نص الشبهة:
لقد قام عمر بتحرير المسجد الأقصى ، ثمّ أعاد صلاح الدِّين الأيّوبي تحريره ، فماذا عند الشيعة من تحرير وفتوحات ؟
الجواب:
لكي يكون جوابنا موافقاً لسؤاله ومنسجماً معه نقول : إنّه ذكر شخصين أولهما من السلف ، والآخر من الخلف وهو صلاح الدِّين الأيّوبي . ونحن الشيعة نذكر ما لسلفنا وخلفنا من الجهاد :
أمّا في تاريخ أسلافنا فيكفي أنّ معظم غزوات النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان على عاتق الإمام عليّ ( عليه السلام ) ، وحديث « لا فتى إلاّ عليّ ولا سيف إلاّ ذو الفقار » شاهدٌ على ذلك ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزوة الخندق أنّ ضربة علي أفضل من عبادة الثقلين .
وأمّا في فتح خيبر فقد قال فيه النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لأعطين الراية لرجل يفتح الله على يديه ، كرّارٌ غير فرّار » وذلك بعدما أعطاها لرجلين معروفين رجع كلّ واحد منهما فارّاً خائباً يُجبّن أصحابهَ وأصحابهُ يجبّنونه .
إنّ تاريخ عليّ ( عليه السلام ) الحافل بالبطولات أعظم من أن تتضمّنه هذه السطور ، وعلاوةً على جهاده ضدّ المشركين في حياة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد قام بمواجهة ثلاث فرق أُخرى بعد تسلمه الخلافة وهم الناكثون والقاسطون والمارقون ، وهذه الحروب الثلاثة قد أخبره بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ناهيك عن ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) والتي أعادت الحياة للرسالة المحمّدية بعد أن حاول بنو أُميّة إخمادها وطمسها ـ وهم مثَلَكم الأعلى ـ وقد مارسوا كلّ أنواع الظلم والفساد . فولّدت روح الثورة والثورات المتوالية لدى الشيعة على الطواغيت على مدى التاريخ وقدّمت في ذلك السبيل آلاف الشهداء الأبرار .
هذان نموذجان لجهاد أئمّة الشيعة ، أمّا من جهاد الشيعة أنفسهم فيجدر التذكير بأنّ شيعة عليّ ( عليه السلام ) كانت لهم مشاركة فعّالة في الفتوحات الإسلاميّة ; فاليمنيّون بمختلف قبائلهم أمثال حمدان وكندة . . . كلّهم كانوا شيعة لعليّ ( عليه السلام ) ، وهو نفس السبب الذي جعل فريقاً منهم يهاجر إلى العراق لأجل المشاركة في الفتوحات ، فأبو أيّوب الأنصاري فاتح بلاد الروم وآسيا الصغرى ، هو مضيّف النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما قدِمَ مهاجراً إلى المدينة ، وهو من أخلص شيعة عليّ ، وقبره في مدينة اسطنبول يزوره المسلمون .
وكذلك محمّد بن أبي بكر الابن الروحي للإمام عليّ ( عليه السلام ) ; فقد ذهب إلى مصر بطلب من عليّ ( عليه السلام ) لأجل نشر الإسلام ، وقد استشهد هناك ، ثمّ خلفه مالك الأشتر على ولاية مصر ، إلاّ أنّ معاوية أرسل من يقتله في وسط الطريق فاستُشهد ( رحمه الله ) هناك وقبره يُزار إلى يومنا هذا .
وينبغي التذكير أنّ في عهد الخلفاء لم يكن هناك فصل بين الشيعة والسنّة ، بل كان الجميع يشاركون في الفتوحات الإسلاميّة ، فالفتوحات في زمانهم لا تختصّ بالسنّة وحدهم .
هذا عن السلف ، أمّا عن الخلف فيكفي أن نعلم أنّ المرابطة ( حراسة حدود دولة الإسلام ) التي هي إحدى وظائف المسلمين الكبرى ، كانت في الغالب على عاتق الحكومات الشيعيّة ; فالحمدانيّون في الشام والفاطميّون في شمال إفريقيا والعلويّون في طبرستان والديلمان وجيلان ، كانوا جميعاً حرّاساً أُمناء لحدود الدولة الإسلاميّة ، ناهيك عن الدول الشيعيّة في الهند والتي لعبت دوراً كبيراً في مكافحة الوثنيّة ، واعتماد الدولة الإسلاميّة عليها في هذا المجال يحتاج إلى قراءة تاريخيّة مفصّلة وتمعّن .
وأبرز مثال على تلك المدن « أكبرآباد » الهندية التي كانت مركزاً للمدن الشيعيّة ، والراغبون في الاطّلاع على ما قدّم الشيعة للإسلام من جهاد وتضحيات عليهم مطالعة كتاب « جهاد الشيعة » للسيّدة الدكتورة « سميرة مختار الليثي » طباعة دار الجيل في لبنان .
ومن ألمع صفحات جهاد الشيعة للكفّار حرب الصفويّين في جنوب إيران ضدّ البرتغال ، وحرب الإيرانيّين ضدّ الروس والإنجليز في شمال إيران وجنوبها ، فعندما استعمر البرتغال مدينة « بندر عبّاس » وضعوا لها اسم « جمبرون » قام الشاه عبّاس الصفوي بقوّة إيمان الشيعة باسترجاعها وأعاد لها اسمها « بندر عبّاس » .
وجهاد « نادر شاه » ضدّ الوثنيّين الهنود والتي تعدّ من أعظم البطولات التي سجّلها الشيعة في الجهاد .
وأمّا في التاريخ الحديث وتحديداً في القرن الرابع عشر عندما تمّ استعمار الإنجليز للعراق قامت المرجعيّة الشيعيّة بزعامة آية الله محمّد تقي الشيرازي بتطهير العراق من براثن الاستعمار البريطاني فيما يُعرف بثورة العشرين ( سنة 1920م ) وأعاد بذلك استقلال العراق وحرّيته .
وفي السنوات الأخيرة قام شيعة لبنان بإلحاق ضربة قاسية بإسرائيل تمثّلت في دحر العدوّ الصهيوني الذي وصل إلى مشارف العاصمة بيروت وإرجاعه خائباً خاسئاً ، وذلك ما لم يحدث لإسرائيل في تاريخها مع العرب .
وقد قدّمت الشيعة في لبنان أسمى التضحيات في الحرب الموسومة بحرب الـ 33 يوماً ، في سنة 2006 م حيث أظهرت المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله أروع البطولات ، وألبست الصهاينة ثوب الذلّ الّذي لا مثيل له في تاريخهم ولم يقدم العالم الإسلامي شيئاً في مناصرتهم بل بخل بعض السلفيين ـ من زملاء جامع هذه الأسئلة ـ حتّى بالدعاء لنصرتهم بحجة أنهم شيعة . فالصهاينة عندهم أعز وأفضل ممن يشهد بـ « لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله » ويصلي إلى القبلة ويحجّ بيت الله الحرام .
نحن هنا عرضنا النزر القليل من جهاد الشيعة بشكل موجز ومقتضب ، والحقيقة التي غفل عنها جامع الأسئلة أنّه تصوّر بأنّ الجهاد منحصر في الجهاد العسكري وغفل عن عظمة الجهاد العلمي والثقافي ودورهما البالغ ، ولولا وجود جهاد الفكر والقلم لما كان هناك أثرٌ يُذكر للجهاد في ميادين القتال ، لأنّ جهاد الفكر والقلم هو الصانع للمجاهدين والمستميتين ، فقد نقل أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قوله : « ثلاثة تخرق الحُجب وتنتهي إلى ما بين يديّ الله : صرير أقلام العلماء ، ووطء أقدام المجاهدين ، وصوت مغازل المحصنات » 1 .
وقال أيضاً : « أفضل الجهاد كلمة حقّ عند إمام جائر » .
لقد ذاق علماء الشيعة ألوان القتل والتنكيل على أيدي الحكّام الظالمين بسبب إظهارهم للحقّ ودفاعهم عن الإسلام 2 ، في الوقت الذي كان أصحاب المذاهب والفرق الإسلاميّة الأُخرى تربطهم علاقات حسنة ومتميّزة ـ حبّاً للدُّنيا ـ مع أُولئك الحكّام من الأمويّين والعبّاسيّين وما تلاهم ، وكانوا في منتهى الخدمة والتعاون معهم ، باستثناء القليل منهم الذين يعدّون على أصابع اليد .
وهذه حقيقةٌ ناصعة وهي من مفاخر الشيعة ; إذ أنّهم على طول التاريخ كانوا مناهضين للسلطات الجائرة على عكس السنّة ووعّاظهم .
وعلى كلّ حال فإنّ الشيعة يفتخرون بأنّهم تمكّنوا بجهادهم الفكري والثقافي من نشر الإسلام المحمّدي الأصيل وتعاليم أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين هم عِدل القرآن ، وتنقيته من الأفكار الهدّامة الدخيلة على الإسلام كالوهابيّة والسلفيّة 3 .
- 1. الشهاب في الحكم والآداب : 22 .
- 2. اقرأ في هذا الصدد كتاب « شهداء الفضيلة » ، تأليف العلاّمة الأميني .
- 3. هذه الإجابة نُشرت على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني دامت بركاته .