مقالات

شبهة وردّها…

نص الشبهة: 

ما هي العوامل المؤثرة في تفتّح وازدهار الكمالات؟

الجواب: 

انّ تفتّح وازدهار المواهب والاستعدادات الإنسانية، من المسائل المهمة في «علم معرفة الإنسان»،وذلك لأنّ كلّ إنسان يخلق وهو يحمل في داخله مجموعة من الاستعدادات والمواهب، وانّ امتيازه عن الآخرين وتفاضله يكمن في تلك المواهب التي تتفتح شيئاً فشيئاً وتحت شرائط خاصة حيث تنتقل من مرحلة القوة إلى الفعلية.

وحينئذ لابدّ من السعي لمعرفة ما هي العوامل والأسباب التي يمكنها أن تفعّل تلك الثروة الطبيعية والخزين الهائل من المواهب والقدرات والاستعدادات كي يصل الإنسان في النهاية إلى كماله الوجودي وتطوّره الحقيقي؟
لقد وضّح القرآن الكريم هذه الطرق بصورة جلية والتي منها:

1. إعمال الفكر والتأمّل في معرفة ذاته والعالم

إنّ المائز الأساسي بين الإنسان والحيوانات هو تلك القدرة العقلية والجهاز الفكري، وهذا المائز هو من المميزات الأساسية والمهمة، ولأهمية الفكر والتأمّل والتدبّر في الإسراع في تطوّر الإنسان وتكامله نجد القرآن الكريم قد ذكر كلمة «العقل» في 48 مورداً، و «الفكر» 18 مرة، وكلمة «اللب» 16 مرّة، و«التدبّر» أربع مرّات، وجاءت كلمة «النهى» التي هي مرادفة للعقل مرتين، وأمّا «العلم والمعرفة» الذي هو نتاج الفكر والتعقّل والتدبّر فقد جاء بجميع مشتقاته في القرآن الكريم 779مرّة .
إنّ إحدى كمالات الإنسان الوجودية هي معرفته بسر العالم وأسرار وخفايا الخلق بنحو يتمكن من خلاله قراءة لغة الخلق وفهم كوامنه بنحو يصبح العالم بعظمته أمامه وأمام الآخرين سهل الانقياد له ومطيعاً لإرادته. وهذا بالطبع ممّا تكون له عوائد بنّاءة وفوائد جمّة في رقي الإنسان وتكامله، ولا ريب انّ ذلك لا يمكن أن يحدث إلاّ في ظل إعمال الفكر والتأمّل والتدبّر، وعلى هذا الأساس ونظراً لهذه الأهمية للسير الفكري نجد القرآن الكريم يذكر الإنسان بأنّه قد فتح عينيه على هذا العالم المترامي الأطراف وهو لا يعلم شيئاً ولا يدرك ما يحيط به من أسرار وخفايا وإمكانات هائلة ولكنّه بإعمال عقله وفكره يتوصّل إلى السر الكامن في هذا العالم الفسيح، وحينئذ لابدّ له أن يخضع للّه سبحانه وتعالى بالطاعة والشكر على هذه النعمة والموهبة التي منحها له، يقول سبحانه:
﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 1 .

2. معرفة العلم الباعث على الكمال

صحيح  انّ القرآن الكريم قد حثّ على التفكّر والتأمّل والتعمّق وإعمال الطاقات والقدرات في عملية تحصيل العلم والمعرفة، وفتح أمام الإنسان أبواب العلم والمعرفة، ولكنّه في آيات أُخرى يؤكّد على حقيقة أُخرى وهي أنّه ليس كلّ علم أو معرفة يُعد عاملاً لكمال الإنسان وتفتّح قدراته وطاقاته وسموّه، بل العلم الذي يحمل هذه الخصيصة والميزة هو العلم الذي يدور في إطار خاص ويخضع لشرائط معيّنة، وانّ ما قد يقال من «انّ معرفة كلّ شيء خير من عدم معرفته» غير صحيح ولا يبتني على أساس محكم، بل قد يكون في بعض الأحيان ذلك العلم ـ الذي لا يخضع لأُسس خاصّة وحسابات دقيقة ـ كالسيف القاطع بيد إنسان متوحّش.
إنّ العلوم التي تأخذ بيد الإنسان نحو الكمال والرقي هي العلوم التي تحمل صبغة إلهية ورائحة دينية، التي تصنع من الإنسان موجوداً إلهياً يشعر بالرقابة الإلهية في كلّ حركاته وسكناته ولا يعمل إلاّ ما يرضي اللّه سبحانه ويسخّر علمه وقدراته في هذا الطريق.
يقول القرآن الكريم في حقّ إبراهيم(عليه السلام) :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ 2 .

إنّ  أسباب الرشد أو نفس الرشد هو في الحقيقة عين العلم والمعرفة بنظام العالم وأسراره ثمّ الانتقال إلى عالم الملكوت وعالم الغيب، وهذه الحالة من السمو والرقي التي تحصل من ذلك العلم تبين انّ ذلك العلم والمنهج الفكري الذي اعتمده الإنسان هو العلم الباعث على الكمال والرقي. ثمّ إنّ العلم الذي يجعل الإنسان يسير في إطار معرفة ذات اللّه وصفاته وأوامره ونواهيه ومعرفة الطبيعة وأسرارها، إحدى شروطه هو أن يكون عاملاً في عروج الإنسان  إلى عالم الملكوت وسوقه نحو اللّه سبحانه، وخلق حالة من الارتباط بينه و بين ربّه بحيث لا يغفل عنه أبداً.

3. اجتناب التقليد الأعمى

لم يحثّ الإسلام المسلمين على طلب العلم والفكر وكشف الأسرار الخفية لهذا العالم فقط، بل حثّهم على اجتناب التقليد الأعمى والتبعيّة اللاّمدروسة والغير موزونة والتحرّز عن كلّ ما يمت إلى ذلك بصلة.
صحيح انّ إحدى الغرائز الإنسانية وميوله هي «غريزة المحاكاة» أو «الميل إلى الانسجام» وانّ هذا الميل يلازم الإنسان في جميع مراحل الحياة وفي كافة الأدوار وخاصة في دور الطفولة حيث يلعب هذا الميل دوراً أساسياً في تكامله وتطوّره بحيث إنّ الطفل الذي يفتقد هذا الميل لا يتمكّن من تعلّم الكثير من الأُمور التي تحتاج إلى نوع من التقليد والمحاكاة كالمشي والنطق و… نعم كلّ ذلك صحيح، ولكن الاستفادة الصحيحة والانتفاع الطبيعي من هذه الغريزة يتوقّف على الاستفادة منها بصورة عقلية ومنطقية متّزنة ولا يترك الأمر لهذه الغريزة بحيث تكون هي الأساس الذي يبني عليه الإنسان حياته بنحو يؤدي إلى إلغاء دور العقل والفكر والمعرفة العقلية.
إنّ هناك طائفة من الناس حاربت العقل والفكر تعصّباً منها لطريقة وسنّة ومنهج الآباء والأجداد، واتّبعوا آباءهم تبعية عمياء واضعين في أعناقهم نير الذلّ و العبودية الناتج من ذلك الميل.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى منهج عرب الجاهلية ومنطقهم وحجتهم في عدم الخضوع للحق وقبول الدين الحنيف والرسالة المحمدية ولماذا يفضلون عبادة الأوثان على عبادة اللّه الواحد القهّار؟ فقال سبحانه حاكياً جوابهم الواهي: ﴿ … إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ 3 .

وفي آية أُخرى:
 ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 4 .

ثمّ  إنّنا إذا ما وجدنا بعض المدارس والاتّجاهات الخاوية والواهية التي لا يدعمها العقل ولا يؤيدها الفكر قد بقيت واستمرت، ففي واقع الأمر أنّ بقاء مثل تلك الاتجاهات المذهبية الواهية معلول حالة التعصّب الأعمى، ومرهون بها، ومدين لفكرة التمسّك بمنهج وطريقة السلف من الآباء والأجداد والتعصّب لها، وهذا هو الستار الذي يحجب به الإنسان نور العقل والفكر عن نفسه ويحرمها من تلك النعمة الإلهية 5 .

  • 1. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 78، الصفحة: 275.
  • 2. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 51، الصفحة: 326.
  • 3. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 23، الصفحة: 491.
  • 4. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 104، الصفحة: 125.
  • 5. منشور جاويد:4 / 295 ـ 301
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى