يجيب المقريزي بقوله كان التشييع معروفا بأرض مصر قبل ذلك. و ينقل رواية الكندي في كتاب “الموالي” عن عبد الله بن لهيعة أنه قال، قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر و هي علوية فقلبتها عثمانية1.
و يذكر لنا التاريخ ثورة محمد بن أبي حذيفة في مصر عام 35 هـ و التي خلع فيها والي عثمان عقبة بن عامر و جمع الناس و ألبهم على عثمان و دخل في صدام مع أنصاره في مصر و حبس بعضهم بعد أن تمكن منهم و هم ” بسر بن أرطأه ” و ” معاوية بن خديج “. ثم بعث ابن أبي حذيفة بقوة إلى عثمان بالمدينة ساهمت في الثورة عليه و قتله 2. وحين عادت القوة إلى مصر بعد مصرع عثمان دخلت البلاد و هي ترتجل:
خذها إليك واحذرن أبا الحسن
إنا نمر الحرب إمرار الوسن
بالسيف كي تخمد نيران الفتن
فلما دخلوا المسجد صاحوا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله 3.
و كان من أمر شيعة عثمان أن جمعوا صفوفهم و انطلقوا إلى معاوية و بايعوه على الطلب بدم عثمان. فسار بهم معاوية إلى الصعيد و هزم أصحاب ابن أبي حذيفة.
و بعث ابن أبي حذيفة بجيش آخر عليه قيس بن حرمل فاقتتلوا في (خربتا) أول شهر رمضان عام 36 هـ فقتل قيس و سار معاوية إلى مصر فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر فمنعوه أن يدخلها ثم حدث اتفاق بين الطرفين على أن يسلم قادة الشيعة الثلاثة أنفسهم لمعاوية كرهائن إلى حين يتم القبض على قتلة عثمان إلا أن معاوية غدر بالقادة الثلاثة و استولى على مصر 4. و لما بلغ علي بن مصاب أبي حذيفة بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مصر فدخلها سنة سبع و ثلاثين و استمال الخارجين بأهل خربتا و مصر يومئذ من جيش علي إلا أهل خربتا الخارجين بها 5.
ثم أوقع معاوية بين قيس و الإمام علي. و تم عزل قيس و تولية محمد بن أبي بكر الذي لم يتمكن من الصمود أمام جيش معاوية بقيادة عمرو بن العاص و سقط قتيلا في عام 38 هـ و لم يمكث في الحكم سوى خمسة أشهر 6.
و يبدو أن محمد بن أبي بكر استفز القوم في مصر كما لم يتمكن من التصدي لهذا التحدي الخارجي القادم من الشام بالإضافة إلى مواجهة الفتن في الداخل.
و بعد سقوط بني أمية و قيام دولة بني العباس ظهرت دعوة بني حسن بن علي بمصر و تكلم الناس بها. و بايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله و كان أول علوي قدم مصر و قام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن حبيش الصو في من خاصة الإمام علي و شيعته و حضر الدار في قتل عثمان 7. و ما زالت شيعة علي بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق فأخرجوا في رجب عام 236 هـ .
واستتر من كان بمصر على رأس العلوية. و قام يزيد بن عبد الله أمير مصر يومئذ بتتبع الروافض و حملهم إلى العراق.
و مات المتوكل و جاء المستنصر فورد كتابه إلى مصر بألا يقبل علوي ضيعه و لا يركب فرسا و لا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها. و أن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد. و من كان بينه و بين أحد من الطالبيين خصومة قبل قول خصمه فيه و لم يطالب ببينة 8. و جاء المستعين و استمرت سياسة التهجير لشيعة مصر من الطالبيين.
و هذه السياسة التي مارستها حكومات بني العباس ضد أبناء آل البيت في مصر إنما كان الهدف منها القضاء على الوجود الشيعي في مصر بنفي قيادات الشيعة و العناصر الفاعلة في دائرتها ليتم عزل جماهير الشيعة تمهيدا لاحتوائها و تصفيتها.
و في عام 252 هـ قامت ثورة شيعية بالإسكندرية بقيادة جابر بن الوليد المدلجي و اجتمع إليه خلق كثير من بني مدلج و هزم جيش العباسيين و قوي أمره و أتاه الناس و تمكن من السيطرة على الوجه البحري. إلا أن هذه الثورة لم تنجح 8.
ثم حدثت ثورة أخرى صغيرة قادها بغا الأكبر – يمتد نسبه إلى الحسين – في الصعيد. و قامت بعدها ثورة أخرى قادها بغا الأصغر فيما بين الإسكندرية و برقة في عام 255 هـ. في عهد ابن طو لون و سار في جمع إلى الصعيد لكنه قتل.
و ثار ابن الصو في العلوي في الصعيد و استولى على إسنا و هزم جيش ابن طو لون لكنه هزم في إخميم و فر إلى مكه و قبض عليه ابن طو لون بعد ذلك.
و في عهد خمارويه بن أحمد بن طو لون ظهر رجل ينكر أن أحدا خيرا من أهل البيت فوثب عليه العامة و ضرب بالسياط في عام 285 هـ 8.
و حدث صدام بين جمع من الأهالي و الجند أمام الجامع العتيق – جامع عمرو – بسبب لوحة على باب الجامع ذكر فيها الصحابة و القرآن. و أراد الأهالي خلعها فتصدى لهم الجند و وقعت إصابات في الجانبين 8.
يقول المقريزي: و ما زال أمر الشيعة يقوى في مصر إلى أن دخلت سنة 350 هـ ففي يوم عاشوراء وقعت منازعة بين الجند و بين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف و النوح و قتل فيها جماعة من الطرفين. و تعصب السودان – الجنود – على الرعية فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا: من خالك.؟ فإن لم يقل معاوية بطشوا به وشلحوه. ثم كثر القول: معاوية خال علي 8.
و كان على باب الجامع العتيق شيخان من العامة يناديان في كل يوم جمعة في رجوة الناس من الخاص و العام: معاوية خالي و خال المؤمنين و كاتب الوحي و رديف رسول الله – و هذا أحسن ما يقو لونه – و إلا فقد كانوا يقو لون: معاوية خال علي من ها هنا – و يشيرون إلى أصل الأذن – و يلقون أبا جعفر الحسيني فيقو لون له ذلك في وجهه. و كان بمصر أسود يصيح دائما: معاوية خال علي فقتل بتنيس أيام القائد جوهر 8.
