مقالات

شبهة وردها…

نص الشبهة: 

لماذا نصب الرسول صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين خليفةً بعده ، وهو يعلم أنّ الناس ـ في ذلك الوقت ـ لا يحبّونه ، وسوف يقتلونه ، ويذهب الإسلام؟ ألم يكن من الأفضل أن ينصب صلى الله عليه وآله مَن هو أقلّ علماً أو منزلة من عليّ عليه السلام ، ومَن كان مرغوباً فيه عند الناس ومقبولاً من الاُمّة للحكومة ، ويبقى الإمام علي عليه السلام وزيراً للدولة ومرشداً روحيّاً ترجع إليه الاُمّة في مسائل الدين ، مع إعطائه الصلاحية في تنصيب وعزل الرئيس .

الجواب: 

الجواب عن السؤال الأوّل حول الإمامة :
وهو سؤال عن أمرين :
الأمر الأوّل : عن السبب في تعيين الإمامة في علي عليه السلام .
المفروض في هذا الأمر :
أوّلاً : أنّ الرسول صلى الله عليه وآله هو الذي عيّن عليّاً عليه السلام للإمامة والخلافة من بعده .
وثانياً : أنّ الرسول صلى الله عليه وآله إنّما فعل ذلك مراعاةً لمصلحة الأعلميّة والأفضليّة التي كانت محرزةً في عليّ عليه السلام .
وثالثاً : أنّ المتراءى من الأحداث ، والمتوقّع ممّا كان معلوماً للنبيّ صلى الله عليه وآله أنّ الناس لم يرغبوا في عليّ عليه السلام بل كانوا يرغبون في غيره فلهذا الواقع ، لم يكن من المصلحة بل لم يكن صحيحاً أن يُنصب عليّ عليه السلام لهذا المنصب ، بل الواجب أن يكون وليّاً مرشداً .
والإجابة على هذا السؤال ، يبتني على المناقشة في هذه الفروض ، فنقول :
أما المفروض الأوّل : إنّ الإمامة ـ في المنظار الإمامي ـ ليس إلّا مسؤولية إلهية يضعها اللَّه تعالى حيث يشاء ، تماماً كما هي النبوّة ، واختلافهما إنّما هو في أمر الوحي ، فالنبي هو الذي يوحى إليه والإمام لم يوح إليه مباشرةً . وهذه الدعوى مشروحة في بحث الإمامة من علم الكلام ، وليس للرسول في أمر الإمامة ـ أصلها ولا تحديد الإمام ـ إلّا وظيفة التبليغ والإعلام والإشارة والإشادة ، وإذا كانت الإمامة أصلاً ، ولم تكن حكماً فرعيّاً ، فالمصلحة التي تلحظ فيها لابدّ أن تكون عامّة وكلّية ، ولا ينظر فيها إلى المناسبات والأحداث الخاصّة زمانياً أو مكانياً ، أو لاُناسٍ محدّدين ، ذوي أهداف خاصّة ومزايا معيّنة ، وإنّما تلاحظ فيها المصالح السارية في كلّ عصر ومصر وفي كلّ مجتمع واُمّة . ومن الواضح عقليّاً أنّ الأصلح للإمامة هو الأعلم بالدين ، والأتقى للَّه ، والأخشى في اللَّه ، والأفضل من جميع الجهات الخيّرة ، وإذا لم يخضع الناس لأحكام العقل هذه ، واختاروا من ليس فيه هذه الصفات كلّها أو بعضها ، فليس النقص في جهة الإمام ولا في جهة اللَّه المشرّع والمقرّر .
وبهذا ظهر أنّ المصلحة التي نسبت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله في المفروض الثاني ، إنّما هي مصلحة مفروضة في أصل الإمامة حيث أنّ تولّي المفضول على الفاضل قبيح عقلاً ، وعرفاً وظلمٌ ، ونقضٌ للغرض الذي من أجله شرّعت الإمامة . وليس مجرّد رغبة من الرسول ، حتّى يكون بيده تبديله وتغييره مراعاةً للمصلحة الوقتيّة ورغبة عامّة الناس .
وأمّا المفروض الثالث : ففيه أمران :
الأوّل : أنّ فرض كون الناس ـ في ذلك العهد ـ لم يرغبوا في عليّ عليه السلام ورغبوا في غيره . ليس صحيحاً ، إطلاقاً . بل الأحداث دلّت على أنّ « شرذمة » قد تآمرت وأظهرت أمراً عمّموه بالإرهاب والتظليل ، وعميت على الناس الاُمور ، ولم يتبيّنوا إلّا بعد سيطرة المتآمرين ، وتهديدهم . وإلّا ، فأكثر الناس لم يكونوا يتوقّعون للخلافة غير عليّ عليه السلام وخاصّة من الفضلاء وأصحاب السوابق من الصحابة والأعيان من المسلمين ، سواء أهل المدينة أو خارجها ، لكن السلطة المتآمرة إستخدمت القوّة في مواجهتهم ، كما فعلوا بمالك بن نويرة . فلم يجد الإمام عليّ عليه السلام إلّا المحافظة على الكيان والسكوت عن الحقّ ، فلم يحاولوا الإثارة ، سوى بالكلام لتثبيت الحقّ والمحافظة على أعيان رجاله . ويدلّ على بطلان الفرض المذكور : أنّ عليّاً عليه السلام كان موضع تجليل الناس عامّة ، وباباً لمراجعاتهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله كما هو مسجّل في السيرة ، وكما أنّ الرسول قد بيّن للناس في كلّ موضع ومطلع ومرجع ، ومن خلال الأحاديث والخطب ، مؤكّداً على مرجعية عليّ عليه السلام إلى جانب القرآن الذي لا بديل له ، فكذلك دلّت على أنّ عليّاً عليه السلام لا بديل عنه في الخلافة ، كحديث الثقلين وحديث « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ » و « عليّ مع القرآن » و « حديث الثقلين » وغير ذلك .
الثاني : أنّ الفصل بين الحكم ومنصب المرجعية الدينية ، أمر غير وارد في الإسلام ، والدليل على ذلك هو إدارة الرسولّ صلى الله عليه وآله للحكم في عصره ، حيث كان هو الحاكم الولي للأمر ، وكان الآخرون يصدرون من رأيه وحكمه في الولاية والقضاء وسائر المناصب . فلم يعرف الناس حاكماً إلّا وهو الولي للأمر والقائم بما يلزم لإدارة البلد ، ولم يتصوّروا حاكماً غير ذلك ، ولذلك كان الخلفاء يدّعون لأنفسهم العلم ، ويسعون في إبداء أنفسهم عالمين بكلّ شي‏ء ، ويقومون بالتشريع والتدخّل حتّى في ما لا يعرفون ، ويمنعون غيرهم من الإفتاء بما يخالفهم ، كما فعلوا ـ كلّهم ـ في مسألة ( تدوين السنّة الشريفة ) 1 وكما فعل عمر وعثمان ومعاوية في موارد كثيرة في الفقه 2 . ولو جرى الأمر على هذا لم يبق للإسلام رسم ولا اسم ، ولأنقلبت إلى الجاهلية الاُولى ، لأنّ بني اُميّة سعوا في التدخّل في العقائد أيضاً ، فهم أشاعوا فكرة الجبر ، والتجسيم ، وغير ذلك ممّا هو مخالف للإسلام لكنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي تمكّن بحنكته السياسية ، وبقدرته الإيمانية ، أن يقف أمام ذلك المدّ ، ويخفّف من سرعته ، ويقلب ظهر المجنّ على اُولئك المعتدين الغاصبين المتغلّبين ، فيمنعهم من الوصول إلى أهدافهم التي هي إبادة الإسلام وتحريفه بشكل عميق ، فكان أن فرض نفسه على الخلفاء الاُول حتّى أصبحوا لا يستغنون عن الرجوع إليه ، إلى أن أصدروا تصريحات كبيرة ينّوهون به مثل قول عمر : « لولا علي لهلك عمر » و « لا أبقاني اللَّه لمعضلة ليس لها أبو حسن » وأمثال ذلك . وكذلك إستخدم الإمام اُسلوب الوجود في الساحة ولو على الهوامش ، والتبعية ، لنفسه أو لأقربائه مثل ابن عبّاس ، كي لا تخلو الساحة للأعداء بكلّها ، ومن خلال المراقبة للتصرّفات والمعارضة لها أو تصحيحها أو إظهار بطلانها ، وبيان الحقّ الإسلامي فيها ، ؟؟؟ يؤدّي واجبهم الرسالي والإمامي بالشكل الممكن . حتّى أدّى بالناس إلى معرفة الإمام ووجوب نصبه بالتعيين ولو بعد حين ، كما حصل بعد عثمان . وهكذا قام الأئمّة المعصومون من بعده في مواجهة الخلافة والخلفاء المتتالين ، وفي مقابل الحكّام والأحكام وكذلك أصحابهم وأتباعهم على طول الزمان إلى يومنا هذا . فاستمرار الحقّ وظهوره والإعلان عنه ، إنّما هو كان على أثر الحنكة السياسية التي إستعملها الإمام عليّ‏عليه السلام ونفّذها أولاده وشيعته على طول التاريخ ، وكذلك تضحياتهم وشيعتهم . فلم يكن الناس ليصلوا إلى معرفة الحقّ لولا تلك السياسة الحكيمة ولا تلك التضحيات الكبيرة . ولأنقلبوا كلّهم إلى اُمّة بعيدة عن الحقّ ، كما هو الحال في العامّة اليوم ، ولكان حكّامهم وأئمّتهم وعلماؤهم ، كما هم اليوم ، من دون أن يكون للحقّ ممثّل ينطق عنه ، ولا تراث سجّل فيه ، ولا من يتبعه ، ولا تقوم على اُولئك العامّة ولا على جميع الخلق « حجّة للَّه » قائمة .
فالأمر الثاني من المفروض الثالث باطلٌ ؛ لأنّ منصب الإرشاد لم ينفصل عن الولاية المطلقة التي هي الإمامة ، ولو كان المقصود أن يُعطى عليّ عليه السلام ولاية الدين ، وتترك ولاية الدنيا للخلفاء . وفي هذا :
1 ـ مخالفة لإجماع المسلمين الذين عرّفوا الإمامة : بالولاية العامّة على اُمور الدين والدنيا . ولم يفصل أحد من المسلمين بين اُمور الدين ، واُمور الدنيا ، في كونها بيد الإمام الوالي على الناس ، وهكذا كانت السيرة للخلفاء والحكّام والأئمّة . فطرح هكذا فرض خروج عن مصطلح الإسلام وقوانينه .
2 ـ إنّ هذه المقولة هي من محدثات العلمانية الغربية التي تسرّبت إلى أفكار المنتمين إليهم ، وهدفهم فصل الدين عن السياسة ، وعزل العلماء عن الحياة العملية لتكون الساحة مفسوحة لأصحاب السلطات والحكّام يمرحون ويسرحون بلا معارضة قويّه كالتي يقودها رجال الدين الذين لهم نفوذٌ في الناس . ولذلك نجدهم لا يعطون لرجل الدين حقّاً في أن يكون مثل أي شخص آخر من الاُمّة في تولّي أي منصب سياسي أو يتصدّى لعمل حكومي ، إلّا ويكيلون عليه التّهم والإفتراءات لإخراجه من الساحة . وليس هذا لكونه غير لائق ، بل خوفاً من التزامه الديني الذي يضيّق عليهم خناق التفلّت والإباحية . إنّ الحكّام على الخلافة في فترة ما بعد النبي ، كانوا يعلمون بعدم إمكان الحكم على الاُمّة مع الفصل بين الدين والدنيا ولا يرون لأحد حقّاً عليهم حتّى بعنوان المرشد الديني ، وإذا كان لا يقبلون عليّاً عليه السلام حاكماً فهم لا يقبلونه مرشداً أيضاً .
وإذا كان يقبلونه مرشداً ، فلماذا لا يكون إماماً وحاكماً مطلقاً . إنّ هذا الفرض ، لا يمكن الإلتزام به في المنطق الإسلامي للحكم والدولة حتّى في عصرنا الحاضر ، فضلاً عن ذلك العصر 3 .

  • 1. لقد فصّلنا الحديث عن ذلك في كتاب مستقلّ بهذا العنوان وهو مطبوع .
  • 2. راجع النصّ والإجتهاد للسيّد شرف الدين رحمه الله .
  • 3. هذه الإجابة نُشرت على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي دامت بركاته تحت عنوان : ” الأجوبة الرشيدة عن أسئلة السيدة الرشيدة ” .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى