على الضمير أشياء كثيرة يترامى بها العد ، ويطول فيها الكلام .
والضمير محترم عند الإنسان فقد يرتكب الرجل أخطاء وجدانية ومصدرها قصور في التفكير ، أو تسرع في الحكم إلا أنه لا يقبل من الناصح ان يتهم ضميره بالخيانة وقد لا يصغي إلى إرشاده بعد هذه التهمة ، لأن الضمير محترم عند الإنسان ومن الحزم للمرشد في أمثال ذلك أن يدله على وجه الخير فقط من غير ان يعترض لكرامة الضمير 1 .
- 1. كتاب : الأخلاق عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) للعلامة محمد أمين زين الدين