و قد قام خصوم الشيعة في مصر بمظاهرة في عهد كافور الأخشيدي يطالبونه فيها بنصرة إخوأنهم الذين ثار عليهم الطالبيين بمكة 8.
و استمرت مطاردة الشيعة و ضربهم كلما ظهرت لهم شعيرة أو ارتفع لهم صوت و ضرب رجل شيعي بالسياط و جعل في عنقه غل و حبس حتى مات و أراد العامة نبش قبره إلا أن جند كافور منعوهم.
و في عام 356 هـ كتب على المساجد ذكر الصحابة و التفضيل أي تفضيل أبي بكر على علي. لكن كافور أمر بإزالته.
و مثل هذا السرد التاريخي إن دل على شئ فإنما يدل على أن الشيعة كان لها وجودها البارز و الفعال على الساحة المصرية و في قلب القاعدة الشعبية. و هذه الوقائع تشهد على هذا فهي رد فعل سني تجاه هذا التواجد المستفز لهم.
بين العباسيين و الفاطميين
و بعد سقوط الأخشيديين و دخول الفاطميين مصر ظهر مذهب التشيع و أذن في مساجد مصر الجامعة و غيرها: حي على خير العمل. و بدأت الشعارات الشيعية تبرز على ساحة الواقع و منها الجهر بأفضلية علي و الصلاة عليه و على الحسن و الحسين و فاطمة.
و دارت الدائرة و هم جوهر الصقلي بإحراق رحبة الصيارفة بسبب تظاهرهم ضد الحكومة رافعين شعار: معاوية خال علي 8.
و صدر الأمر بالجهر بالبسملة و كتب على سائر الأماكن في مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم علي. و أمر بالصوم و الفطر على مذهب الشيعة. و قطعت صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية 8.
و في ربيع 385 هـ جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسي بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت. و تسارع الناس إلى الدخول في الدعوة فقدموا من سائر النواحي و الضياع فكان للرجال يوم الأحد و النساء يوم الأربعاء. للأشراف و ذوي الحاجة يوم الثلاثاء. و تزاحم الناس على الدخول في الدعوة فمات عدة من الرجال و النساء 8.
و لم تواجه جماهير السنة في مصر أية ضغوط من قبل الدولة الفاطمية لإجبارها على التخلي عن مذهبها كما أشاع خصوم الفاطميين. و أنما الجماهير هي التي زحفت طواعية نحو دعوة آل البيت حتى تحول أنصار مذهب السنة إلى أقلية.
و قد كانت الحرب الدعائية على أشدها ضد الفاطميين من قبل العباسيين في بغداد. و من صور هذه الحرب إعلان العباسيين وثيقة وقع عليها وجهاء من السنة.
و الشيعة تدعي بطلان دعوى الفاطميين في الانتساب إلى آل البيت 9.
و قد تأثرت الكتابات التاريخية التي رصدت تلك الفترة بهذه الحرب و أنحازت إلى صف العباسيين السنة. و برز هذا الأمر بوضوح بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين 10.
و يدافع المقريزي عن حملات التشكيك التي وجهت للفاطميين في مسألة نسبهم لآل البيت و محاولة نسبتهم لليهود و المجوس.
يقول المقريزي: و هذه أقوال إن أنصفت يتبين لك أنها موضوعة. فإن بني علي قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد و جلالة القدر عند الشيعة. فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم و الدعاء لابن مجوس أو لابن يهودي. فهذا مما لا يفعله أحد و لو بلغ الغاية في الجهل و السخف. و أنما جاء ذلك من قبيل ضعفة خلفاء بني العباس عندما غضوا بمكان الفاطميين. و أسجل القضاء بنفيهم من نسب العلويين و شهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان الرضي و المرتضى و أبو حامد الإسفراييني في عدة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة 402 هـ أيام القادر. و كانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر و عرف بين الناس ببغداد و أهلها إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب و المتطيرون من بني علي الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القبيحة. فنقل الأخباريون و أهل التاريخ. ذلك كما سمعوه و رووه حسبما تلقوه من غير تدبر 11.
الفاطميون و مصر
لم تستفد مصر من و لاتها الذين حكموها منذ الفتح الإسلامي قدر ما استفادت و أنتفعت من الفاطميين على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و العلمية و أن بناء القاهرة و الجامع الأزهر لهما خير دليل على ذلك.
و التاريخ يحدثنا عن نهضة واسعة في الحياة الفكرية و الأدبية في العصر الفاطمي كما يحدثنا عن ازدهار العلوم الفلسفية و الرياضيات و الفلك و التنجيم و الطب.
و يقول الدكتور محمد كامل حسين: في العصر الفاطمي نرى تطورا جارفا في الحياة الفكرية و لا سيما في العلوم الفلسفية على اختلاف ألو أنها وفنونها. إذ ازدهرت هذه العلوم ورعاها الخلفاء الفاطميون. بل كان هؤلاء الخلفاء من العلماء المبرزين في بعض هذه العلوم. وخاصة في الإلهيات والفلك و قد اهتم الفاطميون برصد النجوم واهتموا بعلماء الرياضيات اهتماما خاصا كما اهتموا بالشعر واتخذوه وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية. و كان الفاطميون أساتذة فن الدعاية واتخذوا لها كل الوسائل الممكنة في عصرهم وجندوا للدعاية كل من يفيدهم في هذا المضمار و لا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد.
أو اهتمت بهم هذا الاهتمام فلا غرو إذا إن ازدهر الشعر المصري ازدهارا لم يعرف من قبل 12. و يقول الدكتور عبد المنعم الماجد:. ويرجع الفضل إلى الفاطميين في خلق أهمية مركز مصر الدولي للتجارة. إذ أنهم عرفوا مزايا الموقع الجغرافي لمصر في مفترق القارات لتربط بين عالمين ولكي يسهل الفاطميون نقل التجارة بين الشرق والغرب فتحوا القنال بين النيل والبحر الأحمر وهو ما عرف في عهد المستنصر بالخليج الحاكمي نسبة إلى الحاكم بأمر الله 13. و قد ذكر الرحالة ناصر خسرو عندما مر بمصر في تلك الفترة: أن المصريين كانوا في حالة حسنة جدا. و أنه رأى أموالا يملكها بعض المصريين لو ذكرها أو وصفها لما صدقه أحد. فهي لا تقع تحت تحديد أو حصر. و هي للنصارى والمسلمين على السواء. (23)
وذكر أيضا: و قد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع: الأول بالدشت أيام نشكر خان. والثاني بالديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن بن محمد. فلم أسمع على كثرة ما سافرت بهذه الجهات عن الأمن و لم أره 8.
لقد أصبحت مصر لأول مرة في التاريخ مركز الحكم والتوجيه وتحولت القاهرة إلى عاصمة للعالم الإسلامي كما أصحبت منارة العلم وقبلة المتعلمين وذلك بفضل الفاطميين الشيعة. و كانت الدولة الفاطمية تمتد من أقصى المحيط الأطلسي إلى الفرات وبلغت دعوتها إلى أقصى انتشارها ووصل غناها إلى الذروة. وهكذا كان حال الدولة الفاطمية حين تسلمها المستنصر بالله الخليفة الثامن من خلفاء الفاطميين 8.
و كانت الدولة الفاطمية في خلافة الظاهر والد المستنصر في غاية الاستقرار والرفاهية و لاجل ذلك مال الظاهر إلى الدعة والراحة و لما جاء المستنصر ركن إلى هذا الحال 8.
و قد ازدهرت الحركة العمرانية في عهد الفاطميين كما ازدهرت صناعة النسيج واشتهرت مصر بصناعة أنواع خاصة من النسيج. و كانت الحكومة تقوم بكسوة موظفيها في الصيف و الشتاء و كسوة العامة من الفقراء و المحتاجين 8.
و لم تكن المواكب المترفة غاية الترف التي كانت تخرج في شوارع القاهرة في المناسبات الدينية كعيد الفطر والأضحى وبداية رمضان وكذلك في عيد ميلاد الخليفة – هذه المواكب تشير في دلالة واضحة إلى حالة الرخاء والسعة التي كانت تعيشها في تلك الفترة.
وجميع أفراد الشعب كانوا يتأنقون لهذه المواكب فيلبسون أغلى الملابس وأروعها و التي كانت تصنع في دور الطرز المصرية. و هي أماكن لصناعة الملابس أغلبها مذهبة. يشملها زي مصري عام ذو أكمام واسعة. و قد بلغت الناس غاية التأنق في عهد الظاهر 14.
و كان الخليفة العزيز يقول: أحب أن أرى النعم عند كل الناس ظاهرة. وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر. ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار. و أن يكون ذلك كله من عندي 8.
ويروي المؤرخون الكثير عن عدل المستنصر ورحمته بالناس فقد كان يعطي الدواء لمن يطلبه المجان ويخالط الناس ويسمع شكواهم و قد أحبته الرعية حبا شديدا 15.
كما يروى أن النفقة على قافلة الحج في عهد المستنصر بلغت مائتي ألف دينار و لم تبلغ هذه النفقة مثل ذلك في دولة من الدول حيث كانت تشمل ثمن الطيب والشمع والحماية والصدقة وأجرة الجمال ومعونة خدم القافلة و من يسير معها من العسكر الذين بلغت نفقاتهم في عهد المستنصر ستين ألف دينار زيادة على مرتباتهم أو ألف دينار في اليوم 16.
و قد أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة أو دار العلم في عام 395 هـ و زودها بالكتب من كل نوع في العلوم و الآداب و العقائد و كان الطلاب يفدون إليها من شتى الأقطار. فكانت أشبه بجامعة تتكون من عدة كليات. و كانت خزانة الكتب في زمن المستنصر لا نظير لها في جميع بلاد الإسلام و هي تتكون من أربعين خزانة فيها أكثر من مائتي ألف كتاب و عدد كبير من الكتاب و النساخ 8.
و بلغ عدد المساجد في مصر آنذاك ستة و ثلاثون ألف مسجد في جميع المدن و القرى و لكل مسجد يقع في حدود الدولة من الشام إلى القيرو أن نفقات يقدمها الخليفة المستنصر من زيت و حصير و سجاجيد للصلاة و رواتب للقوام و الفراشين و المؤذنين و غيرهم 8.
و اعتاد خلفاء الفاطميين أن يقيموا في قصورهم الولائم الفاخرة في الأعياد لعامة الناس حيث تقدم لهم الفطرة و هي حلوى من دقيق و فستق و لوز و بندق و تمر و زبيب و عسل و هي تنشر كالجبل الشاهق على مائدة طويلة بالإيو أن الكبير 17.
و في عيد الأضحى كان الخليفة ينحر بنفسه الأضاحي إيذانا منه ببدء النحر.
و كانت تنحر في فترة العيد ما يزيد على الألف رأس توزع لحومها على الموظفين و طلبة العلم و القائمين بشئون الجوامع 18.
إن الدولة الفاطمية التي استقرت بمصر فكانت أوفرها بين الدول بهاء و أبقاها أثرا و ما زال الجامع الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع يقوم منذ ألف عام أثرا خالدا و رمزا باهرا لهذا العصر الزاهر و هذه الدولة المستنيرة العادلة. و ربما كان العصر الفاطمي بين عصور مصر الإسلامية الغابرة أجودها من هذه الناحية بالدرس و التمحيص و أحفلها بالمواقف الشائقة و أكثرها سحرا و فتنة و أبعثها إلى التأمل و العطف لأن الخلافة الفاطمية بالرغم مما كان يحيق بأصولها و أمامها من الريب فقد كانت بنظمها الطريفة و رسومها الفخمة و خلالها الباهرة تنثر من حولها فيض من العظمة و البهاء و تطبع العصر بطابع عميق من روحها الباذخ كما يحدثنا التاريخ 19.
و في أيام هذه الدولة أخذت أنوار الحضارة الإسلامية تنبثق من هذه المدينة الزاهية على أرجاء الأرض. و أخذ الفن المصري الإسلامي يتألق في جميع نواحيه. و في رعاية هذه الدولة وثبت العمارة الإسلامية وثبة قوية حتى قاربت الكمال لأن خلفاءها تباروا في إنشاء و تأسيس المساجد الكبرى و الحصون و القصور و المناظر و الحدائق و البساتين. و في هذا العصر الزاهي انتشر الزخرف في واجهات المساجد و أنتعش التصوير و نبغ المصورون و ترقت و دقت صناعة الجص و الأخشاب. و كانت أيامهم كلها أعيادا بما ابتكروه من حفلات جمعت بين جلالة الملك و طرب الشعب و بهجته 20.
مواسم الفاطميين
اشتهر العصر الفاطمي بكثرة المواسم و الاحتفالات و الإنفاق ببذخ عليها. و قد تفاعل المصريون مع هذه الإحتفالات و المناسبات و أحبوها لما كانت تمثله بالنسبة لهم من أهمية معنوية و ترفيهية بالإضافة إلى أهميتها الاقتصادية حيث كانت توزع فيها العطايا من أموال و كسوة و طعام.
و أهم هذه المناسبات التي كان يحتفل بها الفاطميون. مناسبة رأس السنة الهجرية و مناسبة عاشوراء. و مولد النبي (ص) و عيد الفطر وعيد النحر (الأضحى) و ليلة النصف من شعبان و مولد الإمام علي و مولد الحسن و مولد الحسين و مولد فاطمة و أول رمضان و عيد الغدير و موسم فتح الخليج و كسوة الشتاء و كسوة الصيف و يوم النيروز و ليلة أول رجب و نصفه و ذلك غير المناسبات الأخرى الخاصة بخلفاء الفاطميين 21.
و قد توقفت معظم هذه الإحتفالات بعد سقوط الفاطميين و لم يبق إلا القليل منها مما تبنته الدول التي قامت بعدهم. و تبنته الطرق الصوفية توقف الاحتفال بمولد أئمة آل البيت عدا مولد الحسين. كما توقف الاحتفال بعيد الغدير و كسوة الشتاء و الصيف و عاشوراء و شهر رجب. و بقي الاحتفال بليلة النصف من شعبان و رمضان اختصت به الطرق الصوفية. أما الاحتفال برأس السنة الهجرية و مولد النبي و عيد الفطر و الأضحى فقد تبنته الدول الأيوبية و المملوكية و العثمانية و استثمرته إعلاميا و دعائيا لصالحها غير أنها قامت بتغيير تواريخ الاحتفال بهذه المناسبات و التي كانت من وضع الفاطميين 22.
و لا تزال هذه النظم الفاطمية سائدة في مصر حتى اليوم بالنسبة للاحتفالات الخاصة بالمناسبات التي لا زالت باقية. مثل الموالد و ليلة النصف من شعبان و رأس السنة الهجرية و عاشوراء التي غير جوهر الاحتفال بها من الحزن إلى الفرح نكاية بالفاطميين الشيعة الذين كانوا يتخذون من يوم عاشوراء يوم حزن بسبب المذبحة التي وقعت لأبناء الرسول بكربلاء في يوم العاشر من محرم.
و كان الاحتفال بعاشوراء زمن الفاطميين تتعطل فيه الأسواق و يعمل فيه السماط العظيم المسمى بسماط الحزن و كان يصل إلى الناس منه شئ كثير 18.
يروي المسبحي: و في يوم عاشوراء (بداية من عام 396 هـ ) جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق و خروج المنشدين إلى جامع القاهرة (الأزهر) و نزولهم مجتمعين بالنوح و النشيد 23.
و كان إذا جاء يوم العاشر من محرم يحتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة و الشهود و قد غيروا زيهم. ثم صاروا إلى المشهد الحسيني و كان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر. فإذا جلسوا فيه و من معهم من القراء و المتصدرين في الجوامع جاء الوزير فجلس صدرا و القاضي و الداعي من جانبيه و القراء يقرأون نوبة نوبة. و ينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرا يرثون به أهل البيت (ع) فإن كان الوزير رافضيا – هكذا يقول المقريزي – تغالوا و أن كان سنيا اقتصدوا. ثم يستدعون بعد ذلك إلى القصر حيث يجلسون و يقرأ القراء و ينشد المنشدون أيضا. و يفرش سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس و الملوحات و المخللات و الأجبان و الألبان و الأعسال و الفطير و الخبز المغير لونه – إلى السواد – بالقصد – أي عمدا – و يأكل الجميع من الناس على اختلاف طبقاتهم. فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه. و طاف النواح بالقاهرة ذلك اليوم. و أغلق البياعون حوأنيتهم إلى جواز العصر. فيفتح الناس بعد ذلك و يتصرفون 18.
و لما زال حكم الفاطميين اتخذ ملوك بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم و يصنعون الحلاوات و يتخذون الأو أني الجديدة و يكتحلون و يدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مرو أن ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن على الحسين 8.
أما يوم الغدير فيوافق الثامن عشر من ذي الحجة و هو يوم وقف الرسول (ص) بغدير خم في حجة الوداع و خطب في الصحابة و أوصى بالإمامة لعلي 24.
و في هذه المناسبة كانت تزوج الأيامى و توزع فيه الكسوة و تفرق الهبات و فيه تنحر الماشية و تعتق الرقاب 25.
و في عيد الفطر يركب الخليفة لصلاة العيد و تفرق الكسوة و يعمل السماط و كذلك في عيد الأضحى الذي تفرق فيه الأضاحي بالإضافة إلى الكسوة و الأموال على أرباب السيف و القلم 8.
و كان الفاطميون بالإضافة إلى ذلك يحتفلون بعيد النيروز و يوزعون فيه أصناف الحلوى 26.
و في الاحتفال برأس السنة الهجرية كان الخلفاء يقيمون الولائم و يوزعون الحلوى و يحضر الاحتفال رجال الدولة و أصحاب الرتب و جميع أرباب السيوف و الأقلام 8.
و في فصل الشتاء كانت توزع كسوة الشتاء و في فصل الصيف كانت توزع كسوة الصيف على أهل الدولة و على أو لادهم و نسائهم 8.
إن هذه الإحتفالات إنما كانت تعكس الحالة الاقتصادية السائدة في العصر الفاطمي و هي حالة على ما يبدو من هذه الإحتفالات تدل على رغد العيش و اتساع الأرزاق.
الفاطميون والصليبيون
من بين المطاعن التي وجهت للفاطميين إقامة علاقة مع الصليبيين أعداء المسلمين و قد استغل هذا المطعن في تشويه الفاطميين و إثارة الشبهات من حولهم. خاصة أن هذا المطعن قد استخدم كوسيلة لتأكيد عداء الفاطميين للمسلمين و ميلهم للصليبيين على أساس عقيدتهم الباطنية المعادية للإسلام.
و بات هذا الأمر حقيقة مسلم بها عند الجميع بحيث غطى على كل مآثر الدولة الفاطمية و أنجازاتها.
من هنا استبيحت الدولة الفاطمية و حكامها من قبل المؤرخين الذين رصدوا تاريخها و وقائعها بمنظار الشك وأعلنوا براءتهم منها و كفرهم بها. حتى إن بعض المؤرخين رفض التأريخ لدولتهم في كتاب له حوى تاريخ الخلفاء 27.
و الحق أن اتهام الفاطميين بالعمالة للصليبيين كاتهامهم بالزندقة و الباطنية و التشكيك في انتسابهم لشجرة آل البيت و اتهامهم بتزوير نسبهم هذا كل هذه تهم ابتدعت لأغراض سياسية الهدف منها الحط من الفاطميين و القضاء على دعوتهم و نفوذهم بين المسلمين بسبب تبنيهم الخط الشيعي.
إن القضية في الحقيقة هي أكبر من مجرد الاتهام بالتعاون مع الصليبيين. إنها قضية الصراع بين السنة و الشيعة.
السنة ممثلة في الدولة العباسية آنذاك و الشيعة ممثلة في الدولة الفاطمية المواجهة لها.
و محاولة حصر القضية في دائرة العمالة للصليبيين يعد سطحيا لحركة التاريخ و تعتيما على أحداثه.
لقد قاد العباسيون حملة التشويه و الطعن في الفاطميين الذين سلبوهم مركز الريادة و القيادة في العالم الإسلامي بل و كادوا أن يسقطوا دولتهم و يوحدوا المسلمين تحت روايتهم لو لا ظهور القرامطة و السلاجقة 28.
إن العباسيين هم الذين شهروا سلاح السنة في مواجهة الفاطميين و زجوا بالفقهاء في المواجهة حتى يضفوا طابع الشرعية على حربهم السياسية ضد الفاطميين. و يبدو هذا بوضوح من خلال المنشور الذي أصدره العباسيون ينفون فيه نسب الفاطميين و وقع عليه كثير من الفقهاء و الرموز الإسلامية السنية البارزة آنذاك 29.
و مسألة التعاون مع الصليبيين أو الإفرنج حين ظهروا في بلاد المسلمين لا تقتصر على الفاطميين إن صح نسبتها لهم و أنما هناك صور كثيرة لهذا التعامل برزت في بلاد الشام في وجود الفاطميين و في عهد الأيوبيين.
فلماذا أثيرت هذه التهمة حول الفاطميين وحدهم و أغفل الباقون؟
والجواب واضح لقد جعلت حالة العداء الكامنة في نفوس المؤرخين السنة تجاه الشيعة جعلتهم يتصيدون الأخطاء و ينسبون المواقف و يثيرون الشبهات حول الفاطميين. و قد أعماهم الحقد على الشيعة عن معرفة الحقيقة و وضع الأمور في نصابها و الفحص و التحقق في الروايات التي تنسب للفاطميين ما لا يعقل و ما يخرج عن حدود الخلق العلمي 30.
و لا يزال البعض إلى اليوم يتناقل الفرية التاريخية التي تقول إن الشيعة يقدمون عليا على محمد. و يقولون إن جبريل أخطأ في الرسالة و بدلا من أن يهبط على علي هبط على محمد 31.
إن التاريخ يقص علينا مواقف خالدة و مشرفة للفاطميين في مواجهة الصليبيين من قبل ظهور آل زنكي و صلاح الدين.
يروي ابن الأثير عن أحداث عام 387 هـ . أنه قد وقعت فيها معركة كبيرة بين جيش برجو أن الفاطمي قائد جيوش الحاكم بأمر الله و جيش الدوقس الرومي و أنهزم فيها الدوقس و دخل جيش الفاطميين أنطاكية 32.
و في هذا العام يروي ابن الأثير أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله برز لغزو الروم إلا أنه تو في في الطريق بمدينة بلبيس 33.
و في عام 491 هـ استولى الفرنج على بيت المقدس في عهد الخليفة المستعلي بالله و سير الأفضل بن بدر الجمالي وزير الآمر بأحكام الله ابن المستعلي الجيوش إلى الفرنج عام 498 هـ فقهرهم و أخذ الرملة و دارت بينهم معارك طاحنة لكنه لم ينجح في إخراجهم من القدس و عكا و يافا و عاد إلى عسقلان. و كان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش 34.
و في عام 503 هـ ملك الفرنجة طرابلس و أنطلق الأسطول المصري محملا بالرجال و الغلال و المال و غيره ما يكفي لسنة و فرقت المؤن هذه و الذخائر في الجهات المنفذة إليها صور و صيدا و بيروت 35.
و في عام 504 هـ قام والي عسقلان من قبل الفاطميين بمراسلة الفرنج و هادنهم و تحصن بهم في مواجهة دولته. و جهز الأفضل جيشا و سيره نحو عسقلان. و وثب أهل عسقلان على الوالي و قتلوه و بذلك انتهت الفتنة و أنقذت عسقلان 36.
و في عام 508 هـ حاصر الفرنج صور فجهز الأفضل أسطو لا و سيره إلى صور فاستقام أحوال أهلها و صمدوا في مواجهة الفرنجة 37.
هذا هو حال الفاطميين مع الصليبيين حتى ظهر آل زنكي و تصدوا لهم و ملكوا الشام و بدأت الدولة الفاطمية تضعف في مصر حتى سقطت في قبضة الأيوبيين عام 568 هـ .
و سوف نعرض هنا لقصة التعاون المزعوم بين الفاطميين و الصليبيين كما وردت في كتب التاريخ المعتمدة.
في عام 558 هـ و بعد مصرع الصالح طلائع الرجل القوي في جهاز الحكم الفاطمي في عهد الخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين. تولى الوزارة من بعده ولده زريك الذي لقب بالعادل و سار على نفس سيرة والده الحازمة في مواجهة الانحرافات و الفساد داخل جهاز الدولة. و كان أن تصدى العادل لنفوذ شاور الذي كان واليا على الصعيد و أراد عزله فسار شاور بجيشه نحو القاهرة و فر العادل من أمامه و ظفر به شاور و قتله و أصبح مكانه في الوزارة و لقب نفسه بأمير الجيوش و كان سافكا للدماء مكروها. إلا أن الجو لم يصفو لشاور فقد ظهر في مواجهته رجل قوي و هو الأمير ضرغام من أتباع زريك و نازع شاور و دارت بينهما معارك انهزم فيها شاور و فر إلى الشام. و هناك أطمع نور الدين محمود في غزو مصر فجهز معه شيركوه و صلاح الدين و العساكر عام 558 هـ . و دارت معارك بينهم و بين ضرغام انتهت بهزيمته و مقتله. و دخل شاور القاهرة ثانية تحت راية الأيوبيين آل زنكي. ثم حدث خلاف و صدام بين شاور وشيركوه قام شاور على أثره بالاتصال بالإفرنج التي قدمت و حاصرت القاهرة و فر منها أسد الدين شيركوه و صلاح الدين و عاد شاور إلى القاهرة للمرة الثالثة تحت راية الصليبيين. و أقام بها على عادته بظلم الناس و قتلهم و مصادرة أموالهم و لم يبق للعاضد معه أمر و لا نهي.
و هنا لجأ العاضد إلى نور الدين محمود و أرسل إليه يستنجده فعاد شيركوه إلى مصر و أنهزم الفرنج وقتل شاور بعد أن أحرق الفسطاط و نقض العهد مع شيركوه 38.
هذه هي قصة تعاون الفاطميين مع الصليبيين التي ضخمها المؤرخون و اعتمدوا عليها في تشويه الفاطميين. و هي على ما تبدو مسألة صراع سياسي لا صلة له بالعقيدة تزعمها مارق لا دين له هو شاور الذي كان يتحرك من خلال مصلحته الخاصة و ليس من خلال الشيعة أو الدولة الفاطمية.
و ها هو الخليفة العاضد ممثل الدولة يستنجد بنور الدين السني لينقذ بلاده من شاور والإفرنج الصليبيين. ثم إنه بعد أن تم له التخلص من خطر الإفرنج و شاور خلع على شيركوه الوزارة مع أنه سني و توفي شيركوه بعد فترة قصيرة فنصب الخليفة من بعده صلاح الدين وزيرا. إلا أن صلاح الدين تآمر على العاضد حتى قضى عليه و على عائلته و بذلك انتهى حكم الفاطميين في مصر. مما دفع ببقايا الفاطميين إلى التآمر عليه و محاولة الاتصال بالإفرنج لدفعه إلى الخروج من القاهرة بجنده و الاستيلاء على المدينة إلا أن هذه المؤامرة تم كشفها 39.
و هذه الحادثة الثانية ليست إلا رد فعل لمؤامرة صلاح الدين على الفاطميين و بطشه بالشيعة في مصر على ما سوف نبين.
و مثل هذه المواقف و غيرها مما ينسب للفاطميين إنما هي مواقف سياسية بحتة لا صلة لها بالمذهب الشيعي و لا يجوز تحميلها على أساس عقائدي. فإن السياسة كثيرا ما تتمرد على الدين و إذا ما حاولنا ضبط مواقف الخلفاء – سنة و شيعة – بضوابط الإسلام فسوف نجد تناقضا كبيرا. خاصة خلفاء بني أمية و بني العباس 40.
و الفاطميين على الرغم من نجاحهم في تحويل المصريين من السنة إلى الشيعة ليتحول الشيعة إلى أغلبية في مصر. رغم ذلك لم يضطهدوا المذهب السني. بل كان له وجوده و نشاطه. حتى إن بعض فقهاء المالكية و الشافعية تو لوا مناصب في الدولة مثل القاضي أبي عبد الله القضاعي الشافعي 41.
و لعل هذا ما دفع بالقلقشندي أن يقول: إن مذهبي مالك و الشافعي ظاهري الشعار في زمن الفاطميين 42.
و لو كان الفاطميون باطنية و زنادقة و يضمرون العداء للإسلام و المسلمين كما يدعون فلما ذا تسامحوا مع المذاهب الأخرى و هي واقعة في دائرة نفوذهم؟
يقول الدكتور عبد المنعم الماجد: لا بد لنا أن نقر أن الدعوة – الشيعية – أيام المستنصر نجحت إلى حد لم يسبق لها. و أن المسلمين من غير الشيعة و القبط. كانوا يتمتعون بحريتهم المذهبية و العقيدية إلى حد كبير 43.
شهادة المؤرخين للفاطميين
إن القارئ المتتبع لتاريخ الفاطميين يظهر له التناقض الواضح في مواقف المؤرخين من خلفائهم. ففي الوقت الذي يتهمهم فيه المؤرخون بالزيغ و الضلال و فساد العقيدة و ينفون نسبهم لآل البيت و ينعتونهم بالعبيديين نسبة إلى عبيد الله المهدي مؤسس الدولة في بلاد المغرب. هذا الموقف العدائي نجد أمامه موقف آخر يحمل المدح والثناء على لسان نفس المؤرخين لخلفاء الفاطميين.
يقول ابن الأثير: و كان المعز عالما فاضلا جوادا شجاعا جاريا على منهاج أبيه من حسن السيرة و أنصاف الرعية. وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة. ثم أظهره و أمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به 44.
و يقول ابن إياس: و كان المعز رجلا عادلا عاقلا حازما لبيبا فصيحا شاعرا و له شعر جيد فمن ذلك قوله:
ما با من عذري فيك حتى عذرا *** و بدا البنفسج فوق ورد أحمرا
همت بقبلته عقارب صدغه *** فاستل ناظره عليها خنجرا
و يقول ابن الأثير عن العزيز بالله: كان يحب العفو ويستعمله. و كان حليما كريما شجاعا و فيه رفق بالرعية 45.
و يقول ابن إياس: و كان العزيز يحب العدل في الرعية. و ينصف المظلوم من الظالم. و كان كريما جوادا ممدوحا. فأحبته الرعية وصفا له الوقت بالديار المصرية و كان خيار بني عبيد قاطبة 46.
أما الحاكم بأمر الله الخليفة الثالث فقد قال عنه ابن إياس: فلما تولى الخلافة أظهر العدل بين الرعية و سار في الناس سيرة حسنة 47.
و يقول ابن الأثير عن الخليفة الظاهر لدين الله: و كان جميل السيرة حسن السياسة منصفا للرعية 48.
و تولى من بعد الظاهر المستنصر بالله و كان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمالي الملقب بالأفضل أمير الجيوش و كان عادلا حسن السيرة 8.
و يقول ابن إياس عن الخليفة الثامن الحافظ لدين الله: و كان الحافظ لدين الله رجلا حليما لين الجانب. قليل الأذى 49.
و يقول ابن كثير عن آخر الخلفاء الفاطميين العاضد: و كان العاضد كريما جوادا سامحه الله 50.
و يقول ابن إياس عنه: و به انقرضت دولتهم. و لم يكن لها من المساوئ سوى أنهم كانوا رافضة يسبون الصحابة كل يوم جمعة على المنابر 49.
و كان لموت العاضد بمصر يوم عظيم إلى الغاية و عظم مصابه على المصريين إلى الغاية ووجدوا عليها وجدانا عظيما لا سيما الرافضة فإن نفوسهم كادت تزهق حزنا لانقضاء دولتهم من ديار مصر و أعمالها 51.
و كما أن المؤرخين أثنوا على الخلفاء الفاطميين. أثنوا أيضا على وزرائهم وقادة جيوشهم.
يقول ابن الأثير عن جوهر الصقلي فاتح مصر و باني القاهرة و كان يظهر الإحسان إلى الناس و يجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم بحضرة الوزير و القاضي و جماعة من أكابر الفقهاء و لم يبق بمصر شاعر إلا رثاه و ذكر مآثره حين موته 52.
و يقول أيضا عن الأفضل بن أمير الجيوش كان حسن السيرة عادلا. و قد قتل في عام 515 هـ من قبل الإسماعيلية لتبنيه المذهب الشيعي الإمامي و تضييقه على الخليفة الآمر بأحكام الله و توسعته على أهل السنة و النهي عن معارضتهم و إذنه للناس في إظهار معتقداتهم و المناظرة عليها 53.
و يقول ابن تغري بردي عن طلائع بن زريك وزير الفائز: و ساس الأمور و تلقب بالملك الصالح و سار في الناس أحسن سيرة و فخم أمره و كان أديبا مائلا للإمامية 54.
و يقول المقريزي عنه: كان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر رجل وقته فضلا و علما و سياسة و عقلا و تدبيرا. كان مهابا في شكله عظيما في سطوته و كان محافظا على الصلوات فرائضها و نوافلها شديد المغالاة في التشيع 55.
و يقول ابن إياس عنه أيضا: و كانت له حرمة وافرة في القاهرة و هو الذي بنى الجامع المنسوب إليه المشهور بجامع الصالح الذي هو خارج باب زويلة 56.
و يبدو لنا من خلال تتبع مواقف المؤرخين تجاه الفاطميين أنها مواقف تشوبها الحيرة بسبب موقفهم المعادي للشيعة عقيدة الفاطميين. و تيقنهم من عده فساد الأحوال في زمانهم. فهم لا يريدون إخفاء عدائهم للشيعة و لا يسطيعون إخفاء منجزات الفاطميين 57.
- 1. المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار المعروف بالخطط المقريزية ج 2.
- 2. المرجع السابق ج 1 و أنظر أيضا النجوم الزاهرة في ملوك مصر و القاهرة.
- 3. المرجع السابق ج 1 انظر النجوم الزاهرة.
- 4. أنظر تفاصيل هذا الاتفاق في الخطط. ج 3 ص 265.
- 5. المرجع السابق و النجوم الزاهرة. يروي ابن تغري: و أقامت شيعة عثمان بخربتا إلى أن جاء معاوية من الشام إلى مصر فخرج إليه ابن أبي حذيفة بأصحابه فمنعوه من الدخول إلى الفسطاط ثم اتفقا على أن يجعلا رهنا و يتركا الحرب. فاستخلف محمد بن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت و خرج في الرهن و عدة من قتلة عثمان فلما وصلوا إلى معاوية قبض عليهم و حبسهم و سار إلى دمشق. فهربوا من السجن فتتبعهم أمير فلسطين حتى ظفر بهم و قتلهم في ذي الحجة عام 36 هـ .
- 6. أنظر الخطط و النجوم. يروي ابن تغري: لما اختل أمر مصر على محمد ابن أبي بكر و بلغ علي قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلناه قيس بن سعد – و مالك بن الحارث الأشتر. و كتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر فشق عليه و عظم ذلك لديه. فكان أن دبر قتله بالسم و مات بالقرب من عين شمس.
- 7. أنظر الخطط ج 3 ص 270 / 271.
- 8. a. b. c. d. e. f. g. h. i. j. k. l. m. n. o. p. q. r. s. t. u. v. المرجع السابق.
- 9. أنظر نص الوثيقة في ملاحق الكتاب.
- 10. أنظر المراجع التاريخية المعتمدة. و قد اتفق جميع المؤرخين على تشويه الفاطميين لكونهم شيعة. و يبدو ذلك بوضوح عند مؤرخي فترة ما قبل سقوط الدولة الفاطمية الذين كانت تحرضهم بغداد. كما يبدو عند مؤرخي فترة الأيوبيين و ما بعدهم. انظر تأريخ الخلفاء للسيوطي و الذي أرخ فيه لجميع الخلفاء المسلمين عدا الفاطميين الذين استثناهم عن عمد في كتابه.
و أنظر النجوم الزاهرة. و الكامل لابن الأثير و البداية والنهاية لابن كثير و بدائع الزهور في وقائع الدهور و الروضتين في أخبار الدولتين. - 11. الخطط ج 2 ص 21 و ما بعدها. فصل ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة.
- 12. الحياة الفكرية و الأدبية بمصر من الفتح العربي حتى آخر الدولة الفاطمية.
ط القاهرة. - 13. الإمام المستنصر بالله الفاطمي. ط القاهرة عام 61 (23) سفر نامه. نقلا عن المرجع السابق.
- 14. المرجع السابق و أنظر خطط المقريزي. و يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن: يعتبر عهد العزيز بالله الفاطمي عهد يسر و رخاء و تسامح ديني و ثقافة لا غرو و قد أنشئ في عهد الحاكم دار الحكمة التي كان يشتغل بها كثير من القراء و الفقهاء و المنجمين و النحاة و اللغويين و ألحق بها مكتبة أطلق عليها دار العلم حوت كثيرا من أمهات الكتب مما ألف في مصر و غيرها من البلاد الإسلامية / تاريخ الإسلام السياسي و الثقافي و الاجتماعي.
- 15. المرجع السابق و أنظر خطط المقريزي و بدائع الزهور و النجوم الزاهرة.
