نص الشبهة:
هل كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقرأ قبل البعثة أم أنه كان جاهلاً بالقراءة والكتابة ؟
الجواب:
أولاً : اننا لا نستطيع وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجهل ، فإنه تعبير مرفوض ومدان . .
وليكن التعبير في السؤال كما يلي : هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأ ويكتب قبل البعثة ، أم لم يكن يقرأ ويكتب ؟
ثانياً : قال تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ 1 . .
إن هذه الآية الشريفة تعطي : أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقطع دابر أية فرصة للإساءة إليه (صلى الله عليه وآله) ، وإلى نبوته ، فيزيل أي ريب أو شبهة يمكن أن تثار حول نبوة نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وتتأثر بها نفوس الضعفاء .
وما يوجب الريب هو أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد قرأ كتب السابقين عند البشر ، أو تعلم منهم ، وأخذ عنهم . . فإذا تحقق لدى الناس أنه لم يقرأ قبل بعثته عند أحد ، فإذا جاء بهذا الدين ، وصار يعرف القراءة والكتابة بصورة إعجازية ، من دون معلم ، فإن ذلك يضطرهم إلى الإيمان والتسليم . .
فالمهم إذن هو أن لا يكون قد تعلم شيئاً عند أحد ، فإذا حصلت له هذه العلوم كفى ذلك لتحقق مصداق قوله تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … ﴾ 2 ، ولا بد لهم في هذه الحالة من الإيمان والتصديق به بمجرد أن يبعث ، ويرونه قد أصبح عارفا بالقراءة والكتابة ، وبكل هذه العلوم والمعارف والتشريعات ، التي يعجز البشر عن نيلها .
ولا حاجة بعد ذلك إلى أن يبقى النبي (صلى الله عليه وآله) عاجزاً عن القراءة والكتابة بنظرهم وإلى أن يموت ، فإن ذلك سيكون من حالات النقص في شخصيته عندهم . وقد ثبت بالبراهين والأدلة العقلية والنقلية ، أنه منزه عن كل عيب ونقص .
ثالثاً : إن من الواضح : ان القراءة والكتابة لا تقصد لذاتها ، وإنما هي من العلوم الآلية التي يكون القصد إليها للتوصل إلى غيرها . وهو نيل المعارف عن طريقها . .
فإذا كانت المعارف والعلوم حاضرة لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) ويراها رأي العين . وهو يخبرهم بها ، ويرون صدقه بصدقها ، فإن البحث عن وسيلة أخرى عاجزة عن إحضارها لديه ، وعن إراءتها له . . بل هي توجد له حالة تخيل وتصور لها لا أكثر ، 3 إن البحث عن هذه الوسيلة العاجزة ، يصبح سفها غير مقبول . . ويكون بذلك كالذي يجد حبيبه إلى جنبه ، ثم يطلب النوم لعله يراه في عالم الرؤيا . أما الأدلة على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يقرأ ويكتب ، فهي غير دالة على مطلوبهم ، ونحن نذكر أجوبتها فيما يلي :
الدليل الأول
قوله تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ 1 .
ونقول : إن الاستدلال بالآية : لا يصح لأنها إنما تدل على أنهم كانوا يعلمون أنه لم يتعلم القراءة والكتابة عند أحد قبل أن يبعث ، وأنه لم يكن يقرأ كتباً ، ولا كتب شيئاً منها ، أو عنها . .
وهذا لا يمنع من أن يبعثه الله نبيا فيفاجئهم بعلوم الأولين والآخرين ، وهو لم يطلع على كتب أحد . .
ويفاجئهم بأنه في نفس هذه اللحظة قد أصبح يعرف القراءة والكتابة بكل الألسن واللغات ، ومن جملتها منطق الطير ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك مما ذكر في الروايات الآتية ، هذا . . مع علمهم به ، ومشاهدتهم له ، وعيشهم معه طيلة حياتهم ، بصورة جعلتهم عالِمين بعدم اتصاله بأحد ، وأنه لم يتعلم شيئاً عند أي كان من الناس . .
فطريق حصوله على المعارف والعلوم منحصر بالطريق الغيبي والوحي ، وسيكون هذا الأمر من أظهر الشواهد على نبوته ، واتصاله بالغيب .
