من المعلوم جداً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد هاجر من مكة إلى المدينة المنورة مُكرهاً بسبب عدم استجابة عشيرته”قريش” لدعوته للدخول في الدين الجديد، وبعد سنواتٍ من الدعوة إلى الإسلام مع ما رافقها من مشقّة وتعب وعناء استجاب أهل المدينة للدين الجديد، وهاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، وأقام بينهم وشرع بإقامة النواة الأولى للدولة القائمة على أساس التشريع الإسلامي الإلهي.
وقد أغضبت الهجرة وما ترتّب عليها في المدينة قبيلة قريش وأهل مكّة عموماً، وكذلك اليهود الذين وجدوا في قيام دولة الإسلام خطراً عليهم وعلى مصالحهم، ممّا دفع بهؤلاء المتضرّرين جميعاً من الإتفاق على محاربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمع الإسلامي الأوّل قبل أن تتوطّد أركانه وتشتدّ قوّته، وكان نتيجة تلك المحاربة حصول معارك كثيرة انتصر المسلمون في عددٍ منها، وخسروا في أخرى، إلاّ أنّ كلّ ذلك أدّى إلى شعور المسلمين بالقوّة وأنّ مجتمعهم قويٌّ ومتينّ وقادرٌ على الصمود والتحدّي والمواجهة، وهذا ما أدّى إلى اقتناع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ مجتمع المسلمين في المدينة صار ناضجاً وبالغاً سنّ الرشد والوعي الكافي للإستمرار.
هذا الإطمئنان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعه إلى التفكير بزيارة مكة لحج بيت الله الحرام بعد سنواتٍ من الغربة والهجرة القسرية التي فرضتها عليه قريش بممانعتها ورفضها ومحاربتها إياه وتأليب الناس عليه، ويمكن القول بأنّ أسباب الزيارة هي التالية:
أولاً: إطمئنان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنّ المجتمع الإسلامي في المدينة قد صار أمراً واقعاً لا يمكن إزالته ومحوه من الوجود بسهولة خصوصاً بعد كلّ تلك الحروب التي خاضها المسلمون بدءاً من بدر إلى أحد وغيرها ممّا أعطى المؤمنين قوّةً وبأساً وشجاعةً للدفاع عن دينهم ومعتقدهم.
ثانياً: إظهار قوّة المسلمين لقريش ومن يحالفها من الباقين على شركهم وكفرهم، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه سوف يدخلون مكة لأداء العمرة وهي فريضة إلهية من دون خوف على مجتمع المدينة المسلم الذي صار قادراً أن يدافع عن نفسه ولو لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاضراً بينهم.
ثالثاً: إشتياق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للعودة إلى مكّة بهذه الطريقة بعد خروجه منها بشكلٍ سري بسبب مخطّط قريش لقتله وإهدار دمه بين القبائل، ليقول بذلك لأهل مكة أنّه وجد الأنصار والمحبّين والموالين برسالته وقيادته وهم الغرباء عنه حَسباً ونَسباً بينما خانه أهله وخذلته عشيرته التي أمره الله بتبليغها الرسالة كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ 1، قبل أيّ فئةٍ أخرى من الناس.
رابعاً: إشتياق المسلمين عموماً والمهاجرين خصوصاً لأداء العمرة استجابةً لرغبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، خاصّةً بعد أن صارت الكعبة المشرّفة في مكة المكرمة هي قبلة المسلمين التي يتوجّهون إليها في صلاتهم منذ تحويل القبلة عن القدس إلى الكعبة في السنة الأولى من الهجرة النبوية، ولا شكّ أنّ شوق المهاجرين خصوصاً كما هو الحال عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّهم تركوا مكة مكرهين بسبب جبروت قريش وطغيانها ومن الشواهد على أنّ أسباب زيارة مكة كانت لأداء العمرة لا للحرب أو القتال أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار شهر ذي القعدة وهو أول الأشهر الحُرُم التي كانت العرب في الجاهلية تحرّم فيها القتال ليعيش الناس الأمن والسلام خلالها، وقد أقرّ الإسلام بحرمة هذه الأشهر أيضاً، وهذا الإختيار كان من باب حسن النيّة لدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المسلمين على أنّ دخولهم مكّة هو للقيام بتكليف ديني وإلهي لا أكثر ولا أقل.
ومن الشواهد أيضاً دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير المسلمين للخروج معه إلى مكة ليكون ذلك عامل اطمئنانٍ أكبر لأهل مكة على عدم إرادة القتال، ولهذا وجّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة إلى العديد من القبائل التي لم تؤمن بالإسلام للذهاب معه إلى مكّة.
ومن الشواهد أيضاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساق معه “سبعين بدنة” وهي صنف من الجمال يكون في سنٍّ معيّنة لنحرها، وهذا أيضاً لتأكيد دخوله السلمي مكّة وعدم إرادة الحرب والقتال.
وهكذا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة إلى مكة لأداء العمرة بمن معه من المسلمين وغيرهم قبل ذي القعدة بأيام ليصادف وصوله إلى مكّة وقد دخل الشهر الحرام، وهكذا كان، ووصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى “الحديبية” ووقف هناك لأنّ قريشاً وحلفاءها وقفوا في مواجهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه رافضين دخولهم مكّة ولو من أجل أداء العمرة، وكانوا قد جهّزوا أنفسهم للقتال فيما لو أصرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الدخول إليها.
وممّا لا شكّ فيه أنّه لو استطاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدخول إلى مكّة بمن معه من المسلمين وهم بتلك الكثرة والمهابة لأثار ذلك الفعل الكثير من الأمور في نفوس أهل مكة الذين كانوا لا يزالون على كفرهم وشركهم، ولأثّر ذلك على مكانة النافذين أمثال أبي سفيان وغيره من زعماء قريش الذين رفضوا الإسلام وحاربوه بكلّ قوّة، ولكن بما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج مسالماً غير محارب فقد جرت مفاوضات طويلة بينه وبين زعماء مكّة حول الدخول ومنعه منه إلى أن تمّ الإتفاق أخيراً بعد محاولات عديدة على أن يرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة من غير دخول مكّة، على أن يعود في العام القادم ويدخل مكّة ومن معه من المسلمين لأداء العمرة وتكون مكّة خالية من أهل المشركين لمدة ثلاثة أيام ليتسنّى للمسلمين آداء المناسك بحرية وراحة تامّتين، وأن لا يكون مع المسلمين سلاحٌ غير سيوفهم في أغمادها لا غير، وأنّ كلّ من أراد من أهل مكة الدخول في الإسلام كان له ذلك، ومن أراد من المسلمين الرجوع إلى حالة الكفر فله ذلك أيضاً من دون تدخّل من زعماء وقيادات الطرفين.
وكان ضمن الإتفاق بنودٌ أخرى يمكن الرجوع إلى كتب السيرة النبوية لمعرفتها والإطّلاع عليها، ولكن الذي يعنينا من كلّ ما تقدّم هو أنّه من (المعروف أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل مكة في ذلك العام، ورجع بمن معه من المسلمين إلى المدينة على أمل الرجوع في العام القادم)، ولا شكّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان ليقدم على القيام بهذا الفعل من تلقاء نفسه، وأنّ ما قام به بوحي إلهي وتكليف ربّاني ومن أجل أهداف معيّنة ولو لم يدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون إلى مكّة، ومن هنا يحقّ لنا التساؤل عن النتائج التي ترتّبت عن ذلك الصلح أو الإتفاقية التي حصلت بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائد المسلمين وبين زعماء قريش المشركين والمحاربين للإسلام؟
ولكن من خلال الإطّلاع على مجريات الأمور بعد ذلك الصلح الذي حصل يمكن أن نخرج بنتائج مهمّة ترتّبت على “صلح الحديبية” وهي التالية:
الأولى: إعترافٌ رسمي إذا صحّ التعبير من قريش وهي التي كانت تقود الحملات والحروب ضدّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه ولم تكن تعترف بهم كمجموعةٍ مميزة لها كيانها المستقل وشخصيّتها المميزة، وهذا الإعتراف من قريش كان مهمّاً جداً لأنّه أعطى المشروعية لمجتمع المدينة المسلم بعد أن كانت قريش وحلفاؤها لا يعترفون به.
الثانية: الإعتراف بوجود قوّة أخرى في الجزيرة العربية غير قريش وهي المجتمع المسلم في المدينة، وهذا ما يقوّي من عزيمة المسلمين ويزيدهم إصراراً على التمسّك بدينهم،وهذه القوّة المعترف بها قد تكون البديل في يومٍ من الأيام عن قريش وغيرها ممّن بقوا على كفرهم.
الثالثة: أنّ صلح الحديبية قد فتح الباب أمام الكثير من سكان الجزيرة العربية آنذاك للدخول في الإسلام بعد أن شاهد هؤلاء أنّ الذين حاربوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته قد اضطرّوا في النهاية إلى الإعتراف به وبدينه ولو لم يؤمنوا به، ولذا ورد في السيرة أنّ الكثير من القبائل والأفراد قد دخلوا في الإسلام أو طلبوا الحماية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفق بنود الإتفاق بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزعماء قريش.
الرابعة: أنّ صلح الحديبية قد كان في أوائل شهر ذي القعدة الحرام من السنة السادسة من الهجرة، بينما فتح مكّة قد حصل في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، ممّا يعني أنّ الفترة الزمنية الفاصلة بين الصلح والفتح هي أقلّ من سنتين ممّا يجعلنا على يقينٍ أنّ صلح الحديبية كان من المقدّمات الأساسية والمهمّة لفتح مكّة نظراً للتطوّرات والتغيّرات التي حصلت منذ الصلح إلى حين الفتح المظفّر لمكة وتحريرها من الأوثان والأصنام والمشركين وزعمائهم.
وما يؤكّد هذه النتائج ما اتّفق عليه أغلب المفسّرين للقرآن على أنّ سورة الفتح نزلت بعد عقد الصلح مباشرةً، وفي هذا دلالة كافية على أنّ خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نتيجة وحي إلهي من أجل تهيئة الظروف للفتح الكبير لمكة وإنهاء عبادة الأوثان كلياً، وقد ورد في السيرة النبوية أنّه بعد نزول سورة الفتح بعد الصلح قال رجل من المسلمين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “ما هذا بفتح لقد صدّونا عن البيت” فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (بأس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردّكم سالمين مأجورين فهذا أعظم الفتح)، فقال المسلمون: “صدقت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)”.
من هنا نقول أنّ صلح الحديبية كان محطّة مهمّة جداً ومفصلاً أساسياً في مسيرة المجتمع الإسلامي الذي قاده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان المقدّمة الأخيرة التي أدّت إلى فتح مكة بعده بقليلٍ ليبدأ الإسلام مسيرته المظفّرة التي لا زالت مستمرّة إلى يومنا هذا، وستبقى مستمرّة إلى آخر يومٍ من أيّام عمر الإنسانيّة في هذه الحياة الدنيا. والحمد لله ربّ العالمين2.
- 1. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 214، الصفحة: 376.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.