- 16. الإمام المستنصر بالله الفاطمي.
- 17. أنظر خطط المقريزي و أنشأت دار الفطرة في عهد العزيز بالله وقرر فيها ما يعمل مما يحمل إلى الناس في العيد و كانت قريبة من المشهد الحسيني.
- 18. a. b. c. أنظر الخطط.
- 19. الحاكم بأمر الله و أسرار الدعوة الفاطمية.
- 20. عيد الغدير في عهد الفاطميين. الأستاذ محمد هادي الأميني. ط النجف عام 62.
- 21. أنظر خطط المقريزي و النجوم الزاهرة.
- 22. تواريخ الاحتفال بمولد الحسين و السيدة زينب و مولد الرسول (ص) المعروفة في مصر اليوم. غير التواريخ المعترف بها عند الشيعة المعمول بها لديهم.
- 23. نقلا عن الخطط. و المسبحي من أعيان الشيعة في مصر و له و الكثير من المصنفات في مختلف العلوم. انظر فصل أعيان الشيعة.
- 24. حديث الغدير من الأحاديث المستفيضة. و هو من بين الأسانيد التي يعتمد عليها الشيعة في إثبات وصية الرسول للإمام علي. و نص الحديث كما رواه أحمد بإسناد صحيح: عن سعيد بن وهب و عن زيد بن يثبع قالا: نشد علي الناس في الرحبة: من سمع رسول الله (ص) يقول يوم غدير خم. إلا قام.
قال: فقام من قبل سعيد ستة. و من قبل زيد ستة. فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (ص) يقول لعلي يوم غدير خم: ” أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى قال: ” اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه و عاد من عاداه. و قال فيه الرسول (ص) أيضا: أذكركم الله في أهل بيتي. - 25. الخطط
- 26. المرجع السابق. و عيد النيروز
- 27. أنظر فصل صلاح الدين و الشيعة. و المؤرخ هو جلال الدين السيوطي.
- 28. أنظر الصراع بين الفاطميين و القرامطة و السلوجقيين في كتب التاريخ.
- 29. وقع على هذا المنشور عدد من فقهاء السنة البارزين آنذاك انظر الملاحق.
- 30. أنظر ما ينسب للحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي الثالث من حكايات جنونية. و محاولة الطعن في نسبهم للرسول (ص) و نسبتهم لليهود.
و محاولة ربطهم بالصليبيين و إشاعة حكايات حول خلفائهم تفيد ادعائهم الألوهية و أنظر الحاكم بأمر الله. الخليفة المفترى عليه للدكتور عبد المنعم الماجد. - 31. كان عليا حين بعث الرسول عمره لا يتجاوز ثمانية سنوات. فهل يعقل أن جبريل يهبط على طفل؟ ثم إن الحكم بخطأ جبريل يعني أن مرسله أخطأ أيضا. سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا وهذا كفر صريح. فكيف تقوم دعوة على أساس فكرة واهية كهذه تخطئ الله بطريق غير مباشر. هل من الممكن أن يقبلها أحد من المسلمين؟ ثم إن الشيعة يعتقدون في قدسية آل البيت و على رأسهم الإمام علي و هذه القدسية إنما هي مستمدة من الرسول الذي ينسب إليه هذا البيت. فكيف يمكن أن يقدم علي على الرسول و هو يستمد قدسيته منه؟
- 32. الكامل في التاريخ ج 7
- 33. المرجع السابق ج 7 ص 176.
- 34. المرجع السابق. ج 8. لما ذا سكت المؤرخون عن بكتاش و غيره ممن تعاونوا مع الصليبيين. ربما لأنهم من السنة؟ و لما ذا سكتوا عن السلطان الأيوبي الملك الكامل الذي سلم القدس إلى الصليبيين عام 626 هـ .
- 35. المرجع السابق ج 8 ص 259.
- 36. المرجع السابق ج 8 ص 260.
- 37. المرجع السابق ج 8 ص 315.
- 38. المرجع السابق ج 9 ص 91 و ما بعدها. و راجع أحداث عام 562 هـ في خطط المقريزي و بدائع الزهور و النجوم الزاهرة لتعرف تفاصيل قصة شاور مع صلاح الدين.
- 39. المرجع السابق ج 9 أحداث عام 564 هـ . انظر الخطط و النجوم و بدائع الزهور.
- 40. إذا صح هذا القياس فيجب محاسبة خلفاء بني أمية و بني العباس و غيرهم على كثير من المواقف و الانحرافات الخطيرة على المستوى السياسي و الاقتصادي و العقائدي مما تذخر به كتب التاريخ. و هو ليس موضوعنا هنا.
- 41. أنظر المستنصر بالله الفاطمي. و خطط المقريزي.
- 42. أنظر صبح الأعشى. ج 3 ص 524.
- 43. المستنصر بالله الفاطمي.
- 44. الكامل ج 8 ص 74. و بدائع الزهور.
- 45. الكامل ج 8 ص 176 / 177.
- 46. بدائع الزهور ج 1. ق 1. و يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه تاريخ الإسلام السياسي و الديني و الثقافي والاجتماعي: و كان كريما محبا للعفو و اشتهر بالتسامح الديني و كان يعطف على اليهود و النصارى.
- 47. بدائع الزهور غير أنه هاجم الحاكم بعد ذلك و قال فيه ما قاله أقرانه من المؤرخين.
- 48. الكامل ج 8 ص 10 / 11.
- 49. a. b. بدائع الزهور ج 1 ق 1.
- 50. البداية و النهاية ج 12 ص 265.
- 51. النجوم الزاهرة ج 5 ص 357.
- 52. الكامل ج 7 ص 155.
- 53. المرجع السابق ج 8 ص 303.
- 54. النجوم الزاهرة ج 5 ص 311.
- 55. الخطط.
- 56. بدائع الزهور ج 1 ق 1. و أنظر وفيات الأعيان لابن خلكان و هو يترجم للأئمة الفاطميين. و يقول عن الظاهر وهو في آخر ليلة الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة. رحمه الله. ج 3 / 85: 86 رقم الترجمة 455. كما يترجم على المستنصر أيضا. انظر ج 4 / 318 رقم الترجمة 699. كذلك أثنى على الصالح طلائع. انظر ج 2 ص 208 رقم الترجمة 288.
- 57. الشيعة في مصر للكاتب المصري صالح الورداني.