فيقينهم بعدم معرفته بالقراءة والكتابة قبل النبوة ، وسام عظيم له . وهو خير وأوضح دليل على نبوته ، ولكن علمهم باستمرار عجزه عن القراءة والكتابة حتى بعد النبوة ، سيجعلهم ينظرون له بعين النقص ، وسيرى الكتّاب والعارفون بالقراءة أن لهم عليه امتيازا وفضلا ظاهراً . .
وسيكون علمه بالقراءة والكتابة بصورة إعجازية وعن طريق جبرائيل أدعى للطمأنينة ، وأوفق وأشد أثراً في رسوخ اليقين والإيمان .
الدليل الثاني
إن الآيات القرآنية قد وصفت النبي (صلى الله عليه وآله) بالأمي ، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ … ﴾ 4 .
وقال : ﴿ … فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ … ﴾ 5 .
والأمي هو الذي بقي كما ولدته أمه ، لا عهد له بعلم ، ولا بقراءة ، ولا كتابة .
ونقول في جوابه
ألف : إن نفس ما أوردناه لرد الاستدلال بالآية السابقة يرد به الاستدلال بهذه الآية . وأما وصفه بالأمية واعتبارها وساماً له ، فإنما هو بلحاظ ما قبل البعثة ، أما بعدها فلعل العكس هو الصحيح ، أي أن استمرار الأمية هو الذي يعد نقصاً بنظر الناس .
ب : إن كلمة أمي كما تأتي بمعنى من لا يعرف القراءة والكتابة ، كذلك هي تأتي لبيان الانتساب إلى أم القرى ، وهي مكة . وسيأتي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن المقصود بالأمي هو هذا المعنى . .
ولهذه الكلمة أيضاً معان أخر ، لا تلائم معنى عدم معرفته القراءة والكتابة ، مثل كونه منسوباً إلى أمة لم تنزّل عليها كتب سماوية ، ونحو ذلك .
الدليل الثالث
ما جرى في الحديبية
بقي أن نشير إلى أن ما جرى في الحديبية قد يعتبره البعض صالحا للاستدلال به على استمرار أمية الرسول (صلى الله عليه وآله) ، على اعتبار أن النبي (صلى الله عليه وآله) طلب من علي أن يمحو وصف «رسول الله» من الكتاب ، فلم يرض (عليه السلام) بذلك ، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : ضع يدي عليها . فوضعها ، فمحاها (صلى الله عليه وآله) بيده 6 .
فلو كان (صلى الله عليه وآله) عارفا بالقراءة لقرأ هو (صلى الله عليه وآله) الكتاب ، ووجد الكلمة ، ومحاها من دون الحاجة إلى الاستعانة بعلي . .
ويروى أن تميم بن جراشة قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) في وفد ثقيف وسألوه أن يكتب لهم كتاباً يحل فيه لهم الربا والزنى ، فكتب لهم خالد بن سعيد بن العاص كتاباً ، ثم ذهبوا به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال للقارئ : اقرأه .
فلما انتهى إلى الربا قال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع يده فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا … ﴾ 7 الآية ، ثم محاها .
وألقيت علينا السكينة فما راجعناه . فلما بلغ الزنى وضع يده عليها وقال : ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً … ﴾ 8 الآية . ثم محاه 9 .
ونقول في الجواب
إن هذا الاستدلال لا يصح ، وذلك لما يلي :
أولاً : روى النجدي ما جرى في الحديبية فقال : « فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكتاب فكتب : هذا ما قاضى محمد بن عبد الله» 10 .
وفي نص آخر قالوا : «فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) الكتاب ، وليس يحسن أن يكتب ، فكتب مكان رسول الله : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله : أن لا يدخل الخ . .» 11 .
فهذه الرواية تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد كتب بنفسه ذلك ، على سبيل الإعجاز . . لا أنه طلب من علي (عليه السلام) ، أن يضع يده على الكلمة ، فمحاها ، ثم كتب علي ، كما ذكرته الرواية الأخرى .
ثانياً : قد ذكرنا في بحث لنا سابق 12 عدم صحة قولهم : إن علياً (عليه السلام) قد امتنع عن محو اسم النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحيفة . بل النصوص تدل على أنه (عليه السلام) قد امتثل كل ما أمره به الرسول (صلى الله عليه وآله), فراجع .
لكن قد ذكرت الروايات أن علياً (عليه السلام) إنما واجه ذلك المشرك الذي اعترض وحاول أن يفرض أمرا غير مرضي ولا مقبول . وقد كان موقف النبي (صلى الله عليه وآله) هو التأييد لعلي (عليه السلام) والتسديد له في موقفه هذا ، فراجع ذلك البحث تجد تفصيل ذلك . .
وبذلك يكون ما ذكروه من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد طلب منه أن يضع يده على الكلمة التي يريد أن يمحوها ليس له أساس يصح التعويل عليه . .
ثالثاً : إن قوله (صلى الله عليه وآله) : ضع يدي عليها ، لا يستلزم عدم معرفته بالقراءة والكتابة ، إذ قد يكون مجلسه بعيداًَ عن مجلس علي بحيث لا يتمكن من قراءة ما في الصحيفة بصورة مباشرة ، فيقول له من بعيد : ضع يدي عليها ، لأن علياً (عليه السلام) هو المتمكن من قراءة الصحيفة .
ولو قيل : لماذا لم يستعمل النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه الحالة أيضاً قدراته الغيبية والإعجازية . . فالجواب هو أن ذلك يتبع المصالح التي تقتضي ذلك ، وهو (صلى الله عليه وآله) أعلم بها وأعرف بمواقعها .
رابعاً : روي عن ابن عباس : أنه قال للحرورية (الخوارج) في جملة حديث له معهم وهو يحتج عليهم بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحديبية؛ ويحدثهم بما جرى : «قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك, ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
فقال : اللهم إنك تعلم أني رسولك . ثم أخذ الصحيفة ، فمحاها بيده ، ثم قال : يا علي اكتب : هذا ما صالح عليه الخ» 13 .
خامساً : لنفترض : أن ذلك لم يقنع الباحث ، فإنه سيجد نفسه غير قادر على الاستدلال بهذه الرواية التي رويت بصور مختلفة ومتناقضة نعلم بتعمد التصرف فيها ، والتلاعب بمضامينها ، فلا بد له من البحث عن أدلة أخرى ، وهي متوفرة ولله الحمد ، وسيطلع القارئ الكريم على شطر منها في ضمن الفقرات التالية في هذا البحث . .
آراء علمائنا
وبعدما تقدم نقول :
إننا إذا رجعنا إلى ما قاله علماؤنا الأبرار فإننا نلاحظ : أن عددا منهم رضوان الله تعالى عليهم قد صرح بأنه (صلى الله عليه وآله) كان يعرف القراءة والكتابة بعد بعثته .
ويظهر من الشيخ الطوسي (رحمه الله) : أن ذلك هو مذهب علمائنا . رحمهم الله كافة؛ فإنه قال : «والنبي عليه وآله السلام عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنما لم يحسنها قبل البعثة» 14 .
وقال السيد جواد العاملي : «والنبي معصوم مؤيد بالوحي : وكان عالماً بالكتابة بعد البعثة ، كما صرح به الشيخ ، وأبو عبدالله الحلي ، واليوسفي ، والمصنف في التحرير . وقد نقل أبو العباس ، والشهيد في النكت ، عن الشيخ ، وسبطه أبي عبد الله الحلي الساكتين عليه» 15 .
وعلى كل حال ، فإن الأدلة قد دلت على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب ، قبل البعثة وبعدها .
أما بالنسبة لعدم قراءته وكتابته (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة بصورة فعلية ، فإن ذلك لا يعني عدم قدرته على ذلك ، بل كان قادراً على ذلك ، لكنه لم يظهر ذلك للمشركين ولا لغيرهم بصورة فعلية؛ وذلك كي تقوم الحجة عليهم ، وليدركوا الإعجاز الإلهي في ذلك . .
ولعل علماءنا الأبرار قد استندوا في ما ذهبوا إليه في هذا الأمر إلى ما صرحت به بعض النصوص من أنه (صلى الله عليه وآله) قد مارس القراءة أحيانا والكتابة أحياناً ، فلاحظ مايلي :
فما دل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ
1 ـ ما رواه الشعبي من أنه (صلى الله عليه وآله) قد قرأ صحيفة لعيينة بن حصن ، وأخبر بمضمونها 16 .
2 ـ عن أنس قال : قال (صلى الله عليه وآله) : رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر 17 .
ومما دل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب
ولكن نصوصاً أخرى قد صرحت بأنه (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب بعد بعثته ، وذلك مثل :
3 ـ ما روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن جعفر بن محمد الصوفي ، عن أبي جعفر الجواد(عليه السلام) : « فقلت : يابن رسول الله ، لم سمي النبي الأمي ؟!
