مقالات

صدام الحضارت…

في التاسع من شهر يناير2004م، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية حواراً مطولاً ومثيراً للجدل مع المؤرخ والأكاديمي اليساري بني موريس أستاذ التاريخ بجامعة بن غوريون، وأحد أبرز المؤسسين لتيار ما عرف بالمؤرخين الجدد أو تيار ما بعد الصهيونية. وأعادت نشره كاملاً ومترجماً إلى العربية صحيفة السفير اللبنانية في الثاني عشر من الشهر نفسه.

وقد كشف هذا الحوار وبدون مواربة عن النزعة التحريضية الشديدة التي يفكر بها بعض الأكاديميين الإسرائيليين في دفع العالم نحو الصدام بين الحضارات، وبالذات بين العالمين والحضارتين الإسلامية والغربية. فموريس يعتقد أن ما يحدث في العالم هو صدام بين الحضارات، ويشبه الغرب اليوم بالإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع والسادس، وأنه أي الغرب معرض لهجوم البرابرة، ومن الجائز حسب قوله أن هؤلاء البرابرة سيدمرونه من الداخل، كما دمر البرابرة في السابق إمبراطورية روما من الداخل. والعرب والمسلمون اليوم حسب تصوره يمثلون البرابرة الجدد أو برابرة العصر الحديث الذين يهددون حضارة روما هذا العصر.
لذلك فهو يعتقد أن الحرب بين الحضارات هي السمة الأساسية للقرن الحادي والعشرين، وأن بوش ـ الرئيس الأمريكي ـ يخطئ كما يقول عندما يتنكر لحقيقة وجود هذه الحرب. والحديث لا يدور فقط عن بن لادن، إنه صراع ضد عالم كامل ذي قيم مختلفة. ويعتبر إسرائيل معنية بهذا الصراع، وهي في صف جبهة الغرب، بالضبط مثلما كان الصليبيون، ونحن كما يقول الامتداد الأوروبي المعرض للضرب في هذا المكان.
وهذا المنطق ليس جديداً على الإسرائيليين، وليس مستغرباً منهم على الإطلاق، لكن الجديد فيه أنه لم يصدر من شخص ينتمي إلى طبقة السياسيين أو رجال الدين المتطرفين الذين ينفعلون بالأحداث السياسية واليومية، وإنما صدر من شخصية أكاديمية يفترض منها التقيد بأعراف وتقاليد أكاديمية، والالتزام بأخلاقيات العلم الصارمة، وليس بهذه الطريقة المرسلة بإطلاق الكلام. كما أن النظر إلى التاريخ بهذه الكيفية، وتوظيفه في إذكاء الصراعات والنزاعات بين الأمم والحضارات يمثل كارثة. وحتى هنتنغتون الذي تنسب إليه مقولة صدام الحضارات لم يتحدث عن هذه المقولة ويشرحها بالكيفية التي تحدث عنها موريس حيث يغلب عليها طابع الانفعال والتحريض واللغة السياسية المحكومة بذهنية المواجهة والصدام. مع ذلك فهي لا تتعارض أو تتباين مع مقولة ومفاهيم هنتنغتون في صدام الحضارات، بقدر ما هي تتمة لها، ومتناغمة معها، وتطبيق لها ولكن على الطريقة الإسرائيلية.
لقد حاول موريس ربط الصراع العربي ـ الإسرائيلي بمقولة صدام الحضارات لكي يرفع من وتيرة هذا الصراع، ويعطيه بعداً عالمياً وعمقاً تاريخياً، ويربطه أيضاً بمستقبل الغرب والحضارة الغربية. وأن إسرائيل حسب هذه القراءة تمثل طرفاً أساسياً في هذا الصدام بين الحضارات، فهي الطرف المتقدم والجبهة الأمامية، ولها موقع القلب في هذا الصدام. ولا شك أن إسرائيل هي أسعد حظاً بهذا الصدام بين الحضارات. ويحاول الإسرائيليون جعل هذا الطرح يتحدد وينحصر في نطاق العالمين الإسلامي والغربي، بدون الالتفاف إلى الحضارات الأخرى السبع أو ألثمان التي أشار إليها هنتنغتون، والذي يشترك معهم في التركيز على عالم الإسلام ضمن دائرة صدام الحضارات مع الغرب، ولكن ينفرد عنهم بإضافة الاهتمام إلى الصين القوة العالمية الصاعدة من خارج مدنية الغرب وحداثته، والمغايرة لإيديولوجيته الفكرية والفلسفية، ولنظامه القيمي والأخلاقي.
فالإسرائيليون ومنهم موريس والتيار الفكري الذي يمثله، وجدوا ضالتهم في مقولة صدام الحضارات، لكي يشتغلوا على تكريس الفروقات والخصومات بين عالم الإسلام وعالم الغرب، ويقطعوا الطريق على أية محاولة تساهم في تطوير مستويات العلاقة والتفاهم بين هذين العالمين1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 28 يناير 2004م، العدد 13668.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى