كانت ولادة الإمام علي “عليه السلام” في مكان مقدس حيث لم يولد فيه أحد قبله ولن يولد فيه أحد بعده، وكان هذا المكان الكعبة المشرفة التي يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم كل يوم وهذا يعني أن كل صلاة نصليها يكون الإمام علي “عليه السلام” حاضراً فيها خصوصاً أن ذلك الإنسان العظيم كان دوره في بناء دولة الإسلام وفي تحصين العقيدة الإسلامية كبيراً ومميزاً فمنذ مبيته على فراش النبي ”صلى الله عليه وآله” كانت له اليد الطولى في انتصار المسلمين ويكفيه قول رسول الله يوم الخندق يوم قتل عمرو بن ود العامري: “إن ضربة علي تعدل عمل الثقلين”
ولم تكن شهرة الإمام علي “عليه السلام” من خلال شجاعته فقط، وإن كانت صفة بارزة فيه، إلا إنه كان يتمتع بمواصفات الإنسان الكامل من خلال عصمته فكان ورعاً تقياً عابداً زاهداً ناسكاً عادلاً عالماً فقيهاً ويكفيه قول النبي “صلى الله عليه وآله”: “أنا مدينة العلم وعلي بابها”
وهذا كله لأنه كان أقرب إنسان إلى رسول الله “صلى الله عليه وآله” منذ طفولته إلى حين رحيل النبي “صلى الله عليه وآله” إلى ربه راضياً مرضياً وكان النبي “صلى الله عليه وآله” ينقل اليه كل شيء يأتيه به الوحي حتى قال الإمام علي “عليه السلام” في إحدى كلماته “سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض”
ولهذا كان الإمام علي مستحقاً لخلافة المسلمين بعد رحيل رسول الله ”صلى الله عليه وآله” إلا أن الأمور لم تجر كما كان يجب ولكنه مع ذلك صبر وكظم وتحمل، بل أكثر من ذلك كان الناصح والمشير على من استلم الخلافة قبله، لأنه كان يرى أن قضية الإسلام أكبر من الأشخاص مهما علا مقامهم ومهما كانت منزلتهم لأن الأشخاص يذهبون ، بينما الإسلام هو الدين الخاتم الذي لا بد له من أن يستمر إلى أن تقوم الساعة ولهذا كان حريصاً كل الحرص من هذه الناحية متجاوزاً في ذلك كل الغصص والآلام التي تجرعها وهو يرى حقه أمام عينيه يتداوله الآخرون ويحكمون به.
واستطاع الإمام علي”عليه السلام” بهذا الأسلوب بعد مقتل الخليفة الثالث “عثمان” أن يكون مورد الإجماع عند أهل الحل والعقد على استلام الخلافة لقيادة الأمة الإسلامية ورعايتها وتدبير شؤونها وأن يسير بالأمة كما كانت في عهد رسول الله “صلى الله عليه وآله” طبقاً لموازين الإسلام وأحكامه من دون أن يحيد عنها مهما كانت المغريات أو العراقيل وكما قال لابن عمه “عبد الله بن العباس”عندما وجده يرقع نعله، فقال له الإمام علي”عليه السلام”: (ما قيمة هذا النعل؟) قال ابن عباس “لا شيء” فقال الإمام علي “عليه السلام”: (والله لإمرتكم عندي لا تساوي هذه النعل إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً)، وهذه النظرة إلى الخلافة تعني أن هذا الشخص يريد أن يتحمل مسؤوليات هذا المنصب كاملة بلا نقصان من دون محاباة لأحد، أو تنازل لأي كان، أو غض النظر عن تصرفات لا يقرها الإسلام ولو صدرت من علية القوم ومن زعماء المسلمين آنذاك.
ومن هنا نفهم المراد من النصوص الكثيرة الواردة عن النبي”صلى الله عليه وآله” في حق علي”عليه السلام” مثل: (الحق مع علي، وعلي مع الحق، يدور معه كيفما دار) أو (ياعلي: لولا أن أخشى أن تقول فيك فئة من الناس ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة لا تمر على أحد من الناس إلا وأخذوا التراب من تحت قدميك)
مما تقدم نفهم أن ” العدالة” هي محور حركة الإمام “عليه السلام” في خلافته، لأن العدل هو الذي يصون الأمة ويحمي الحقوق ويمنع الظلم والجور، ويحقق الأمن والسلام داخل الامة، ويجعلها متوحدة متراصة ومتكاملة مع بعضها البعض ومن هنا فرض الإمام علي عليه السلام نفسه على الإنسانية جمعاء لا من موقع الشجاعة الجسدية ولا ببطولاته ولا بزهده أو تواضعه بل فرض نفسه بعدله الذي صار راية له وعلماً ورمزاً، فمن خلال عدله دخل إلى قلوب المحبين وغيرهم على حد سواء وكانوا من المعترفين بعدالة الإمام علي “عليه السلام” وأنه لو تيسر له أن يحكم مرتاحاً من دون المتاعب التي تسبب بها المنحرفون لاستطاع أن يعود بالأمة إلى زمن النبي”صلى الله عليه وآله” لتكون حياة الأمة على أحسن ما يرام.
فالإمام علي “عليه السلام” يرى أن الحكم وسيلة لإحقاق الحق وإقامة موازين العدل وليس وسيلة للاستقواء والاستعلاء أو للعز والجاه، ويقول “عليه السلام”: (….. وأعظم ما افترض_سبحانه_ من تلك الحقوق: حق الولي على الرعية، وحق الرعية على الوالي،….. فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم فليست تصلح الرعية إلا بعدل الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية ، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء….)
ولأن الإمام علياً “عليه السلام” ينظر إلى الحكم والولاية بهذه النظرة الإلهية الشفافة والمستقيمة، قام ضده الذين حاربهم من “القاسطين والمارقين والناكثين” ممن كانت أهواؤهم تخالف مسيرة الإمام علي “عليه السلام” فلم يسمحوا له بأن يحكم وفق نظرته، فأشغلوه بحروبهم من “الجمل” إلى “صفين” ثم “النهروان” حتى لا يعطوه الفرصة والوقت لإعادة الأمور إلى نصابها وإلى الصراط المستقيم الذي كان يسعى من خلال خلافته لإعادة الأمة إليه.
وكان يقول “عليه السلام”: (….. فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)، ولذا قال في كلام له عند عدم وجود العدل: (فإذا غلبت الرعية واليها ، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار وتفر الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه وتعالى عند العباد…)
فالعدل عند علي “عليه السلام” هو المدخل للأمن والسلام الاجتماعيين وهو الصائن للقيم والحريات وهو المحفز للإبداعات الإنسانية وهو الذي يجعل من الحياة الدنيا جنّة يتمنى الناس لو يبقون فيها وأما الظلم عنده فهو النقيض من كل هذا ، ولهذا لم يرتضِ لنفسه أن يكون اسمه مدوناً إلى جانب من سودوا وجه التاريخ الإنساني بالظلم والاضطهاد وفضل أن يكون اسمه مدوناً بأحرف من نور في سجل من بيّضوا وجه التاريخ من الأنبياء والمصلحين وعلى رأسهم خاتم الأنبياء محمد ”صلى الله عليه وآله” ولهذا صارت خلافة علي “عليه السلام” في فعله وقوله، وكان عادلاً في معارضته كما كان عادلاً في حاكميته، فلم تخرجه معارضته عن قول الحق والعدل إلى غيره، ولم تجعله حاكميته عندما عادت إليه أن ينحرف بها إلى ما يخالف طريق الاستقامة والشفافية والنزاهة ونظافة الكف وغير ذلك من الصفات المحمودة التي يجب أن يتحلى بها الحاكم العادل الذي يخاف الله في نفسه وفي الناس، لأنه يعلم أنه سيكون له موقف في الآخرة أمام الله ليحاسبه على ما قال وفعل.
من هنا يمكننا القول بكل جرأة وصراحة وشفافية أن عدل “علي” هو السبب الرئيس الذي أدى في نهاية المطاف إلى استشهاده في محراب الصلاة والشهادة لله عز وجل، لأن النفوس الضعيفة غير القادرة على مواكبة حكم علي “عليه السلام” القائم على أساس موازين الحق والعدل لا تستطيع أن تتحمل حاكماً وهو على ذلك المستوى الرفيع من العدالة لأنه لن يحقق لها مطامعها الدنيوية من مناصب ومال وإقطاعات وغير ذلك مما قد يوفره حكام لا يقيمون وزناً للعدل، بقدر ما يقيمون وزناً لكراسي الحكم والملك والعرش.
ومن هنا كان أمير المؤمنين “عليه السلام” شهيد المحراب في محراب الشهادة، لكنه بذلك صار القدوة والنموذج للحاكم العادل، وفضل الشهادة في سبيل الحق والعدل على أن يبقى حاكماً يساوم ويهادن، وبذلك أرست شهادة الإمام “عليه السلام” الحدود الفاصلة بين الحكم العادل والحكم الظالم، لأن الحكمين يستحيل أن يجتمعا معاً، لأن كل واحد، يلغي الآخر تمام الإلغاء وهذا ما حصل بعد شهادة الأمير “عليه السلام”.
فسلام عليه يوم وُلد ويوم استشهد، ويوم يُبعث حياً ورزقنا الله شفاعته وشفاعة ابن عمه النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله” وشفاعة الزهراء”عليها السلام” وشفاعة الحسنين”عليهما السلام” وشفاعة الأئمة “عليهم السلام”. والحمد لله رب العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.