فقال : ما يقول الناس ؟
قلت : يزعمون : أنه إنما سمي الأمي؛ لأنه لم يحسن أن يكتب .
فقال (عليه السلام) : كذبوا عليهم لعنة الله ، أنّى ذلك ، والله يقول في محكم كتابه : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ … ﴾ 18 .
فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن ؟ . والله ، لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً ، أو قال : بثلاثة وسبعين لساناً ، وإنما سمي الأمي ، لأنه كان من أهل مكة . ومكة من أمهات القرى ، وذلك قول الله عز وجل : ﴿ … وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا … ﴾ 19 . 20
4 ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب ، ويقرأ ما لم يكتب 21 .
5 ـ وروى الصدوق بسنده عن علي بن اسباط وغيره ، رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت : إن الناس يزعمون : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكتب ولا يقرأ .
فقال : كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك ، وقد قال الله عز وجل : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ 22 .
فكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب ؟!
قال : فلم سمي النبي الأمي ؟
قال : لأنه نسب إلى مكة ، وهو قول الله عز وجل : ﴿ … وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا … ﴾ 19 ، فأم القرى مكة ، فقيل أمي لذلك 23 .
6 ـ وعن الشعبي أنه قال : ما مات النبي (صلى الله عليه وآله) حتى كتب 24 .
وقال المجلسي : قال الشعبي وجماعة من أهل العلم : ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى كتب وقرأ . وقد اشتهر في الصحاح وكتب التواريخ قوله (صلى الله عليه وآله) : ايتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً 25 .
ونقول : إن استدلاله (رحمه الله) بالفقرة الأخيرة غير خال عن النظر والمناقشة فإن قوله : اكتب لكم يتلاءم مع أمره لبعض من حضر بذلك . .
7 ـ ونقل السيوطي عن ابي الشيخ ، من طريق مجالد ، قال : حدثني عون بن عبدالله بن عتبة, عن أبيه قال : ما مات النبي (صلى الله عليه وآله) حتى قرأ وكتب . فذكرت هذا الحديث للشعبي . فقال صدق . سمعت أصحابنا يقولون ذلك 26 .
8 ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كان علي (عليه السلام) كثيرا ما يقول : اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو يقرأ : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ … ﴾ 27 بتخشع وبكاء ، فيقولان : ما أشد رقتك لهذه السورة .
فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لما رأت عيني ، ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي .
فيقولان : وما الذي رأيت ، وما الذي يرى ؟!
قال : فيكتب لهما في التراب : تنزل الملائكة والروح الخ . . 28 .
فإن ظاهر هذه الرواية أنه (صلى الله عليه وآله) قد مارس الكتابة فعلاً . .
وقد ظهر مما تقدم : أنه لا مجال للقول بأنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يقرأ ويكتب . وأن الصحيح هو خلاف ذلك ، سواء قبل بعثته (صلى الله عليه وآله) أو بعدها . ولكن ذلك قد كان بصورة إعجازية ، على النحو الذي أوضحناه في ثنايا هذا البحث . .
والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين 29 .
- 1. a. b. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 402 .
- 2. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 402 .
- 3. إشارة إلى الوجود اللفظي والكتبي الذي يلزم منه حضور صورة الشيء في الذهن ، لا حضور نفس الشيء لدى العالم .
وإشارة إلى ذلك حالة التخيل لأمور يسمع بها ، ولم يكن قد رآها . فهي حاضرة حضوراً تخيلياً لا يصل إلى درجة حضور صورة الشيء في الذهن ، فضلاً عن حضور نفس الشيء لدى العالم .
ولكي نوضح ما نرمي إليه نقول : إنه ليس كل عدم نقصاً ، وليس كل وجدان كمالاً . .فإن معرفتنا نحن بالأمور والعلم بها كمال بالنسبة لنا ، فإذا توقف ذلك على امتلاك أدوات وعلوم ، فإن حصولنا على العلوم الآلية والأدوات الموصلة لها كمال لنا أيضاً ، وفقدانها نقص ، لأنه يوجب حرماننا من كثير من المعارف التي نعجز عن الوصول إليها بدونها . أما إذا كانت المعارف حاضرة بنفسها لدى العالم ، ولا يحتاج إلى تلك الآلات الموصلة ، كان ذلك عين الكمال . فمن يستطيع الوصول إلى أي مكان في العالم بمجرد إرادته ، فإن ركوبه للدابة ، والسعي إلى ذلك المكان ، وتحمل المتاعب ، وصرف الساعات والأيام ، أو الأشهر في الطريق ، يعد سفهاً .
فعدم اقتنائه للدابة أو السيارة لا يعد عيباً ولا نقصاناً ، ما دام أن عدم اقتنائه لها لا لأجل عجزه عن اقتنائها ، بل لغناه عنها مع توفر القدرة عليها في كل حين .
وهذا هو حال الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) في ما يرتبط بعلومهم ، فهم يعلمون بالأمور من خلال حضورها عندهم ، ورؤيتهم لها بما أعطاهم الله من تفضلات ومزايا ، فلا يحتاجون إلى قراءة النقوش المكتوبة ليمكنهم الحصول على صورة ذهنية لها ، وهذا هو عين الكمال لهم ، وسواه هو النقص . . - 4. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 157 ، الصفحة : 170 .
- 5. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 158 ، الصفحة : 170 .
- 6. راجع : كشف الغمة للاربلي ج 1 ص 210 والإرشاد للمفيد ج 1 ص 120 واعلام الورى ص 97 وبحار الأنوار ج 20 ص 359 و 363 و راجع ص 357 .
- 7. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 278 ، الصفحة : 47 .
- 8. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 32 ، الصفحة : 285 .
- 9. أسد الغابة ج 1 ص 216 .
- 10. صحيح البخاري ج 2 ص 73 ط سنة 1309 .
- 11. صحيح البخاري ج 3 ص 37 ط سنة 1309 ه . ق . ومسند أحمد ج 4 ص 298 والكامل في التاريخ ج 2 ص204 . و خصائص علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنسائي ص 150و151 والأموال ص 233 و سنن الدارمي ج 2 ص 238 والسنن الكبرى ج 8 ص 5 و راجع : التراتيب الإدارية ج 1 ص 173 .
- 12. البحث هو بعنوان : «موقف علي (عليه السلام) في الحديبية» ، صادر عن المركز الإسلامي للدراسات .
- 13. الرياض النضرة ج 2 ص277 وإحقاق الحق (الملحقات) ج 8 ص 522 . وراجع : مسند أحمد ج 1 ص342 وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي ص 148 و 149 وغير ذلك . .
- 14. المبسوط ج 8 ص 120 و راجع تفسير التبيان ج 8 ص 216 .
- 15. مفتاح الكرامة ج10 ص10 .
- 16. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج 8 ص 98 عن تفسير النقاش .
- 17. سنن ابن ماجة ج2 ص812 والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج8 ص97 عنه .
- 18. القران الكريم : سورة الجمعة ( 62 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 553 .
- 19. a. b. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 92 ، الصفحة : 139 .
- 20. علل الشرايع ص 124 والبحار ج 16 ص 132 وبصائر الدرجات ص245 والبرهان (تفسير) ج4 ص332 ونور الثقلين ج 2 ص 78 و ج 5 ص 322 ومعاني الأخبار والإختصاص .
- 21. البحار ج 16 ص 134 وبصائر الدرجات ص 247 والبرهان ج 4 ص 333 و نور الثقلين ج 5 ص 322 .
- 22. القران الكريم : سورة الجمعة ( 62 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 553 .
- 23. البحار ج 16 ص 133 وعلل الشرايع ص 125 وتفسير البرهان ج 2 ص 332 و ج 2 ص 40 و نور الثقلين ج 5 ص 332 و بصائر الدرجات ص 246 و تفسير العياشي ج 2 ص 78 .
- 24. الجامع لأحكام القرآن ج 13 ص 352 والتراتيب الإدارية ج 1 ص 173 و البحار ج 16 ص 135 .
- 25. البحار ج 16 ص 135 .
- 26. الدر المنثور ج 3 ص 131 .
- 27. القران الكريم : سورة القدر ( 97 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 598 .
- 28. الكافي ج 1 ص 249 و نور الثقلين (تفسير) ج 5 ص 323 و 633 .
- 29. مختصر مفيد . . ( أسئلة و أجوبة في الدين والعقيدة ) ، للسيد جعفر مرتضى العاملي ، « المجموعة الأولى » المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1423 ـ 2002 ، ص 11 ـ 25 .