نص الشبهة:
هل كان علي (عليه السلام) ضمن الذين رفضوا حلق رؤوسهم في الحديبية، حين قال (صلى الله عليه وآله): «اللهم اغفر للمحلقين»، ليكون ذلك من موجبات الطعن في عصمته، أم أنه كان قد أطاع أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك ؟
الجواب:
بالنسبة للسؤال المطروح نقول :
ربما يكون منشأ هذه الشبهة هو النص الذي ذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن كتب كتاب الصلح: «قال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس.
فقالت أم سلمة يا نبي الله، أتحب ذلك؟ أخرج ولا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك .. الخ ..» 1.
والجواب على ذلك
أولاً: إنه لا شك في أن عليا أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يعص أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا في هذه الواقعة، ولا في غيرها، فهو يقول:
«وإني والله لم أخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم أعصه في أمر قط» 2 .
ثانياً: إن ذلك النص الذي قد يستدلون به، والذي ذكرناه آنفا، رغم تحفظنا عليه بسبب ما يظهر منه من إظهار أم سلمة على أنها قد أدركت أمراً غفل عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نعم رغم هذا التحفظ، نقول: إنه وإن كان ظاهره العموم والشمول لجميع أصحابه (صلى الله عليه وآله)، لكن التأمل فيه يقتضي حمله على العموم والشمول لجميع المعترضين على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيرهم. أي ما قام رجل ممن كانوا قد اعترضوا على الصلح، واغتموا له.
وذلك، لأن المستفاد من الروايات هو أن ثمة فريقا من الناس كان عليهم الحلق في عمرتهم تلك، ولكنهم لم يطيعوا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا قاموا بما لزمهم القيام به، بل تلكأوا في بادئ الأمر، وتعللوا، ثم إنهم حين وجدوا أن لا مناص من التحلل آثروا أن يتحللوا بالتقصير؛ لا بالحلق؛ وذلك بسبب ما عرض لهم من شك.
فلاحظ النصوص التالية
1 ـ روى ابن هشام ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجال يوم الحديبية، وقصّر آخرون.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يرحم الله المحلقين.
قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟
قال (صلى الله عليه وآله): يرحم الله المحلقين.
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال (صلى الله عليه وآله): يرحم الله المحلقين.
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال (صلى الله عليه وآله): والمقصرين.
فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين.
قال (صلى الله عليه وآله): لم يشكّوا 3.
فالشاكون إذن قد أحلوا من إحرامهم بالتقصير، مع أن وظيفتهم كانت هي الحلق، امتثالا لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2 ـ يفهم من رواية القمي: أن بعض الذين لم يسوقوا الهدي كانوا قد حلقوا امتثالا وطاعة لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعضهم قصر اكتفاء في التحليل بالتقصير، ولم يمتثلوا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحلق، وأن فيمن ساق الهدي من كان شاكاً أيضاً.
قال القمي: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: انحروا بدنكم، واحلقوا رؤوسكم، فامتنعوا، وقالوا: كيف ننحر ونحلق، ولم نطف بالبيت، ولم نسع بين الصفا والمروة؟! .
فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك وشكا ذلك إلى أم سلمة، (ربما ليظهر رجاحة عقلها ودينها وهي امرأة على عقولهم، وهم أصحاب الدعاوى العريضة) .
فقالت: يا رسول الله، انحر أنت، واحلق.
فنحر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحلق، ونحر القوم على حين يقين، وشك وارتياب.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعظيما للبدن:
رحم الله المحلقين.
وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله ، والمقصرين؛ لأن من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثانياً :
رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدي.
فقالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟
فقال: رحم الله المقصرين» 4.
والخلاصة: أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أظهر رضاه ومحبته للمحلقين، وتذمّره من الذين اكتفوا بالتقصير، وهذا يفيد أن الذين قصروا هم الذين خالفوا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله).
فالمخالفون لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والشاكُّون ليسوا جميع المسلمين الحاضرين في الحديبية، بل هم فريق بعينه كما دلت عليه النصوص.
ولا شك في أن علياً (عليه السلام) ليس منهم، وليس هناك نص تاريخي يصرح بأن علياً (عليه السلام) كان بين الذين لم يحلقوا، فإن طاعته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والتزامه الحرفي بأوامره ونواهيه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار، وما جرى في خيبر، حينما أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالذهاب وعدم الإلتفات، فوقف ولم يلتفت وقال: على ما أقاتلهم يا رسول الله .. هذه القضية معروفة ومشهورة وتلك هي الآيات الشريفة لم تزل تنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقررة لعصمته، كآية التطهير، ثم ما نزل في حقه كرامة له، لأنه هو وحده المطيع لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كآية النجوى وغيرها خير شاهد على ذلك أيضاً .هذا بالإضافة إلى شواهد أخرى تبين مدى حرصه (عليه السلام) على طاعة أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) حرفياً. يجدها المتتبع لسيرته (صلى الله عليه وآله). 5 .
- 1. راجع : تاريخ الطبري ج 2 ص 283 و البداية و النهاية ص 200 .
- 2. راجع : الأمالي للمفيد ص 235 والأمالي للشيخ الطوسي ص 11 . و راجع : نهج البلاغة ج 2 ص 171 .
- 3. راجع : سيرة ابن هشام القسم الثاني ص 319 و تاريخ الطبري ج 2 ص 283 .
- 4. راجع : تفسير القمي ج 2 ص 314 .
- 5. مختصر مفيد . . ( أسئلة و أجوبة في الدين والعقيدة ) ، للسيد جعفر مرتضى العاملي ، « المجموعة الأولى » المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1423 ـ 2002 ، ص 26 ـ 30 .